ذكر بعض الإخوة (حفظهم الله) أنه حَوَّلَ تاريخَ واقعة الطف من تاريخها الهجري القمري إلى التاريخ الميلادي، فتبين أنها تقع في فصل الشتاء، وعليه، فلا يتصور أن يكون الحر شديداً والعطش كذلك، مع أن ما بأيدينا من مرويات ونقولات تؤكد وقوعها في حر وعطش شديدين!
ومثله في ذلك ما ذكر في إحدى المنشورات التخصصية في التحقيق التاريخي باللغة الفارسية من تكذيب المروي متواتراً عن العطش الشديد والحرج الواقع على الإمام الحسين(ع) وأهل بيته وأصحابه. وقد تصدى له جماعةٌ ـ مشكورين ـ بالجواب، إلا أنهم اقتصروا على القرائن التاريخية، وبعض الأخبار المتواترة ـ معنىً أو إجمالاً ـ المفيدة للتعبد بصحة النقل ووقوع الحرج والعطش في تلك الواقعة الأليمة.
أقول وبه نستعين:
قد قمت بمراجعة بعض برامج التحويل التي تعتمد على المعادلات المخصوصة المذكورة في بعض الكتب كالمنجد، فتبين أن كلامه (حفظه الله) غير صحيح؛ فإن العاشر من شهر محرم عام واحد وستين، يعادل اليوم التاسع من الشهر العاشر لعام 680 من الميلاد (9-10-680م)، وهو آخر أشهر الحر في تلك النواحي، رغم كونه خريفاً بحساب الفصول الأربعة، هذا.
أمَّا لو كان حسابنا بحسب ما اشتهر من أن التاريخ الميلادي قد تم اعتبار أربع سنين زيادة على عدده، لكانت واقعة الطف من أحداث سنة 684 لليوم والشهر المذكورين (9-10-684م). لكن هذا التاريخ ـ الميلادي ـ لا يطابق تاريخ الواقعة بحسب التاريخ الهجري القمري؛ لأنها ستكون ـ على هذا ـ في الرابع والعشرين من شهر صفر لسنة خمس وستين للهجرة الشريفة (24- صفر- 65هـ) ـ على مهاجرها وآله آلاف التحية والسلام ـ ولا يمكن قبوله؛ لمعارضتها مع تاريخها القطعي وهو العاشر من محرم الحرام.
إلَّا أنه يمكن ـ مع الاعتماد على هذه الفرضية ـ تصحيح وتطبيق التاريخين، ليتطابق تاريخا الواقعة يوماً وشهراً وسنةً، لا بما ذكرنا أولاً ـ من وقوعها في الشهر العاشر الميلادي من سنة 680م وهو آخر أشهر الحر في تلك النواحي ـ بل بمعونة ما ذكره صاحب كتاب (The Anglo-Saxon Chronicle)، الذي يؤرخ أحداث الأمة الإنجليزية منذ عهد المسيح(ع)، ويذكر ضمنها أحداث سنة 685م، فيقول:
685:(In this year in Britain it rained blood، and milk and butter were turned into blood)[1].
فيكون العاشر من شهر محرم واقعاً في سنة 61 للهجرة الشريفة ـ بعد طرح أربع سنوات من التاريخ الميلادي المذكور في الكتاب حسب ما فرض ـ الموافق للسادس عشر من الشهر الثامن لسنة 685م (16- 8-685م) بعد التحويل وإضافة الناقص من السنوات، وهو أشد أشهر الصيف حرارةً. فحفظنا تاريخ الواقعة المنصوص عليه عندنا، موافقةً لما هو المشهور من زيادة في السنة الميلادية، ومؤيداً لأخبار العطش والحر الشديدين في صيف سنة 61 لهجرة النبي(ص)، وقتل الله من قتلهم، وجعل لنا سبيلاً لنيل مرضاتهم والطلب بثأرهم، مع الحاضر المستور والعلم المشهور، والنور المنشور على شاهق الطور، برهان الخالق وصاحب الحقائق، روحي وأرواح العالمين له ولآله الفداء.
