بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم سيدنا ورحمة الله وبركاته
لقد تكرّر من بعض الخطباء القول بكراهة المكوث في كربلاء للزيارة أكثر من ثلاثة أيام، والحال أننا نجد الحملات تبقى في كربلاء أكثر من ذلك، كما رأينا العلماء أيضاً، فهل يُكره ذلك؟
الاجابة:
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم سيدنا ورحمة الله وبركاته
والصلاة والسلام على أشرف خلقه، محمد وآله الطاهرين.
إن القول بكراهة البقاء في كربلاء للزيارة أكثر من ثلاثة أيام لم أجد عليه دليلاً ينصّ على هذا التحديد، فإن كان القائل ينقل فتوى مجتهد ما، فعليه أن يُصرّح بذلك ليعلم الناس تكليفهم الشرعي، وإن كان قد استفاده من النصوص الواردة عن أهل البيت (ع) فلم نجد نصّاً واحداً ينهى عن البقاء في كربلاء أكثر من ثلاثة أيام، فإن وجدوا ذلك نأمل منهم أن يذكروه.
لعلّهم نظروا عند القول بذلك إلى بعض الروايات التي تقول (زره وانصرف) أو (لا أحب أن تجعله مبيتك) أو (ولا تتخذه وطناً)، وهذه الروايات لا يوجد فيها تحديد للأيام، فإن استفادوا منها ما قالوه، فإن الأولى أن يقولوا بكراهة البقاء بعد الزيارة مطلقاً، ولو كانت الزيارة مقدار ربع ساعة مثلاً فيكره البقاء بعدها، وهذا مخالف لأصول الشريعة وصريح الروايات الشريفة.
ولأن هذا الفهم يُعد غريباً، نجد أن الحر العاملي يقول تعليقاً على تلك الروايات، فيما معناه أن الرّوايات دلّت على استحباب السُكنى في كربلاء، وهذا النهي يُحمل على احتمالات أخرى كأن يكون للتقية في والأوقات العصيبة التي مرّت على قبر الإمام الحسين(ع)، أو يُحمل على خصوص القبر الشريف بأن ينصرف عنه، ونفس التوجيه قاله العلامة المجلسي في البحار، والمامقاني والعلامة الأميني حملوه على بعض وجوه التوطّن كأن يقيم في كربلاء وهو مرتكب للذنوب مما يخالف التعظيم.
وما ذلك إلا لوجود الروايات التي تحثّ على الإقامة في كربلاء وتشجّع على طول المكث فيها، فإنه لا يُفهم الحكم من رواية واحدة بل لابد أن يُنظر إلى مجموع الروايات في سياق الأصول والثوابت الدينية، ولكي نبتعد عن الفهم الحشوي والقشري لبعض الروايات لابد من النظر الإجمالي لذلك.
ويمكن الاستدلال بالكثير من الأدلة، ولكننا نختصر في ذلك ونقول:
1/ الأصل أن كربلاء موضع قبر الإمام الحسين (ع)، وهي أرض مباركة، والقرآن الكريم يحث على أن يأمل الإنسان أن يكون في الأرض المباركة وأن تكون منزلاً له، حيث قال على لسان نبي الله نوح: {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ}[1].
وتصديقاً لذلك جاء في مزار المفيد في الدعاء في الزيارة عند الإمام الحسين (ع): "بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وآله الطاهرين. اللهم أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين". المزار للمفيد، ص101
2/ والأصل القرآني الآخر يدعو الإنسان المؤمن أن يكون مرتبطاً بالأعمال الصالحة، حيث قال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (سورة الإسراء 9)
فيكون البقاء عنده وكثرة زيارته لأيام طويلة هو من الإكثار من العمل الصالح، وقد دلّت الرواية على ذلك.
