نادر الملاح
6 محرم 1445 هـ، 25 يوليو 2023
ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفي، زوجة الإمام الحسين وأم ولده علي الأكبر عليهما السلام. كان جدها عروة من وجهاء العرب وأكابرها، وهو من أهل الطائف، أرسلته قريش للنبي يوم الحديبية لعقد الصلح معه. أسلم عروة في السنة التاسعة من الهجرة على يد رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما رجع إلى قومه ودعاهم إلى الإسلام رموه بسهم وقتلوه، فخرج ابنه أبو مرة (والد ليلى) مع أخيه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليخبروه بمقتل أبيهما، فأسلما عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورجعا إلى الطائف مسلمين. وكان عروة الثقفي (جد ليلى) أحد العظيمين الذين قالت فيهما قريش "… لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ" (الزخرف:31)، فالقريتين هما الطائف ومكة، والعظيمين هما عروة الثقفي والوليد بن مغيرة المخزومي. فكان عروة عظيماً عند العرب قبل الإسلام، وكان من أعاظم الصاحبة بعد إسلامه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله فيه بعد أن بلغه خبر استشهاده: "مَثَل عروة مثل صاحب يس، دعا قومه إلى الله فقتلوه" (موسوعة الإمام الحسين في الكتاب والسنة والتاريخ، للريشهري، ج1 ص207، والطبقات الكبرى ج5 ص504).
والد ليلى (أبو مرة بن عروة الثقفي) هو ابن عم المختار بن ابي عبيد الثقفي، صاحب ثورة المختار التي اقتص فيها من قتلة الحسين عليه السلام. أما أمها فهي ميمونة بنت أبي سفيان، أخت معاوية لعنه الله وأباه.
ولدت ليلى علي الأكبر عليه السلام في شعبان سنة 33 للهجرة، وبذلك يكون عمره الشريف عند استشهاده مع أبيه في كربلاء 27 أو 28 سنة. وكان عليه السلام أول شهيد من بني هاشم في واقعة كربلاء. وكان الأكبر عليه السلام أشبه الخلق برسول الله صلى الله عليه وآله بشهادة سيد شباب أهل الجنة الحسين عليه السلام، حيث لما نزل علي الأكبر إلى الميدان في يوم عاشوراء، رفع الحسين طرفه إلى السماء وقال: "اللهم اشهد على هؤلاء القوم، فقد برز إليهم غلام أشبه الناس برسولك محمد خّلْقاً وخُلُقاً ومنطقا، وكنا إذا اشتقنا إلى رؤية نبيك نظرنا إليه…" (بحار الأنوار، ج45 ص43)، وكفى بشهادة الحسين عليه السلام قولاً في وصف مقام علي الأكبر وجلالة قدره وعلمه ومنطقه وشدة إيمانه.
هل حضرت ليلى واقعة كربلاء؟
تبنى أهل العلم رأيين في شأن حضور ليلى رضوان الله تعالى عليها في كربلاء، فقال فريق بحضورها، ونفى الفريق الآخر ذلك. وممن تبنى عدم حضور ليلى الثقفية في كربلاء المحقق التستري حيث قال: "ولم يذكر أحد في السير المعتبرة حياة أمه (يعني ليلى أم الأكبر عليه السلام) يوم الطف، فضلاً عن شهودها، وإنما ذكروا شهود الرباب أم الرضيع وسكينة" (قاموس الرجال، ج7 ص422)، والسيد محمد حسين الحسيني الطهراني في (معرفة الإمام، ج15 ص272) مع نقل ما قال المحدث القمي رضوان الله تعالى عليه، حيث قال: "لم أجد في أي من المقاتل حضور ليلى في كربلاء. وقال المحدِّث القمّيّ أيضاً في (نفس المهموم ص193): وأمّا أُمّه عليه السلام هل كانت في كربلاء أم لا؟ لم أظفر بشيءٍ من ذلك". كما ذهب إلى هذا الرأي الشيخ محمد هاشم بن محمد علي الخراساني في (منتخب التواريخ، ص271) حيث قال: "اِعلم لا يُعلم أن الوالدة المكرمة لعلي الأكبر ليلى حضرت كربلاء، بل لا يُعلم أن هذه السيدة كانت على قيد الحياة حين وقعت معركة الطف". وذهب الشهيد مرتضى مطهري إلى وصف القول بوجود ليلى رضوان الله تعالى عليها في كربلاء بالتحريف، حيث قال: "هناك نموذج آخر للتحريف في وقائع عاشوراء، وهو القصة التي أصبحت معروفة جداً في القراءات الحسينية والمآتم، وهي قصة ليلى أم الأكبر. هذه القصة لا يوجد في الحقيقة دليل تاريخي واحد يؤكد وقوعها. نعم فأم علي الأكبر موجودة في التاريخ واسمها ليلى بالفعل ولكن ليس هناك مؤرخ واحد يشير على حضورها لمعركة كربلاء." (الملحمة الحسينية، ج1 ص18)، وليس هذا الرأي بالضرورة هو رأي الشهيد مطهري، ذلك أنه مأخوذ عن كتاب الملحمة الحسينية، وهو كتاب منسوب إلى الشهيد مطهري وليس من مؤلفاته، حيث تم نشره لأول مرة بعد ثلاث سنوات من استشهاده رضوان الله تعالى عليه، وأُشير في مقدمته إلى كونه تجميع لمحاضرات مسجلة للشهيد مطهري تم تفريغها وتنظيمها في الكتاب، إلى جانب النقل عن تقارير منقولة عنه، وقد فصَّل في ذلك السيد جعفر العاملي. كذلك ذهب إلى هذا الرأي القائل بنفي حضور ليلى الثقفية في كربلاء المحقق الشيخ محمد صنقور في كتاب (تساؤلات حول النهضة الحسينية)، حيث قال في معرض جوابه على سؤال حول ما يذكره الخطباء من شأن ليلى في واقعة كربلاء لما خرج علي الأكبر إلى الميدان: "… هذا وقد وقع البحث في أصل وجود السيدة ليلى يوم الطف"، ثم استشهد بما ذكره المحقق التستري في قاموس الرجال، والذي تقدمت الإشارة إليه.
أما الفريق الآخر، فقد قال بخلاف ذلك، وناقش باستفاضة ما استدل به القائلون بالرأي الأول، وفي طليعتهم المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي، في كتابه (كربلاء فوق الشبهات).
مناقشة:
بالتمعن في آراء النافين لحضور ليلى في كربلاء، نجد الاحتجاج مبني على مرتكزين اثنين، أولها عدم ورود ذكر حضورها في كربلاء في الكتب المعتبرة، وثانيها عدم إثبات المؤرخين لهذا الأمر. ووجه المناقشة في هاتين الركيزتين عدة أمور نوجزها في الآتي:
أولاً: إن عدم إثبات حدوث أمر ما، لا يعني بالضرورة نفي حدوثه. فكما أن الإثبات يحتاج إلى دليل، فإن النفي يحتاج إلى دليل كذلك، ولا يكفي فيه انعدام دليل الإثبات. فبينما يكفي في إثبات ورود أمر ما في الكتب المعتبرة أو في كتب التأريخ إيراد مجموعة من الشواهد، فإن ذلك غير كافٍ للنفي، إذ يستلزم أمر النفي الاطلاع على كافة الكتب المعتبرة وجميع كتب التأريخ حتى يمكن القول بأنه لم يرد ذلك الأمر في أيٍّ منها. أما مطالعة المتيسر منها والحكم بالتعميم في نفي ورود هذا الأمر، فذاك أمرٌ خلاف العقل والمنطق. ولما كان من غير الممكن أن يزعم زاعم أنه اطلع على كافة الكتب المعتبرة فضلاً عن كتب التأريخ، كان من غير المقبول عقلاً حكمه بنفي الحدوث، وإنما يكون مدار النفي فقط هو ما اطلع عليه صاحب الرأي من كتب، لا أكثر من ذلك ولا أقل.
