أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحمْدُ لِلّه الْعَزيزِ الجبّارِ، الواحِدِ القهَّارِ، الكبَيرِ المُتَعالِ ﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ﴾ أحمَدُه على حُسنِ البلاء، وتظاهرِ النّعماء، وعلى ما أحببنا وكرِهنا من شدّةٍ ورخاء، وأشهدُ أنْ لا إله إلاّ الله وحدَه لا شريك له، وأنّ محمّداً (ص) عبدُه ورسولُه، امتنَّ علينا بنبوّتِه واختصَّه برسالتِه، وأنزلَ عليه وحيَه، واصطفاهُ على جميع خلقِه، وأرسلَه إلى الإنس والجنّ، حين عُبدتِ الأوثان وأُطيعَ الشيطان، وجُحِد الرّحمن، فصلّى الله عليه وآله، وجزاه أفضلَ ما جزى المسلمين.
عِبَادَ اللَّه اتَّقُوا اللَّهَ واسْتَغْفِرُوه، وتُوبُوا إِلَيْه، فَإِنَّه يَقْبَلُ التَّوْبَةَ ويَعْفُو عَنِ السَّيِّئَةِ، ويَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ، وإِيَّاكُمْ وصُحْبَةَ الْعَاصِينَ ومَعُونَةَ الظَّالِمِينَ ومُجَاوَرَةَ الْفَاسِقِينَ، احْذَرُوا فِتْنَتَهُمْ وتَبَاعَدُوا مِنْ سَاحَتِهِمْ، واعْلَمُوا أَنَّه مَنْ خَالَفَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ ودَانَ بِغَيْرِ دِينِ اللَّهِ، واسْتَبَدَّ بِأَمْرِه دُونَ أَمْرِ وَلِيِّ اللَّه كَانَ فِي نَارٍ تَلْتَهِبُ، فاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ، واحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ
أعظم الله أجركم وأحسن عزاءكم بذكرى استشهاد الإمام أبي محمدٍ الحسنِ المجتبى سبطِ رسول الله (ص) وخليفتِه، وحجةِ الله على عباده، والدليل على دينِه، الذي اجتباهُ واصطفاه وعصمَه وطهَّره وجعله فيمَن جعلهم معدِنَ علمِه وخزينةَ سرِّه ومعلماً لدينِه وطريقاً للهداية إلى صراطِه، وفرض طاعتَه ومودَّتَه، فمَن تمسَّكَ بهديه نجا، ومَن تخلَّف عن هديه هوى.
الحسنُ (ع) يستنهضُ الكوفةَ لحربِ الجمل:
أمَّا بعدُ: فإنَّ الحمدَ والثناءَ الذي صدَّرتُ به الخطبة هو من خطابٍ للإمام أبي محمدِ الحسنِ المجتبى (ع) ألقاهُ في جامعِ الكوفةِ لمَّا بعثه أميرُ المؤمنين(ع) إلى أهلِها يستنفرُهم لقتالِ أصحاب الجمل، فقد سارَ أميرُ المؤمنين (ع) من المدينة في جموع المهاجرينَ والأنصار بعد أنْ نكث طلحةُ والزبيرُ بيعتهما له وسارا بمَن معهما من الناكثين إلى البصرة، وأخرجوا عاملَ أمير المؤمنين (ع) منها وهو الصحابيُّ الجليل عثمانُ بن حنيف بعد أنْ نقضوا الهدنة التي أبرموها معه، وبعد أنْ نتفوا لحيته وأوقذوا جسدَه من الضرب والتنكيل، وقتلوا رجالَه، واقتحموا بيتَ مال المسلمين، ونهبوا ما فيه، وعقدوا العزمَ على منابذة عليٍّ (ع) بالحرب، فحينَ بلغ أميرَ المؤمنين (ع) نكثُهم واستيلاؤهم على مدينة البصرة استنهضَ المهاجرينَ والأنصار وسار بهم إلى العراق، فلمَّا بلغ منطقة ذي قار نزل هناك بمَن معه وأرسل الإمامَ الحسنَ (ع) وعمارَ بنَ ياسر وقيسَ بنَ سعد بن