عن جعفر بن محمد (ع) أنّه سُئل عن زيارة أبي عبد الله الحسين (ع)، فقيل: هل في ذلك وقت أفضل من وقت؟
فقال: زُورُوهُ (ص) فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَفِي كُلِّ حِينٍ، فَإِنَّ زِيَارَتَهُ (ع) خَيْرُ مَوْضُوعٍ، فَمَنْ أَكْثَرَ مِنْهَا فَقَدِ اسْتَكْثَرَ مِنَ الْخَيْرِ، وَمَنْ قَلَّلَ، قُلِّلَ لَهُ، وَتَحَرَّوْا بِزِيَارَتِكُمُ الْأَوْقَاتَ الشَّرِيفَةَ، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ فِيهَا مُضَاعَفَةٌ، وَهِيَ أَوْقَاتُ مَهْبِطِ الْمَلَائِكَةِ لِزِيَارَتِهِ[2].
3/ إن مشهد الإمام الحسين (ع) هو من البيوت التي أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه ويُسبّح له فيها بالغدو والآصال كما في الآية: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}[3].
والآيات القرآنية تدعو الإنسان أن يكون دائم الذكر متصلاً بالتسبيح معظّماً لحرمات الله تعالى، وكلّما استطاع إلى ذلك سبيلاً فهو خير له، فكان الاتصال بقبر الإمام الحسين (ع) هو اتصال بذلك التعظم والذكر والتسبيح، وكلّما أكثر كان عند الله أقرب.
4/ لقد دلّت الروايات أن من دوافع ومنطلقات زيارة الإمام الحسين (ع) هو تجديد العهد بالإمامة، ولا شك أن هذا التجديد يزداد فضلاً كلّما ازداد، فلو بقي الزائر أياماً كثيرة كان محظوظاً في ذلك العهد.
ولذا ورد في الرواية عن الإمام الصادق (ع) في ذلك، وجاء فيها: "فَاجْتَهِدْ يَايَحْيَى أَنْ لَا تُفْقَدَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْطِنِ"[4].
ولا شك أن المفارق لقبر الإمام الحسين (ع) هو مفقود عن ذلك الموطن، ولذا جُعلت الزيارات البديلة عن بُعد وغيرها من المعوّضات عن ذلك.
5/ لقد دلّت الرّوايات العديدة المتوافقة مع هذه الأصول على الحثّ على كثرة البقاء في الزيارة والبقاء في كربلاء، بطرق مختلفة، فمنها المباشر ومنها غير المباشر.
ونذكر بعضها مما ينفع في المقام:
أ/ إن كل يوم يقضيه الزائر في كربلاء يُعدّ بألف شهر.
عن هِشَامُ بْنُ سَالِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ قَالَ: أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ... : فَمَا لِمَنْ أَقَامَ عِنْدَهُ؟ قَالَ: كُلُّ يَوْمٍ بِأَلْفِ شَهْرٍ.[5]
ب/ أن جوار الإمام الحسين (ع) عن كل يوم خير من عبادة سبعين يوماً.
عن مولانا الرضا (ع)، قال: جوار أمير المؤمنين صلوات الله عليه يوماً خير من عبادة سبعمائة عام، وعند الحسين (ع) سبعين عاماً[6].
ج/ أن كل مبيت عند الإمام الحسين (ع) يعدل عبادة سبعين عاماً.
عن الإمام الصادق (ع): المبيت عند علي (ع) يعدل عبادة سبعمائة عام، وعند الحسين (ع) سبعين عاماً[7].
د/ لو يعلم الزائر ما أعد ّالله له لأقام طول عمره عند الإمام الحسين (ع).
عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (ع) فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ: فَإِذَا انْقَلَبْتَ مِنْ عِنْدِ قَبْرِ الْحُسَيْنِ (ع) نَادَاكَ مُنَادٍ لَوْ سَمِعْتَ مَقَالَتَهُ لَأَقَمْتَ عُمُرَكَ عِنْدَ قَبْرِ الْحُسَيْنِ (ع) وهُوَ يَقُولُ طُوبَى لَكَ أَيُّهَا الْعَبْدُ قَدْ غَنِمْتَ وسَلِمْتَ قَدْ غُفِرَ لَكَ مَا سَلَفَ فَاسْتَأْنِفِ الْعَمَل[8].