ثانياً: إن استهجان أمرٍ ما لا يكفي لأن يكون حجةً لإبطاله. يقول السيد العاملي: "بديهي أن مجرد استهجان أمر من الأمور لا يصلح دائماً أساساً لردِّه، والحكم عليه بالبطلان، إلا إذا نشأ هذا الاستهجان من آفة حقيقية يعاني منها النص في مدلوله، تُوجبُ إثارة حالة من الشك والريب فيه. أما إذا كان منشأ هذا الاستهجان هو عدم وجود تهيؤ نفسي وذهني لقبول أمر ما، بسبب فقد الركائز والمنطلقات التي تساعد على توفر مناخ الوعي والاستيعاب للحقائق العالية، والمعاني الدقيقة، فإن هذا الاستهجان لا يصلح أساساً لإيجاد ولو ذرة من الشك والريب والتردد في صدقية النص، أو في أي شيء مما يرتبط به" (كربلاء فوق الشبهات، ص29).
ثالثاً: إن ذكر تفاصيل وقائع كربلاء – وكذا هي الأحداث التاريخية الأخرى- لا يختص بكتب التأريخ وحدها، إذ يستقي العلماء والباحثون في ذلك من كتب الأنساب والحديث والتراجم وكتب الجغرافيا والأدب وغيرها. وكما تقدم القول، فإن إحراز الاطلاع على كل تلك المصادر أمرٌ عسيرٌ بل غير ممكن الحدوث، لاسيما مع اختفاء وإتلاف الكثير من الكتب عبر الزمن، بل إن عدداً من الكتب والمخطوطات مما وصل إلين لاتزال بحاجة إلى التحقيق أو الترجمة أو ما إلى ذلك من أدوات للاستفادة مما ورد في متونها. يقول المحقق العاملي في (كربلاء فوق الشبهات): "ولا يجهل أحدٌ أن هناك كَمًّا هائلاً لا مجال لتصوره قد تلف وضاع عبر الأحقاب التاريخية المتعاقبة. وقد تجد ذكراً للكثير من المصادر التي كانت متداولة في أيدي المؤلفين والمصنفين الذين سبقونا، وقد نقلوا لنا عنها أشياء لم تذكر فيما وصل إلينا ونتداوله نحن الآن من مؤلفات القدماء، وقد أشار بعضهم -كصاحب البحار وسواه- إلى العديد منها، ونقلوا عنها الكثير لكنها قد تلفت قبل أن تصل إلينا. فهل نستطيع أن نتهم هؤلاء العلماء الأعلام الأطياب الأخيار بممارسة الكذب والاختلاق فيما ينقلونه عن تلك المصادر والمؤلفات المفقودة؟! وهل يصح للشهيد مطهري وسواه أن ينفي أمراً يحتمل أن يكون ناقله قد أخذه من مصادر لم تصل إلينا- وما أكثرها؟!" (ص89).
رابعاً: لقد ورد في العديد من المصادر ذكر من لم يحضروا كربلاء سواءً من أهل البيت خصوصاً أو الهاشميين عموماً أو كبار الشخصيات المعروفة آنذاك، ولم يرد في ما هو متوفر من تلك الكتب ذكر تخلف ليلى أم الأكبر عليهما السلام عن حضور كربلاء. فكما أنه لم يرد – على حد قول النافين – حضور ليلى في كربلاء، لم يرد نفي هذا الحضور أيضاً رغم ورود ذكر المتخلفين عن الحضور كمحمد بن الحنفية وعبدالله بن جعفر زوج الشخصية النسائية الأبرز في كربلاء وهي سيدتنا ومولاتنا زينب الكبرى عليها السلام، وعبدالله بن عمر وغيرهم. فالقول بعدم حضور ليلى استناداً إلى عدم ذكر حضورها من قبل المؤرخين، يقابله القول بحضورها استناداً إلى عدم ذكر تخلفها من قبل المؤرخين أيضاً.
خامساً: ذكرت كتب التأريخ والسيرة الكثير ممن حضروا كربلاء، نساءً ورجالاً وأطفالاً، لكنها مع ذلك لم تذكر كل من حضر أو كل من تخلف. وعليه، فإن الاعتداد بما ورد في كتب التأريخ دون الأخذ بما عدا ذلك من أمور، تؤكِّدُ أو تُبطل، حجةً لنفي حضور أم علي الأكبر عليهما السلام أمرٌ يشوبه القصور، حيث أن التزام هذه القاعدة يقتضي القول بالقطع بعدم حضور كل من لم يرد اسمه في تلك المصادر، وهو أمرٌ لا يأخذ به أحدٌ من العقلاء فضلاً عن العلماء إطلاقاً.