عبادة إلى الكوفة يستنهضُهم لينضمُّوا إلى جيشِ المسلمين لقتال الناكثين، وذلك لأنَّ أبا موسى الأشعري والذي كان والياً على الكوفة منذُ عهدِ عثمان كان يُخذِّلُ الناس عن أمير المؤمنين (ع) ويزعمُ أنَّ هذه هي الفتنة التي قال رسولُ الله (ص) أنَّ القاعدَ فيها خيرٌ من القائم، والماشي فيها خيرٌ من الراكب، وكان من أثر تخذيلِه أنْ امتنع الكثيرُ من أهلِ الكوفة من الانضمام إلى جيشِ أميرِ المؤمنين (ع) ولهذا بعث إليهم الحسنَ (ع) وعماراً وقيساً لاستنهاضِهم وتعبئتِهم، فكانَ فيما ورد في خطبتِه بعد الحمد والثناء على الله تعالى والصلاة على النبيِّ الكريم (ص) أنَّه قال:
"أمّا بعد: فإنّي لا أقولُ لكم إلاّ ما تعرفون، إنّ أميرَ المؤمنين عليَّ بن أبي طالب -أرشدَ اللهُ أمرَه، وأعزّ نصرَه بعثني إليكم يدعوكم إلى الصّواب، وإلى العمل بالكتاب، والجهادِ في سبيل الله، وإنْ كان في عاجلِ ذلك ما تكرهون، فإنّ في آجلِه ما تُحبُّونَ إنْ شاء الله. ولقد علمتُم أنّ عليّاً صلّى مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحدَه، وإنّه يوم صدَّق به لفي عاشرةٍ من سنّه، ثمّ شهِد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) جميعَ مشاهدِه. وكان مِن اجتهاده في مرضاةِ الله وطاعة رسولِه(ص) وآثارِه الحسنةِ في الإسلام ما قد بلَغكم، ولم يزلْ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) راضياً عنه، حتّى غمّضه بيده وغسّله وحده، والملائكةُ أعوانه... ولقد تداكّ النّاسُ عليه تداكّ الإبل الهيم عند ورودها، فبايعوه طائعين، ثمّ نكثَ منهم ناكثون بلا حدثٍ أحدَثه، ولا خلافٍ أتاه، حسداً له وبغياً عليه. فعليكم عبادَ الله بتقوى الله وطاعته، والجدِّ والصبر والاستعانةِ بالله والخُفوفَ إلى ما دعاكم إليه أميرُ المؤمنين. عَصَمنا الله وإيّاكم بما عصَم به أولياءَه وأهلَ طاعته، وألهمَنا وإيّاكم تقواه، وأعاننا وإيّاكم على جهادِ أعدائِه. وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم"[1].
وقال (ع) في مشهدٍ آخر: "أيُّها الناس إنَّا جئنا ندعوكم إلى اللّهِ وكتابِه وسنّةِ رسولِه (ص) وإلى أفقه مَن تفقَّه من المسلمين، وأعدلِ من تُعدِّلون، وأفضلِ من تُفضِّلون، وأوفى من تُبايعون، من لم يعبْه القرآن ولم تُجهِّلْه السنَّة، ولم تقعدْ به السابقة، ندعوكم إلى مَن قرَّبه اللّهُ ورسوله (ص) قرابتين قرابةَ الدين وقرابةَ الرحم، إلى مَن سبق الناس إلى كلِّ مأثرة، إلى مَن كفى اللّهُ به رسولَه والناسُ متخاذلون، فقرَّب منه وهم متباعدون، وصلَّى معه وهم مشركون، وقاتل معه وهم منهزمون، وبارز معه وهم مُحجِمون، وصدَّقه وهم يُكذِّبون، وهو سائلكم النصرَ ويدعوكم إلى الحقِّ ويأمركم بالمسير إليه لتؤازروه وتنصروه على قومٍ نكثوا ببيعتِه، وقتلوا أهلَ الصلاح من أصحابِه، ومثَّلوا بعمَّاله، ونهبوا بيتَ ماله فاشخصوا إليه رحمَكم اللّه"[2].