وفي بعضها يتمنّى أن يكون قبره فيها، وقال الشيخ جعفر التستري في الخصائص الحسينية: " أي تبلغ حسرته يوم القيامة الى درجة: انه يقول: يا ليتني كنت مقيماً عند قبره فأزوره حتى يدركني الموت"[9].
هـ/ زره ما شئت من عدد الأيام.
عَنِ الْعِيصِ بْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (ع)، هَلْ لِزِيَارَةِ الْقَبْرِ صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ؟ قَالَ: لَيْسَ لَهُ صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ. [شَيْءٌ مَفْرُوضٌ]. قَالَ: وَسَأَلْتُهُ فِي كَمْ يَوْمٍ يُزَارُ؟ قَالَ مَا شِئْتَ[10].
و/ لأحبّ أن تكون داره عند قبر الحسين (ع)
ففي رواية عن الإمام الصادق (ع) جاء فيها: "وَلَوْ يَعْلَمُ زَائِرُ الْحُسَيْنِ (ع) مَا يَدْخُلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَمَا يَصِلُ إِلَيْهِ مِنَ الْفَرَحِ وَإِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِلَى فَاطِمَةَ وَالْأَئِمَّةِ وَالشُّهَدَاءِ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ، وَمَا يَنْقَلِبُ بِهِ مِنْ دُعَائِهِمْ لَهُ وَمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الثَّوَابِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ وَالْمَذْخُورِ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ مَا ثَمَّ دَارَهُ مَا بَقِيَ".
ز/ فضل الاعتكاف عشرة أيام من العشر الأواخر في شهر رمضان.
عن الإمام الرضا (ع) في حديث.."وَمَنْ زَارَ الْحُسَيْنَ (ع) يَعْتَكِفُ عِنْدَهُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ [الْغَوَابِرَ] مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَكَأَنَّمَا اعْتَكَفَ عِنْدَ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ النَّبِيِّ (ص)، وَمَنِ اعْتَكَفَ عِنْدَ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ (ص) كَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ لَهُ مِنْ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ بَعْدَ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ".
ح/ لو كنت قريباً منه ما أخطتني صلاة فيه.
عن عيينة بيّاع القصب، عن جَعْفَر بْنِ مُحَمّد، قَال: جَاءَ رَجُلٌ إلَى أَبي جَعْفَر، فَذَاكَره قَبْرَ الحُسَيْنِ فَقَال: أَمَا تَأتُونَه؟ قَالَ: بَلَى، إِنّا نَأتِيه فِي السّنةِ مَرّة. فَقَال: مَا أَجْفَاكم يا أَهل الكُوفة، لَو كُنتُ بِمنزِلتِكم، مَا أخطَتني فيه صَلاة[11].
ط/ كربلاء هي معقل الشيعة.
وهو ما رواه العلامة المجلسي في البحار عن الإمام الحسين (ع) في حواره مع الجن، حيث قال في ضمنه: وَمَنْ ذَا يَكُونُ سَاكِنَ حُفْرَتِي بِكَرْبَلَاءَ وَقَدِ اخْتَارَهَا اللَّهُ يَوْمَ دَحَا الْأَرْضَ، وَجَعَلَهَا مَعْقِلًا لِشِيعَتِنَا، وَيَكُونُ لَهُمْ أَمَاناً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ[12].
وهناك الكثير من الروايات غير المباشرة التي تدلّ على فضل البقاء في كربلاء والمبيت فيها ما شاء من أيام.
وأما ما ورد من النهي، فإن بعضه محمول على التقية في الأوقات التي كانت يلاحق فيها الشيعة، ولم تكن كربلاء قد استوطنت بعد، ولذا كان توجيه أهل البيت (ع) للزائر الذي يريد البقاء بأن يحطّ رحله في القرى المجاورة كالغاضرية ونينوى، ولذلك عندما سأل بعضُ الأصحاب الإمام (ع) عن خياراته في الاستيطان بين عدّة مواطن شريفة، قال له الإمام اتخذ الكوفة وذلك لقربها من قبر الإمام الحسين (ع)، حيث لم تكن كربلاء حينها قد مُصّرت بعد.