سادساً: القول بعدم حضور ليلى كربلاء أخذاً بمسألة عدم معرفة تاريخ وفاتها كما جاء في رأي الشيخ محمد هاشم الخراساني في منتخب التواريخ "بل لا يُعلم أن هذه السيدة كانت على قيد الحياة حين وقعت معركة الطف"، يشوبه ما شاب سابقه من النقض، حيث أنه لما لم يكن معلوماً أنها على قيد الحياة حين وقعت معركة الطف، لم يكن معلوماً أيضاً أنها كانت متوفاة حينذاك. أي أنه إذا كانت حجة عدم التيقن من وجودها على قيد الحياة في ذلك الوقت كافيةً لأن تكون حجةً ودليلاً، فإن عدم التيقن من كونها متوفاة قبل واقعة كربلاء يكفي للقول بالعكس أيضاً. هذا مع الالتفات إلى ما ورد في وسيلة الدارين في أنصار الحسين (ص194) من رواية قال راويها: كنتُ أطوف في سكك المدينة، وأنا على ناقة لي، حتى أتيت دور بني هاشم، فسمعت من دارٍ رنةً شجية، وبكاء حنين، فعرفتُ أنها امرأة، وهي تبكي وتنوح، وتبكي كالمرأة الثكلى، فسألت جارية عن الدار وصاحبها، فأخبرتني "أنها دار الحسين عليه السلام، وأن الباكية هي ليلى أم علي الأكبر، لم تزل تبكي ابنها ليلاً ونهاراً". وهذا يدلل – مع عدم اليقين بوفاتها قبل واقعة كربلاء – على أنها كانت على قيد الحياة بعد الواقعة، وأنه لا وجه في ترجيح عدم حضورها كربلاء لأنها كانت متوفاة في ذلك الحين.
هل فعلاً لم يرد ذكر ليلى في الكتب المعتبرة؟!
دحضاً للقول بعدم ورود ذكرٍ لوجود ليلى الثقفية أم علي الأكبر عليهما السلام في كربلاء في أيٍّ من الكتب المعتبرة، يناقش المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي في (كربلاء فوق الشبهات) عدة مرويات من هذه الكتب يدلل بها على وجودها رضوان الله تعالى عليها في كربلاء. ونورد بإيجاز بعض تلك الروايات وما يرتبط بها من مناقشة نقلاً عن الكتاب المذكور، مع بعض التعليقات من كاتب هذه المقالة، ومن أراد التفصيل فليراجع الفصل السابع من الكتاب المذكور:
أولاً: ما ورد في بعض الكتب المعتبرة من القول: "فقاتل علي بن الحسين حتى قُتل، وكانت أمُّه واقفة بباب الفسطاط تنظر إليه".
ثانياً: ما ورد في قول ابن شهراشوب رضوان الله تعالى عليه في ضم الحسين عليه السلام علياً الأكبر إلى صدره، حيث قال: "وضمه إلى صدره، وأتى به إلى باب الفسطاط، فصارت أمُّه شهربانويه ولهى تنظر إليه ولا تتكلم". ويناقش السيد العاملي مسألة اسم (شهربانويه) في هذا النقل مناقشة موضوعية، ثم يخلص إلى القول: "وهذا الاختلاف لا يضر في المقصود من أنها رحمها الله كانت حاضرة في كربلاء… فما يُنسب إلى الشهيد مطهري من نفي حضورها في كربلاء بشدة وبحدة يصبح في غير محله، ولا يساعد عليه الدليل ولا يعضِّده البرهان" (ص125).
