نادر الملاح
2 محرم 1445 هـ، 21 يوليو 2023
أم كلثوم بنت أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء، وأخت زينب والحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وكانت تسمى أيضاً (زينب الصغرى)، وكانت وأختها العقيلة زينب تسميان (الزينبين) على غرار (الحسنين) عليهم السلام. وُلدت رضوان الله تعالى عليها في السنوات الأخيرة من عمر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وكانت امرأة فاضلة عالمةً ومتكلمة فصيحةً، كما هو شأن أمها وأبيها وأختها وأخويها صلوات الله وسلامه عليهم.
خرجت رضوان الله تعالى عليها في ركب الحسين عليه السلام إلى كربلاء سنة 60 للهجرة، وشهدت أحداث واقعة كربلاء سنة 61 للهجرة، وما قبلها وما بعدها كاملة، حيث كانت من بين السبايا الذين سار بهم عسكر يزيد إلى الكوفة ثم إلى الشام.
بعد استشهاد الحسين عليه السلام وأنصاره رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، كانت أم كلثوم لسان حقٍّ لا يَكِلُّ ولا يَمَل في فضح الظالمين، تُخاطب القومَ في صَلابةٍ واحتساب. ومن جملة مواقفها خطبتها مجلس ابن زياد في الكوفة، حيث قالت مُوبِّخةً من اجتمع من أهل الكوفة للتفرج على سبايا البيت النبوي الشريف (اللهوف في قتلى الطفوف، ابن طاووس، ص91):
"يا أهل الكوفة! سوأةٌ لكم.. ما لَكُم خَذَلتم حُسيناً وقتلتموه، وانتهبتم أموالَهُ وَوَرِثْتُمُوه، وَسَبَيْتُم نِسَاءَه وَنَكبتُمُوه، فتَبًّا لَكُم وسُحقا! وَيلَكُم، أتدرون أَيَّ دَواهٍ دَهَتْكُم، وأَيَّ وِزْرٍ على ظُهُورِكُم حَمَلتُم، وأَيَّ دِمَاءٍ سَفكتموها، وأَيَّ كَرِيمَةٍ أصَبتُموها، وَأَيَّ صِبْيَةٍ سَلَبتموها، وَأَيَّ أمَوالٍ انتهبتموها؟! قتلتم خَيْرَ رِجالاتٍ بَعْدَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونُزِعَت الرحمةُ مِنْ قُلُوبِكم، ألا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الفائزون، وَحِزْبَ الشيطانِ هُمُ الخاسرون."، ثم ارتجزت:
قَتَلْتُمُ أَخي صَبْراً فَــــــــــويلٌ لأمِّكُمُ سَتُجْزَونَ نَاراً حَــــــــرُّهَا يَتَوَقَّدُ
سَفَكتُمْ دِمَاءً حَرَّمَ اللهُ سَــفـْــكَـــــــها وَحَـــرَّمَها القرآنُ ثُمَّ مُـحــمَّــــدُ
ألا فابشروا بالنــَّـارِ إِنَّـــكُـــمْ غَـــداً لَفِي سَقَــرٍ حَـقـًّا يَقينا تخلـــــدوا
وإِنِّي لأبكي فـي حــياتي على أخي على خَيْرِ مَنْ بَعْدَ النبي سَيُولَـدُ
بِدَمْعٍ غَزيــــرٍ، مُسْـتـهـلٍّ مُكَـفْـكَـفٍ على الخَدِّ مِنِّي ذَائِباً ليس يَجـمـدُ
ولمّا بلغ ركب السبايا الشام، دَعَتْ رضوان الله تعالى عليها شمر بن ذي الجوشن لعنه الله، وطلبت منه أن يُدخِل النساءَ من الباب الأقل ازدحاماً بالناس رعايةً للستر والحجاب، وأن يجعل رُؤوس الشهداء بعيداً عن السبايا حتى ينشغل الناس بالنظر إليها ولا ينظرون إلى بنات الرسالة، إلا أن شمراً عمل على خلاف طلبها، وأمر بإدخال السبايا إلى مدينة دمشق من باب الساعات (أعيان الشيعة، ج3 ص485).