ثمرة أخرى: استحباب إقامة مآتم الحزن بحسب التواريخ الأخر.
وهل تستحب إقامة المآتم في هذا اليوم من السنة الميلادية أو غيرها من السنين والتواريخ المتبعة بين الناس، أو يحرم إقامتها؛ للبدعة والتشريع المحرم، أو هو مباح دون تحريم ولا كراهة؟ وجوه، المتعين منها الأول.
فإن إقامة مجالس البكاء للبكاء على مصابه(ع) لا يخلو عن ثلاث حالات:
1/ إما أن يقترن البكاء عليه(ع) مع نية كونه وارداً بالخصوص في هذا التاريخ، ليلحقه حكمه من الرجحان والاستحباب.
2/ أو يقترن مع نية عموم الرجحان واستحباب البكاء عند مرور ذكراه في أي وقت يرتبط به(ع)، لا كونه منصوصاً بعينه في تاريخ.
3/ أو لا يقترن بأحد الأمرين، بل يقع مطلقاً لم يلحظ فيه الورود أو عدمه.
أمَّا الأول: - وهو إقامة العزاء بنية وروده بالخصوص - فلا شك في كونه إدخالاً في الدين ما ليس له مما هو ثابت.
ويدل عليه الموثق عن الرِّضَا(ع) فِي حَدِيثٍ: (فَعَلَى مِثْلِ الْحُسَيْنِ فَلْيَبْكِ الْبَاكُونَ فَإِنَّ الْبُكَاءَ عَلَيْهِ يَحُطُّ الذُّنُوبَ الْعِظَامَ، ثُمَّ قَالَ(ع): كَانَ أَبِي(ع) إِذَا دَخَلَ شَهْرُ الْمُحَرَّمِ لا يُرَى ضَاحِكاً وَ كَانَتِ الْكَآبَةُ تَغْلِبُ عَلَيْهِ حَتَّى تَمْضِيَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْعَاشِرِ كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ مُصِيبَتِهِ وَحُزْنِهِ وَبُكَائِهِ وَيَقُولُ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ الْحُسَيْنُ(ع)[2]. فإن فعلهم(ع) ظاهر في الرجحان والاستحباب الشرعي، وإن قيل إن فعل المعصوم لا يدل على الوجوب أو الاستحباب في نفسه، إلا أن ظاهر أفعالهم(ع) في خصوص هذه الموارد لا خلاف في كونها ظاهرة في الاستحباب.
وأدل منه ما في كتاب العلل والمجالس والعيون من الموثق بابن فضال عن أبيه عن أبي الحسن الرضا(ع) قال: (مَنْ تَرَكَ السَّعْيَ فِي حَوَائِجِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ قَضَى اللَّهُ لَهُ حَوَائِجَ الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ وَ مَنْ كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمَ مُصِيبَتِهِ وَحُزْنِهِ وَبُكَائِهِ يَجْعَلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمَ فَرَحِهِ وَسُرُورِهِ وَقَرَّتْ بِنَا فِي الْجِنَانِ عَيْنُهُ ومَنْ سَمَّى يَوْمَ عَاشُورَاءَ يَوْمَ بَرَكَةٍ وَادَّخَرَ لِمَنْزِلِهِ فِيهِ شَيْئاً لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيمَا ادَّخَرَ وَحُشِرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ يَزِيدَ وَعُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيَادٍ وَعُمَرَ بْنِ سَعْدٍ لَعَنَهُمُ اللهُ إلى أَسْفَلِ دَرْكٍ مِنَ النَّار).
فإنها صريحة في استحباب جعل يوم عاشوراء يوم مصيبة وحزن وبكاء.
إلَّا أن يقال: أن الاستحباب منصب على تاريخ المصيبة مطلقاً بأي عام شائع التداول، وتخصيصه بيوم عاشوراء من الشهر الهلالي إنما هو لغلبة استعماله بين المتخاطبين في ذلك الزمان، فلا موضوعية له.