ثالثاً: ما ورد عن حميد بن مسلم، وهو أحد رواة أحداث واقعة كربلاء، حيث قال: "فكأني أنظر إلى امرأة خرجت مسرعة كأنها الشمس الطالعة، تنادي بالويل والثبور، وتقول يا حبيباه، يا ثمرة فؤاداه، يا نور عيناه. فسألت عنها، فقيل: هي زينب بنت علي. وجاءت وانكبت عليه، فجاء الحسين عليه السلام فأخذ بيدها فردها إلى الفسطاط" (مقتل الحسين للخوارزمي، ومقتل الحسين لأبي مخنف، وبحار الأنور ج45 ص44، وغيرها من المصادر). ونلحظ هنا أن الناقل، وهو حميد بن مسلم، لم يكن يعرف من هي المرأة التي خرجت، فسأل عنها فقيل له أنها زينب بنت علي!! فلا يقين من الناقل بأنها هي زينب بنت علي أو غيرها، مع العلم بأن العقيلة زينب عليها السلام كانت مخدرة محجوبة عن نظر الناس، فكيف يمكن أن يعرفها عوام أفراد معسكر ابن سعد، مع رجاحة أن المجيب على سؤال حميد بن مسلم لم يكن شخصاً معروفاً، وإلا لما ذكره بصيغة النكرة "فقيل لي"، بينما الأَولى به وهو يوثق أحداث كربلاء أن يذكر اسم القائل إن كان معروفاً مشهوراً بين الناس، تعزيزاً لصدق روايته.
ويناقش العاملي هذا المقطع بتحليلٍ علميٍّ جميل مستدلاً في تعبير "يا ثمرة فؤاداه" أنه يشير إلى أن النادبة إنما تندب ولدها لا ابن أخيها، لأن هذا التعبير – والقول للعاملي (ص126) – "إنما يُستعمل للتعبير عن النسل، قال الزبيدي: ومن المجاز (الولد): ثمرة القلب. وفي الحديث إذا مات وَلَدُ العبد قال الله لملائكته: قبضتم ثمرة فؤاده؟! فيقولون: نعم. قيل للولد: ثمرة لأن الثمرة ما ينتجه الشجر، والولد نتيجة الأب. وقال بعض المفسرين في قوله تعالى "…وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ" (البقرة:155) أي الأولاد والأحفاد، كذا في البصائر".
رابعاً: أورد الطريحي رضوان الله تعالى عليه في منتخبه (ص444)، نفس الموقف بقوله: "قال من شهد الوقعة: كأني أنظر إلى امرأة خرجت من فسطاط الحسين -وهي كالشمس الزاهرة- تنادي: واولداه واقرة عيناه! فقلت من هذه؟! قالوا: زينب بنت علي". وكذا أورد الشيخ مهدي المازندراني أنه "لما قُتل علي الأكبر خرجت ليلى حافرة (حافية أو حاسرة) حائرة مكشوفة الرأس، تنادي: وا والداه، وا ولداه" (كربلاء فوق الشبهات نقلاً عن وسيلة الدارين في أنصار الحسين ص293-294). ونلحظ التعبير هنا بكلمة "وا ولداه" عِوَض "واحبيباه" في النص السابق. وليس الأكبر من وُلد زينب عليها السلام. ولو قال قائل بأنه كولدها، قلنا بأن التعبير حينها يجب أن يكون "وا إبناه" وليس "وا ولداه" للفرق في كلام العرب بين الابن والولد، والأب والوالد، وبيت النبوة أهل لسان وفصاحة ليس في كلامهم لحنٌ أو ركاكة.
ويناقش السيد العاملي عبارات هذه الروايات من عدة جوانب منها قوله: "إن جميع هذه الروايات تقريباً صريحة بأن التي خرجت من الخيمة كانت مكشوفة الوجه، وأنها كالشمس.. الخ. ومن الواضح أن زينب العقيلة لم تكن لتكشف وجهها." (ص129)، وقوله في شأن ذكر اسم زينب بنت علي عليهما السلام إشارة للمرأة التي خرجت: "هذا كله.. إن لم نسوغ لأنفسنا احتمال التحريف والسهو من قبل نَقَلَة هذه الأخبار.. وقديماً قيل: ما آفة الأخبار إلا رواتها.." (ص132). فالحقيقة الثابتة إذن هي خروج امرأة تندب (وا ولداه)، وغير الثابت، بل غير المقبول، أنها كانت العقيلة زينب بنت علي عليهما السلام.