ثم إنَّ الإمامَ الحسن (ع) ومعَه عمار التقى أبا موسى الأشعري فقال له الحسن (عليه السلام): لم ثبَّطتَ القوم عنّا فوالله ما أردنا إلاّ الإصلاح ثم قال له: اعتزل عملنا. ووقعت ثمة خطوبٌ وأحداث. وتمخَّض عن استنهاض الإمام الحسن (ع) لأهل الكوفة أنْ نهضَ معه ما يقربُ من اثني عشر ألفَ مقاتلٍ فسارَ بهم إلى ذي قار فانضمُّوا إلى جيش أمير المؤمنين(ع)[3].
التفنيدُ لفِرية أنَّ الحسنَ (ع) لم يكن يرتضي سياسةَ أبيه (ع):
وإنَّما استعرضتُ هذا الحدث الذي يسهلُ التثبُّتُ من وقوعِه، لأنَّه يكفي لتفنيد ما زعمَه بعضُ الكتاب من دعوى أنَّ الإمام الحسن (ع) لم يكن ميلُه مع أبيه أمير المؤمنين (ع) ولم يكن يرتضي سياسته ولم يكن يرى له أنْ يخوضَ الحروبَ التي خاضها، وأنَّه وإنْ كان قد شهِد حروبَ أبيه الثلاث إلا أنَّه لم يُشاركْ في شيءٍ منها، فإنَّ هذا الحدث الذي استعرضناه -ومثلُه كثير- يكفي للوقوفِ على فساد هذه الدعوى، وأنَّها من الإرجاف المستهجَن الذي لا يليقُ بمَن يدَّعي لنفسه الموضوعيَّةَ والإنصاف، فلم يكن الحسنُ (ع) ملازماً لأميرِ المؤمنين (ع) في مختلف أحواله وحسب بل كان المعتمدَ في استنهاضِ وتعبئةِ المسلمين لمؤازرة أميرِ المؤمنين(ع) في مشروعِه الإصلاحي، وقد لاحظتم أنَّه نسبَ هذا المشروعَ لنفسِه حين وبَّخ أبا موسى الأشعري وقرَّعه على تثبيطه لأهل الكوفة، وقال له: ما أردنا إلا الإصلاح، ثم عزله عن الولاية التي كانت له على الكوفة.
فمشروعُ أمير المؤمنين (ع) هو مشروعُه، وقد وصفَ ما يدعو إليه أميرُ المؤمنين بالحقِّ وبالصواب، ووصفَ قتالَ الناكثين في خطابِه بالجهاد في سبيل الله تعالى، وأنَّه من مقتضيات العملِ بكتاب الله تعالى ثم تحدَّث عن عمقِ علاقة أمير المؤمنين برسول الله (ص) وعظيمِ بلائه في تشييد بُنى الإسلام وأنَّه لم يسبقه في ذلك أحد، ولا يُضارعُه في مآثره من أحد، ثم أفاد (ع) أنَّ دعوة أمير المؤمنين إلى قتال الناكثين هي مِن الدعوة إلى كتاب الله وسنَّة رسولِه (ص) ثم أخذ يشرحُ للناس ما دفعَ أميرَ المؤمنين (ع) لاتخاذ قرارِ الحرب على الناكثين، فأفادَ فيما أفاد إنَّ هؤلاء نكثوا بيعتَه، وقتلوا أهل الصلاح من أصحابه، ومثَّلوا بعمَّاله، ونهبوا بيتَ مال المسلمين.
فأين هي دعوى أنَّ هوى أبي محمد الحسن (ع) على خلاف هوى أبيه أمير المؤمنين ورؤيته مباينة لرؤيته؟!
إنَّ هذه الدعوى تستندُ إلى أخبار شاذَّةٍ لم يحفلْ بها المسلمونَ لوهنِ سندِها ولكونِها منافيةً لحقائقِ التأريخ، ولا يشكُّ من وقفَ عليها في أنَّها من مفترياتِ الجهاز الأُموي الذي ما فتئ يمكرُ ويفجرُ، ويختلقُ الأخبارَ يُنفِّسُ بها عن أضغانِه، ويسترُ بها سوءاتِه، ويسعى بها لتحسين ما قبُح من بغيه على إمام زمانه، وينتصرُ بها لسياسته الراميةِ إلى طمس معالمِ الدين والتنقُّصِ من روَّاده.