وهو غير سالم عن التأمل والرد؛ فإن قضية غلبة استعمال التاريخ الهلالي هو انصراف اللفظ له بالخصوص، بل لم يعهد منهم(ع) التوصية بغيره من التواريخ، مع كثرة أصحابهم وتوزعهم في البلدان والأقطار الكثيرة، مع تعدد تاريخ السنة في كل قطر، وشياع أكثر من تاريخ في بعضها كبلاد فارس والروم.
وأمَّا الثاني: ـ وهو نية عموم الاستحباب عند مرور ذكراه(ع) في أي وقت وزمان وبأي تاريخ كان ـ فلا إشكال يعتريه، بل النصوص عليه واضحة ناصة، وهي كثيرة متواترة، منها الصحيح المروي في قرب الإسناد وثواب الأعمال عن أَبِي عبداللهِ(ع) أَنَّهُ قَالَ لِلْفُضَيْلِ: (تَجْلِسُونَ وَتَتَحَدَّثُونَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: إِنَّ تِلْكَ الْمَجَالِسَ أُحِبُّهَا فَأَحْيُوا أَمْرَنَا فَرَحِمَ اللهُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَنَا، يَا فُضَيْلُ مَنْ ذَكَرَنَا أَوْ ذُكِرْنَا عِنْدَه فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ وَلَوْ مِثْلَ جَنَاحِ الذُّبَابِ غَفَرَ اللهُ ذُنُوبَهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ)[3]. وغيره كثير.
وعليه يصح، بل يرجح ويستحب.
وأمَّا الثالث: - وهو إيقاعه مطلقاً غير ملحوظ، بل مجرداً عن الاقتران بنية التاريخ المرتبط والمنسوب إليه(ع) - فلا إشكال كذلك في رجحانه، وإن كان ثوابه وكماله أقل من سابقه كما لا يخفى، إلا أنه خارج عن محل الكلام.
وجملة القول في أصل المسألة وفرعها:
إن تاريخ واقعة الطف هو العاشر من شهر محرم الحرام لعام 61هـ، والموافق تقريباً للسادس عشر من الشهر الثامن لسنة 685م (16- 8-685م)، وهو أشد أشهر الصيف حرارةً، ولو سلم وقوعه في الشهر العاشر الميلادي، فهو كذلك من الشهور الحارة في تلك النواحي، وكلا الفرضين غير مكذبين لنصوص العطش في كربلاء، هذا أولاً.
وثانياً: إن من المستحب إقامة مآتم الحزن والبكاء على هذه المصيبة العظمى في كل آن وحين، وتزيد رجحاناً عند ارتباط الذكرى أو التاريخ بصاحبها(ع) حتى لو كان بغير الأشهر الهلالية، كما الفرض وهو السادس عشر (متقدماً قليلاً أو متأخراً) من الشهر الثامن من السنة الميلادية الشمسية لكل عام، لكن بغير نية الصدور من الشارع الأقدس. ومن غير الجائز ظاهراً إقامتها بنية كونها ـ أي استحباب إقامتها ـ واردةً في تاريخها المحول من الهلالي إلى الشمسي أو غيره، بل هو تشريعٌ محرم، وعملٌ بخلاف ظاهر الأخبار، ملحقٌ بالابتداع، والله أعلم، وهو الموفق لكل خير والهادي للمختلف فيه بإذنه والحمد لله أولاً وأخيراً.
...............................................
[1] - The Anglo-Saxon Chronicle p35. وفاتنا أن نذكر أن المصادر التاريخية والأخبار عن المعصومين(ع) قد أشارت إلى هذا المعنى، وأنه من خصائص هذا اليوم العظيم، وآثار الفاجعة على التكوين
[2] - الوسائل ج14، ص505، ح19697
[3] - وسائل الشيعة ج14، ص501، ح19691