وخلال تواجد السبايا في الشام، لم تَتوانَ رضوان الله تعالى عليها عن فضح يزيد وأزلامه، ونشر جرائم الأمويين، غير مُكترثةٍ بزجرٍ ولا بنهيٍ ولا ترهيب من عساكر يزيد عليه وعليهم اللعنة. بل لم تتوقف عن ممارسة هذا الدور الرسالي حتى بعد عودة الركب إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث كانت تُحدِّث الناس بما جرى على الحسين وأصحابه، وما لاقى النساءُ والأطفالُ من فظائع، وتنقلُ لهم المواقف المُشرِّفة التي احتضنتها أرض كربلاء، وسماحةَ أخلاقِ الحسين وأصحابه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. ولاتزال الأبيات التي نظمتها رضوان الله تعالى عليها عند دخول الركب إلى المدينة تتردد على المنابر وقد مضى عليها قرابة الألف عام، إذ أنها ليست مجرد أبياتٍ شعرية، بل توثيقٌ في غاية الأهمية لأحداثٍ تاريخية رام أعداء بيت النبوة طمسها، ووصفٌ دقيقٌ للحالةِ المجتمعية التي كان أهل البيت عليهم السلام يعيشونها بعد استشهاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعددها 38 بيتاً، ومنها (بحار الانوار، ج45 ص198):
مديــنـةُ جَدِّنـــا لا تَـقْـبَـلـيــــــنا فبالحسراتِ والأحزانِ جِــيْنَا
ألا فَاْخـبِــر رسولَ اللهِ عَــــنـَّـا بِأَنَّا قــد فُجِعــنــا في أبـيــنــا
وأَنَّ رِجَالَنَا بالطـــفِ صَرعـى بِلا رُؤوسٍ وَقَد ذَبَحُوا البنينا
وَأَخْبِر جَـــدَّنــــا أَنَّــا أُسِـرنـــا وبَعْدَ الأســـرِ يــا جَدَّا سُـبينا
وَرَهْطُكَ يا رَسولَ اللهِ أَضْحَوا عَرايا بالطفوفِ مُـســلـبــيــنا
وقد ذَبَحُوا الحُسينَ وَلَمْ يُراعوا جَنَابَكَ يا رَسُـولَ اللهِ فِـــيـــنا
فَلو نَظَرَتْ عُيُونُكَ للأُسَـــارَى عَلى قُـتُـبِ الجِمَال مُحـمَّـليـنا
رَسولَ الله بَعْدَ الصَّوْنِ صَارَتْ عُيُونُ النَّاسِ نَاظِـرة إلــيــــنا
وكُـنْـتَ تَحُــوطـُـنا حتى تَوَلَّـتْ عُيُونُك ثــارت الأعدا علـيـنا
وأم كلثوم هي أصغر بنات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام من سيدة نساء العالمين فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي التي زعم البعض أنه عليه السلام قد زوَّجها عمر بن الخطاب، وهو ما أنكره جماعة من علماء الشيعة وفي مقدمتهم الشيخ المفيد رضوان الله تعالى عليه، كما جاء في أجوبة المسائل السروية (ص226، المسألة 15 من أجوبة المسائل الحاجبية، والاختصاص للشيخ المفيد ص151) ، حيث قال: "إنّ الخبر الوارد بتزويج أمير المؤمنين عليه السلام إياها من عمر غير ثابت، وهو من طريق زبير بن بكار، وطريقه معروف لم يكن موثوقاً به في النقل، وكان متهماً فيما يذكره، وكان يبغض أمير المؤمنين عليه السلام، وغير مأمون فيما يدّعيه عنه علي بن هشام، وإنّما نشر الحديث إثباتُ أبي محمّد الحسن بن يحيى صاحب النسب ذلك في كتابه، فظنّ كثيرٌ من الناس أنه حَقٌّ لرواية رجلٍ علوي له، وهو إنّما رواه عن زبير بن بكار". كما ذكر الشيخ آغا بزرك الطهراني عدة كتب أُلفت في الرد على وقوع مثل هذا الزواج. وفنَّد السيد علي الحسيني الميلاني أحاديث هذا الزواج تفنيداً مفصلاً في (رسالة في خبر تزويج أم كلثوم من عمر)، ومن ذلك قوله: "وإنه ليتبين للناظر في تلك الأسانيد أن لا أصل لأصل الخبر فضلاً عن جزئياته ومتعلقاته بالنظر إلى أصول أهل السنة وقواعدهم في علم الحديث، واستناداً إلى كلمات علمائهم في علم الرجال"، وقوله في شأن هذا الحديث: "إنه حديث غير مُخْرَجٍ في شيء من سائر الكتب المعروفة عندهم بالصحاح، فهو حديثٌ مُتفقٌ على تركه بين أرباب الصحاح الستة".
ورغم اختلاف المصادر في وقت وفاتها رضوان الله تعالى عليها، إلا أن كتب التأريخ تُجمع على وفاتها في الشام مع ابنها زيد في وقت واحد، وأن الناس قد صلوا على جثمانيهما معاً، والمُرَجَّحُ أنهما ماتا مسمومين في زمن حكم عبدالملك بن مروان، أي بين عامي 73 و 86 للهجرة كما جاء في المصنف للصنعاني (ج6 ص164). وقد كتب ابن بطوطة في رحلاته (ج1 ص113): " تقع مقبرة أم كلثوم وهي بنت علي بن أبي طالب من فاطمة، قرب مدينة الشام، وعلى بعد فرسخٍ منها"، وقال ياقوت الحموي في معجم البلدان (ج3 ص20): "مقبرة أم كلثوم تقع في منطقة راوية بدمشق".
السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين.
اللهم ثبتنا على ولاية الطاهرين، واهدنا سواء السبيل، وأحسن خواتيم أعمالنا إلى خير ما تحب وترضى، إنك أنت السميع المجيب، وصلي يا رب وسلم وزد وبارك على محمد وآله الطاهرين، وارزقنا في الدنيا ولايتهم، وفي الآخرة شفاعتهم، وتوفنا على هذا العهد برحمتك يا أرحم الراحمين.