الحسنُ (ع) يستنهضُ المسلمين لحربِ البغاة:
وكيف كان فإنَّ ذات الموقفِ الذي اتَّخذه الإمام الحسن (ع) في الحرب على الناكثين قد اتَّخذه في الحرب على القاسطين من أهل الشام، فكان هو أحدَ القادة الذين كان لهم السهمُ الأوفر في التعبئة لحربِ البغاة من أهل الشام في صفين فقد أُثر عنه أنَّه قام خطيباً في الناس فقال:
"الحمد لله الذي لا إله غيره، وحده لا شريك له، وأثنى عليه بما هو أهله. ثم قال: إنَّ ممَّا عظَّم اللهُ عليكم من حقِّه، وأسبغ عليكم من نعمِه ما لا يُحصى ذكرُه، ولا يؤدَّى شكرُه، ولا يبلغُه صفةٌ ولا قول. ونحن إنَّما غضبنا لله ولكم، فإنَّه منَّ علينا بما هو أهلُه أنْ نشكر فيه آلاءَه وبلاءَه ونعماءَه قولاً يصعدُ إلى الله فيه الرضا، وتنتشر فيه عارفةُ الصدق، يُصدِّق اللهُ فيه قولَنا، ونستوجبُ فيه المزيدَ من ربِّنا، قولاً يزيدُ ولا يبيد، فإنَّه لم يجتمعْ قومٌ قطُّ على أمرٍ واحد إلا اشتدَّ أمرُهم، واستحكمتْ عُقدتهم. فاحتشدوا في قتال عدوكم: .. وجنودِه، فإنَّه قد حضر. ولا تَخاذلوا، فإنَّ الخذلان يقطعُ نياطَ القلوب، وإنَّ الإقدام على الأسنَّة نجدةٌ وعصمة، لأنَّه لم يمتنعْ قومٌ قطُّ إلا رفعَ اللهُ عنهم العلَّة، وكفاهم جوائح الذلَّة، وهداهم إلى معالم الملَّة"[4].
مشاركة الحسنِ في حرب الناكثين والقاسطين:
وأمَّا مشاركته (ع) في الحروب الثلاث فهو ممَّا لا يسعُ من أحدٍ إنكاره، فقد وثَّق المؤرِّخون أنَّ أمير المؤمنين زحف يوم البصرة بنفسِه في كتيبتِه الخضراء التي كانت تضمُّ عامَّة المهاجرينَ والأنصار وبين يديه بنوه الحسنُ والحسينُ ومحمدُ ابنُ الحنفية يعني أنَّ الحسنَ (ع) كان في طليعة الصفوف الأماميَّة التي قاتلت الناكثين يوم الجمل، وقد أبلى بلاءً عظيما شهِد له بذلك مَن حضر من الصحابة، وكان أميرُ المؤمنين (ع) أعطى الرايةَ لمحمد ابن الحنفيَّة وقال له: "تَزُولُ الْجِبَالُ ولَا تَزُلْ، عَضَّ عَلَى نَاجِذِكَ، أَعِرِ اللَّه جُمْجُمَتَكَ، تِدْ فِي الأَرْضِ قَدَمَكَ، ارْمِ بِبَصَرِكَ أَقْصَى الْقَوْمِ، وغُضَّ بَصَرَكَ، واعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللَّه سُبْحَانَه" فتقدَّم محمدُ بن الحنفية فرشقته السهام كشآبيبِ المطر فتلكأ ريثما تنفدُ السهام فلحِقَه أميرُ المؤمنين (ع) وقال له تقدَّم، فقال: لا أجدُ متقدَّماً إلا على سهمٍ أو