بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
التعارض قد يكون بين دليلين لفظيين، وقد يكون بين دليلين عقليين، وقد يكون بين دليلٍ عقليٍ ودليل لفظي، وروايات العلاج سواءً المفيد منها للترجيح بالمرجِّحات أو المفيد للتخيير أو التوقف والإرجاء كلُّها متصدية لمعالجة التعارض في الأدلّة اللفظية، وهي خارجة هنا عن محلِّ الكلام، ونقتصر في المقام على الفرضين الآخرين:
أمَّا الفرضية الأولى: وهي ما إذا كان التعارض بين دليلين عقليين فيمكن تصنيفها إلى ثلاث حالات:
الأولى: ما لو كان التعارض بين دليلين عقليين قطعيين، وهذا ما لا يمكن اتِّفاقه، وذلك لاستحالة أن يُدرك العقل بنحوٍ قطعي حكمين متغايرين لموضوع واحد، إذ أنّ إدراك العقل القطعي لحكم معناه تصدِّيه أولاً لتحديد موضوعه من تمام حيثياته بحيث لا يدع مجالاً للمرونة في الموضوع، وبعد ذلك يدرك الحكم المناسب له، وحينئذٍ لا يتعقل أن يكون له حكمان متغايران رغم اتِّحاد الموضوع، ولو توهّم وقوع التعارض في الفرض المذكور فإنَّه بأدنى اِلتفات إلى حدود الموضوع يرتفع التعارض ويتّضح أمَّا عدم إدراك العقل لأحد الحكمين أو أنّ موضوع كلِّ واحدٍ منهما مباينٌ لموضوع الآخر. ومن هنا لا يُتعقل التعارض في الأحكام العقلية القطعية.
الثانية: ما لو كان التعارض بين حكمين عقليين إلاّ أنّ أحدهما قطعي والآخر ظنِّي، كما لو كان مقتضى الدليل العقلي القطعي هو الحرمة باعتبار أنّ متعلَّقه من الظلم القبيح، وكان مقتضى الدليل العقلي الظنِّي هو الجواز باعتبار أنَّ ذلك هو المتناسب مع القياس بناءً على حجيته، وهنا يكون المقدَّم هو الدليل العقلي القطعي، وذلك لوروده على الدليل الظنِّي.
وورود الدليل العقلي القطعي إنَّما هو بلحاظ مرحلة الحجيَّة للدليل الظنِّي العقلي، بمعنى أنَّه تلاحظ علاقة الدليل العقلي القطعي مع دليل الحجيّة للدليل العقلي الظني فتكون النتيجة هي الورود باعتبار أنّ الحجيّة الثابتة للدليل العقلي الظنِّي إنّما هو في حالة الشك في الحكم الواقعي، والدليل العقلي القطعي يُلغي موضوع الحجيَّة للدليل الظني حقيقة، أي أنّه يلغي الشك في الحكم الواقعي والذي هو موضوع الدليل العقلي الظنِّي، وهذا هو الورود.
وبتعبير آخر: الدليل العقليُ الظني إنَّما هو حجَّة في إثبات الجواز لو كان هناك شكٌّ في الحكم الواقعي، ومع قيام الدليل القطعي لا يكون هناك شكٌّ في الحكم الواقعي، ومن هنا يكون مآل التعارض بين الدليل العقلي القطعي والدليل العقلي الظنِّي هو توهُّم اتِّحاد الموضوع في الحكمين، والواقع ليس كذلك، فمثلاً لو حكم العقل بنحو قطعي بانّ التصرّف في أموال الغير قبيح لأنه ظلم، وكان مقتضى القياس هو جواز التصرّف، فإنَّ موضوع الحكم العقلي القطعي هو التصرّف في أموال الغير وأما القياس فهو التصرف في الأموال باعتبار الشك مثلا في مملوكيتها لمالك محترم، فموضوع كلّ واحد من الحكمين مباينٌ لموضوع الآخر.
الثالثة: ما لو كان التعارض بين دليلين عقليين ظنيين كأن كان أحدهما يقتضي الايجاب والآخر عدمه، فهنا يكون مآل التعارض إلى التعارض بين دليلي حجيتهما، فلا بدّ من ملاحظتهما لغرض العلاج بحسب ما تقتضيه الضوابط المقررة في باب التعارض، فقد يكون دليلا الحجيَّة لفظيين، وقد يكونان عقليين قطعيين، وقد يكونان شرعيين غير لفظيين.
وأمَّا الفرضية الثانية: وهي ما لو كان أحد الدليلين عقليا والآخر لفظيا فله ثلاث حالات أيضاً:
الأولى: أن يكون الدليل العقليُّ قطعياً ويكون الدليل اللفظي ظنياً، وحينئذ يكون الدليل العقلي القطعي وارداً على الدليل اللفظي الظني، ووروده إنَّما هو على دليل الحجيّة للدليل اللَّفظي الظنِّي بنفس البيان السابق.
الثانية: أن يفترض العكس، وهنا يكون الدليل اللفظي القطعي وارداً على الدليل العقلي الظني بنفس البيان.
الثالثة: أنَّ يفترض كون الدليلين العقلي واللفظي ظنيين، وهنا يكون مآل التعارض بينهما إلى التعارض في دليلي الحجيّة فيأتي نفس البيان المذكور في الحالة الثالثة من الفرضيّة الأولى.
وهنا أمر نبَّه عليه السيد الصدر (رحمه الله) وهو أنّ التعارض الذي يكون أحد طرفيه أو كلاهما عقلياً لا يُتصور فيه الجمع العرفي والذي تكون وظيفته الكشف عن المراد الجدّي للشارع، نعم يتصور الجمع العرفي .في مورده. بالورود فحسب في بعض حالات التعارض كما أوضحنا ذلك.
فالتعارض بين الدليلين العقليين الظنيين وكذلك العقلي الظنِّي واللفظي الظنِّي يؤول دائماً إلى التعارض بين دليلي الحجيّة لهما.
وهذا بخلاف التعارض بين الدليلين اللفظيين فإنّ من الممكن الجمع العرفي بينهما لغرض الكشف عن المراد الجدّي للشارع، وبذلك يزول التعارض، ولا نحتاج عندئذٍ لملاحظة دليلي الحجيّة للدليلين المتعارضين.
نعم تكون الحاجة للرجوع إلى دليلي الحجيّة في الأدلة اللفظيَّة المتعارضة في حالة تعذر الجمع العرفي، إذ يكون المرجع هو أدلة العلاج والتي يكون نظرها إلى دليلي الحجيّة، فتقول مثلا: إنَّ خبر الثقة إذا كان منافياً للكتاب المجيد أو كان موافقا للعامة يكون ساقطاً عن الحجيَّة بخلاف الخبر الموافق للكتاب أو المخالف للعامّة، ولو لم يمكن الاستفادة من روايات العلاج فإنّ المرجع هو ما تقتضيه القاعدة من التساقط مثلاً، والملاحظ هنا هو دليلا الحجيّة للخبرين أيضاً.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
مقتبس من كتاب المعجم الأصولي