وحول اضطراب نص الرواية بحيث وُجدت نصوصٌ بأن النادبة قالت "وا ابن أخاه" أو "وا ابن أخياه"، وأخرى أنها قالت: "وا ولداه، وا ثمرة فؤاداه.."، مع تصريح ابن شهراشوب بأن: "أم علي الأكبر كانت واقفة بباب الخيمة حين استشهاد ولدها"، يقول السيد العاملي: "إننا إن أردنا الجمع بين نصوص هذه الرواية، فمن الممكن لنا أن نقول: إن زينب عليه السلام قد خرجت وكانت تصيح: وا ابن أخياه. وأن أم علي الأكبر أيضاً قد خرجت وهي تصيح: وا ولداه، وا ثمرة فؤاداه. فلعل هذا الراوي تحدث عن هذه، وذاك تحدث عن تلك، ولعله أيضاً قد خلط في حديثه بين المرأتين، فنسب كشف الوجه إلى الحوراء زينب، مع أن التي كشفت وجهها هي الأخرى قد خرجت مثلها، وإنما كشفت تلك وجهها بسبب فقد السيطرة على نفسها لهول الكارثة" (ص33).
ونختتم هذه المناقشة العابرة، باقتباس كلام السيد جعفر مرتضى العاملي في ختام مناقشته لأدلة القائلين بعدم حضور ليلى في كربلاء (كربلاء فوق الشبهات، ص137-138)، حيث يقول: "ثم تطرقنا باقتضاب واختصار إلى مناقشة الأدلة التي استند إليها النافون لحضور أم علي الأكبر في كربلاء. ثم اتخذ البعض من هذا النفي عنواناً للأسطورة والخيال العاشورائي بزعمه، واعتبره مدخلاً مناسباً للطعن في قراء العزاء ورميهم بمختلف أنواع الأفائك، ومواجهتهم بشتى أنواع التهم، وتصغير شأنهم، وتحقير أمرهم. وذلك بهدف تشكيك الناس بكل ما يقولونه عن عاشوراء وكربلاء، وإفراغها من محتواها الثقافي، والعاطفي، والتربوي، وما إلى ذلك. وإذ قد ظهر عدم صحة ما استندوا إليه، وبطلان ما اعتمدوا عليه فما علينا إلا أن نترك الخيار في أن يراجعوا ضميرهم، ويعملوا على إصلاح ما أفسدوه من إسدائنا النصح لهم بأن لا تأخذهم العزة بالإثم، فيلجأوا إلى المكابرة، ثم إلى المنافرة، وأن يقلعوا عن الاستمرار برمي الآخرين بمختلف التهم، ويرتدعوا عن إشاعة الأباطيل ونشر الأضاليل..".
ومع الأخذ بالقول بحضور هذه السيدة الجليلة في كربلاء، وهو الرأي الذي نتبناه، بل ومعاينتها لاستشهاد شبيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتقطيع جسده بأبشع ما يكون من التمثيل الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولو بالكلب العقور، وما أعقبه من استشهاد زوجها وإمامها ريحانة رسول الله، الحسين بن علي عليه السلام بعد أن ظل وحيداً في الميدان لا ناصر له ولا معين، قد أخذ منه العطش والتعب مأخذه، ثم حَمْل الرأس الشريف على الرمح، وبجانبه رأس ابنها شبيه رسول الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وسوقها مع بقية النساء والأطفال أسارى، ثم وقوفهم بين يدي عبيد الله بن زياد ويزيد بن معاوية عليهم جميعاً لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ثم المبيت في خربة الشام، نجد كيف أن صبر هذه المرأة الجليلة وجهادها في سبيل إعلاء كلمة الله جل شأنه، ثم حزنها وبكاؤها في مدينة الرسول الأكرم، قد ثبَّت حجم الحقد والضغينة التي كان يكنها يزيد وأزلامه ضد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وضد دينه الحنيف، وفضحهم شر فضيحة، إذ لم يتوانوا عن الفتك بسيد شباب أهل الجنة، سبط رسول الله وريحانته، ولا بشبيه رسول الله خَلقاً وخُلُقاً ومَنطِقا، ولم تأخذهم الرأفة والرحمة بمحمد وآل بيته الكرام صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين.
اللهم ثبتنا على ولاية الطاهرين، واهدنا سواء السبيل، وأحسن خواتيم أعمالنا إلى خير ما تحب وترضى، إنك أنت السميع المجيب، وصلي يا رب وسلم وزد وبارك على محمد وآله الطاهرين، وارزقنا في الدنيا ولايتهم، وفي الآخرة شفاعتهم، وتوفنا على هذا العهد برحمتك يا أرحم الراحمين.