سنان، وإنِّي منتظِرٌ نفاد سهامِهم وأحملُ، فقال له: احمِل بين الأسنَّة، فإنَّ للموت عليك جُنَّة، فحملَ محمد، فشكَّ بين الرماحِ والنشاب فوقفَ، فأتاه عليٌّ (ع) فضربَه بقائم سيفِه، وقال: أدرككَ عِرْقٌ من أمِّك، وأخذ الرايةَ وحمل، وحمل الناسُ معه، فما كان القومُ إلا كرَمادٍ اشتدت به الريحُ في يوم عاصف، وأطافت بنو ضبَّة بالجمل واحتشدوا حولَه، فأعطى أميرُ المؤمنين(ع) رمحَه لمحمَّد وقال له: "اقصد بهذا الرمح قصد الجمل، فذهبَ فمنعَه بنو ضبَّة، فلم يتهيأ له الوصولُ إلى الجمل، فأخذ الحسنُ بن عليٍّ (ع) الرمحَ من يدِِ أخيه فصار يشتدُّ غيرَ عابئ ولا مكترثٍ يقتحمُ غمارَ العساكرِ المتوثِّبة، ويخترقُ الصفوف المحتشدة والمتحلِّقة حولَ الجمل إلى أنْ تمكَّن من الوصول إليه، وطعَنه بالرمح ثم عاد وقد اصطبغ الرمحُ بالدم فتمعَّرَ وجهُ محمدٍ من ذلك، فقال أميرُ المؤمنين(ع) لمحمد: لا تأنفْ فإنَّه ابنُ النبيِّ (ص) وأنت ابنُ عليٍّ[5].
وحين عبَّأ الإمامُ عليٌّ (ع) جيش المسلمين لحرب البغاة في صفين جعل الحسنَ والحسينَ وعبدَ الله بن جعفر ومسلمَ بن عقيل[6] على ميمنةِ الجيش يتعاقبونَ عليها.
وقد شهدت أيامُ صفين الحسنَ(ع) وهو يشتدُّ في قتال أهلِ الشام ويُبادر إلى النِزال، فكان أميرُ المؤمنين (ع) يقول لمن حوله -كما في نهج البلاغة-: "امْلِكُوا عَنِّي هَذَا الْغُلَامَ لَا يَهُدَّنِي -فَإِنَّنِي أَنْفَسُ بِهَذَيْنِ يَعْنِي الْحَسَنَ والْحُسَيْنَ (ع)- عَلَى الْمَوْتِ لِئَلَّا يَنْقَطِعَ بِهِمَا نَسْلُ رَسُولِ اللَّه (ص)[7].
وكان من كلامه في يوم صفين - كما في شرح النهج: أملكوا عنى هذين الفتيين -يعني الحسنَ والحسين-، أخافُ أنْ ينقطعَ بهما نسلُ رسولِ الله صلَّى الله عليه وآله[8].
وفي الأخبار الطوال للدينوري يؤرِّخ لبعض أيام صقين قال:" .. فحثَّ علي (ع) فرسه نحو ميسرته، وهم وقوف يقاتلون مَن بإزائهم من أهل الشام، وكانوا ربيعة، قال: زيد بن وهب: فَإِنّي لَأَنظُرُ إلى عَلِيٍّ (ع) وهُوَ يَمُرُّ نَحوَ رَبيعَةَ، ومَعَهُ بَنوهُ: الحَسَنُ وَالحُسَينُ عليهما السّلام ومُحَمَّدٌ، وإنَّ النَّبلَ لَيَمُرُّ بَينَ اذُنَيهِ وعاتِقِهِ، وبَنوهُ يَقونَهُ بِأَنفُسِهِم[9].
فدعوى أنَّ الإمام الحسن (ع) لم يُشارك في شيءٍ من حروب أمير المؤمنين (ع) أوهي من أنْ تستحقَّ من الجواب أكثرُ ممَّا ذكرناه.