وبعض تلك الروايات محمول معناها على البقاء عند القبر الشريف، لكي لا يكون محلاً للمنام ومحلاً للطعام، وهذه تهيئة ليكون محلاً للزيارة والعبادة والذكر والتوسّل، وما يؤيد ذلك ما جاء في بعض الزيارات:
وتَخْرُجُ مِنْ عِنْدِهِ – أي عند العباس - فَتَرْجِعُ إِلَى قَبْرِ سَيِّدِنَا الْحُسَيْنِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) فَتُقِيمُ عِنْدَهُ مَا أَحْبَبْتَ، ولَا أُحِبُّ لَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مَبِيتَكَ[13].
وعَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ ثُوَيْرِ بْنِ أَبِي فَاخِتَةَ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَيُونُسُ بْنُ ظَبْيَانَ وَالْمُفَضَّلُ بْنُ عُمَرَ وَأَبُو سَلَمَةَ السَّرَّاجُ جُلُوساً عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع)، إلى أن قال: ً ثُمَّ تَدُورُ فَتَجْعَلُ قَبْرَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) بَيْنَ يَدَيْكَ وَأَمَامَكَ فَتُصَلِّي سِتَّ رَكَعَاتٍ وَقَدْ تَمَّتْ زِيَارَتُكَ، فَإِنْ شِئْتَ أَقِمْ وَإِنْ شِئْتَ فَانْصَرِفْ[14].
وأصدق تعبير يقوله الزائر المنصرف عن الزيارة هو دعاؤه في زيارة الوداع بأن يرزقه الله تعالى الإقامة عنده، ويقرّ بأن رحيله عن القبر الشريف لم يكن عن ملالة.
"يَا مَوْلَايَ السَّلَامُ عَلَيْكَ سَلَامَ مُوَدِّعٍ، لَا قَالٍ ولَا سَئِمٍ، فَإِنْ أَنْصَرِفْ يَا مَوْلَايَ فَلَا عَنْ مَلَالَةٍ، وإِنْ أُقِمْ فَلَا عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ الصَّابِرِينَ.
يَا مَوْلَايَ لَا جَعَلَهُ اللَّهُ آخِرَ الْعَهْدِ مِنِّي مِنْ زِيَارَتِكَ، وتَقَبَّلَ مِنِّي، ورَزَقَنِي الْعَوْدَ إِلَيْكَ، والْمُقَامَ فِي حَرَمِكَ، والْكَوْنَ فِي مَشْهَدِكَ، آمِينَ رَبَّ الْعَالَمِينَ[15].
السيد محمود الموسوي
...............................................
[1] - سورة المؤمنون 29
[2] - إقبال الأعمال، ج1، ص10.
[3] - سورة النور، آية36.
[4] - كامل الزيارات، ص269
[5] - كامل الزيارات، ص123.
[6] - نور العين في المشي إلى زيارة قبر الحسين، ص428، عن أبواب الجنان وبشائر الرضوان، الورقة 118، وهو في مصابيح الجنان: 195، نقلاً عن كتاب مدينة العلم للصدوق.
[7] - نور العين في المشي إلى زيارة قبر الحسين، ص428، عن مصابيح الجنان، 195، نقلاً عن التحفة الغروية.
[8] - كامل الزيارات، ص153
[9] - الخصائص الحسينية، الشيخ جعفر التستري، ص298.
[10] - كامل الزيارات، ص295.
[11] - فضل زيارة الحسين ( ع )، محمد بن علي بن الحسن العلوي الشجري، ص ٤٨.
[12] - بحار الأنوار، ج44، ص331.
[13] - المزار الكبير، لابن المشهدي، 427.
[14] - كامل الزيارات، ص200.
[15] - المزار الكبير، لابن المشهدي، 427.