الإمام الحسنُ يؤبِّنُ أمير المؤمنين (ع):
أختمُ الحديثَ بنقل ما أوردتْه المسانيدُ كمُسند أحمد، والمصنفِ لابن أبي شيبة، والسُننِ الكبرى للنسائي، ومسندِ البزار، وأبي يعلى، والطبراني في المعجم الكبير وغيرها بطرقٍ مختلفة وشيءٍ من التفاوتٍ في الألفاظ عن أبي الطفيل وغيره قال- لما قُبض أمير المؤمنين(ع)-: خطبنا الحسنُ بنُ علي بن أبي طالب، فحمد الله وأثنى عليه وذكر أميرَ المؤمنين عليَّا (ع) خاتمَ الأوصياء ووصيَّ خاتمِ الأنبياء وأمينَ الصدِّيقينَ والشهداء ثم قال: يا أيُّها الناس لقد فارقكم رجلٌ ما سبقه الأولونَ- يعني من لدُن آدم- ولا يُدركُه الآخرونَ- يعني إلى قيام الساعة- لقد كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يُعطيه الرايةَ، فإذا حمَّ الوغى قاتلََ جبرئيلُ عن يمينِه وميكائيلُ عن يسارِه، فما يرجعُ حتى يفتحَ اللهُ عليه، ولقد قبضَه اللهُ في الليلة التي قُبض فيها وصيُّ موسى وعُرجَ بروحِه في الليلة التي عُرج فيها بروحِ عيسى بن مريم، وفى الليلة التي أنزل اللهُ عزَّ وجلَّ فيها الفرقان، واللهِ ما ترك ذهباً ولا فضةً، وما في بيت مالِه إلا سبعُمائةِ درهما فضلت من عطائه .."[10].
تلك هي رؤيةُ الإمام الحسن (ع) في أميرِ المؤمنينَ (ع) وليس ما يزعمُه المُرجِفون.
اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمد، واغفرْ لعبادِك المؤمنين
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ / وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا / فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾[11].
والحمد لله ربِّ العالمين
خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور
8 من شهر صفر 1445هـ - الموافق 25 اغسطس 2023م
جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز
...........................................................
[1] - شرح نهج البلاغة -ابن أبي الحديد- ج14 / ص13، بحار الأنوار -المجلسي- ج32 / ص88.
[2] - شرح نهج البلاغة -ابن أبي الحديد- ج 14 / ص11، بحار الأنوار -المجلسي-87، 88.
[3] - تاريخ الطبري ج3 / ص497، الكامل في التاريخ ج3 / ص228، الغارات -إبراهيم الثقفي الكوفي- ج2 / ص919، شرح نهج البلاغة -ابن أبي الحديد- ج14 / ص21.
[4] - لاحظ: وقعة صفين -ابن مزاحم المنقري- ص114، شرح نهج البلاغة -ابن أبي الحديد- ج3 / ص185.
[5] - لاحظ: مناقب آل أبي طالب -ابن شهراشوب- ج3 / ص185، مروج الذهب -المسعودي- ج2 / ص366، شرح نهج البلاغة -ابن أبي الحديد- ج1 / ص243.
[6] - مناقب آل أب طالب -ابن شهراشوب- ج2 / ص352، الفتوح - ابن أعثم الكوفي- ج3/ 24، بحار الأنوار -المجلسي- ج32 / ص573.
[7] - نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ص 323.
[8] - شرح نهج البلاغة -ابن أبي الحديد- ج1 / ص244.
[9] - الأخبار الطوال- ابن قتيبة الدينوري- ص182، تاريخ الطبري- الطبري- ج4/ 13، تجارب الأمم - ابن مسكويه- ج1/ 524 ، الكامل في التاريخ - ابن الأثير - ج2/ 649، شرح نهج البلاغة -ابن أبي الحديد-ج5/ 198
[10] - مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج1 / ص199، السنن الكبرى -النسائي-ج5 / ص112، المستدرك على الصحيحين -الحاكم النيسابوري- ج3 / ص172، المصنف -ابن أبي شيبة- ج7 / ص499، خصائص أمير المؤمنين -النسائي- ص61، صحيح ابن حبان -ابن حبان- ج15 / ص383، المعجم الأوسط -الطبراني- ج2 / ص336، المعجم الكبير -الطبراني- ج3 / ص79، تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج42 / ص578، مروج الذهب -المسعودي- ج2 / ص414، مجمع الزوائد -الهيثمي- ج9 / ص146، الطبقات الكبرى -ابن سعد- ج3 / ص38، ذخائر العقبى -أحمد بن عبد الله الطبري- ص138.
[11] - سورة النصر: 1، 3.