هل الردع عن القطع الناشئ من المقدمات العقلية ممتنع لمشكلة خطابية أو مشكلة واقعية، أو قل: هل هو ناشئ عن مشكلة إثباتية أو ثبوتية؟
الجواب عن ذلك:
القطعُ يجب متابعتهُ، لأنه طريقٌ إلى الواقع، ويستحيل سلبُ الطريقية عنه، والشارعُ لمّا لم يكن له سلب الطريقية عن القطع لم يكن له التصرّف في وجوب المتابعة، لوضوح أنه إنما وجبت متابعة القطع لطريقيته، وحيثية الطريقية لا تنفك عن القطع، بل هي عين القطع، فلذا لا ينفك عن القطع وجوب المتابعة، وإذا وجبت متابعة القطع عقلًا كان منجزًا للتكليف عند الإصابة للواقع، ومعذرًا عند عدم الإصابة للواقع، وبعبارة جامعة: كان حجة. وهذا ما يفهم من كلمات الشيخ الأعظم (قده).
وعلى هذا لا يُعقل أن يردع الشارع ردعًا مباشريًّا عن القطع، بل لو فرض الردع للزم التناقضُ في اعتقاد القاطع مطلقًا -سواءً أصاب قطعه الواقع أم لا-، أو واقعًا في حال إصابة قطعه للواقع. وعلى هذا تكون مشكلة الردع عن القطع مشكلة ثبوتية واقعية لاستلزامها التناقض. لكن ذكرت عدة مقترحات تصوّر إمكان الردع عن القطع.
الأول: النهي عن سلوك المقدمات العقلية نهيًا إرشاديًّا، أي إرشادًا لعدم معذرية القطع لو سلك المقدمات العقلية ولم يصب الواقع.
وفيهِ: أن النهي المذكور هو تصرّفٌ في المعذريّة الملازمة لذات القطع، فإنّ السالك للمقدمات العقلية إذا حصل له القطع بالحكم الشرعي يجب عليه متابعة قطعه عقلًا، ووجوب المتابعة عقلًا يلازمه المعذرية والمؤمِّن في حال عدم الإصابة، بل لو سلك المقدمات العقلية وحصل له القطع بالحكم الشرعي كان القطع منجزًا في صورة الإصابة للواقع، فلو خالف قطعه كان عاصيًا. وفي صورة عدم الإصابة للواقع فإنّ المخالف للقطع متجرٍّ.
إذن: النهي عن المقدمات العقلية بالتقريب المذكور يستلزم سلب المعذرية، وهو تصرّفٌ في الحجية اللازمة لذات القطع، وهو غير معقول.
اللهم إلا أن يقال أنّ المولى نهى عن بعض مناشئ القطع وهي المقدمات العقلية؛ لأن سلوكها يستوجب تضييع الأحكام الواقعية؛ لكثرة الاشتباه فيها، فالمولى لحفظ أحكامه نهى عن سلوك هذا الطريق.
ومن هنا لو سلك المكلف الطريق العقلي ولم يصب الواقع كان غير معذورٍ؛ لأنّ منشأ حصول القطع منشأ قد نهى عنه الشارع إرشادًا لعدم موصليته للواقع غالبًا. فالمقتحم للطريق العقلي بغرض تحصيل الحكم الشرعي قد اقتحم ما لا يوصل إلى الأحكام الشرعية بنظر المولى، ومن هنا كان القطع الحاصل له الذي هو عبارة عن جهل مركب ناشئٌ عن تقصيرٍ في تحصيل المقدمات، فلا يعذرُ هذا المكلف من جهة تقصيره.
والمحصّل: أن المولى ليس لهُ سلب الحجية عن القطع بنحو المباشرة إذ هو طريق للواقع بنظر القاطع، لكن للمولى أن يعتبر بعض المقدمات المحققة للقطع أنها مقدمات غير موصلةٍ لأحكامه، وإذا صدر من المولى هذا الاعتبار كان المكلف بين أن يقتحم هذه المقدمات، وبين أن لا يقتحم. فلو فرضنا اقتحامه لهذا الطريق وحصول قطعٍ له بالحكم الشرعي كان اعتبارُ المولى بعدم موصلية هذه المقدمات لأحكامه كفيلًا بزلزلة القطع الحاصل للمكلف الذي سلك هذا الطريق إذا كان ملتفتًا إلى اعتبار المولى.
وبعبارة صريحة: إن المولى إذا اعتبر عدم موصلية بعض المقدمات لأحكامه كان ضربُ هذا القانون موجبًا لتزلزل قطع كل مكلف سلك هذه المقدمات.
ولكن يرد عليه: أنّ المقدمات العقلية قطعية وتستلزم الحكم قطعًا إذا كانت في هيئة منطقية منتجة، فكيف للمولى أن يسلب الحجية عن المقدمة أو مجموع المقدمات أو الاستلزام، وكل ذلك أمرٌ قطعي؟! بل إنّ التقريب المذكور أشكلُ من سابقه لأنه يفترضُ أن المعتبر والجاعل قد سلب موصلية المقدمات العقلية للأحكام الشرعية، وموصليتها عين طريقيتها التي هي ذات القطع فلا تقبل الجعل والرفع، فإنه من قبيل المشمشية للمشمش.
المقترح الثاني: أن المولى ينهى عن القطع الناشئ من المقدمات العقلية نهيًا مولويًا طريقيًا، بغرض أن ينجّز الحكم الواقعي على المكلف في حال خوضه في المقدمات العقلية وعدم إصابته للواقع. فهو نظير للحكم الظاهري بناء على نظرية جعل الحكم المماثل بناءً على أن الحكم المجعول حكم طريقي، فإنه لا مصلحة في متعلق الحكم وإنّما المصلحة في تنجيز الواقع في حال إصابة الأمارة للواقع والتعذير عند عدم الإصابة، فكذلك في المقام فإنّ المولى بردعه عن القطع إنّما جعل حكمًا طريقيًا مفاده تنجز الحكم الواقعي في حال عدم الإصابة للواقع.
أقولُ: قد يُقال أنه مقترحٌ خالٍ عن الإشكال؛ لأنّه لم يتصرف في حجية القطع، وإنّما التزم بمنجزية الحكم الواقعي في حال مخالفة القطع للواقع، فمن المعقول أنّ يتنجز الحكم الواقعي فيما إذا خاض المكلف في مقدمات نهى المولى عن الخوض فيها نهيًا طريقيًا، وهذا لا ينافي حجية القطع الحاصل عند المكلف، بل يبقى على حجيته، مادام قاطعًا، فلو خالف القطع ولم يكن مصيبًا للواقع كان يستحقُّ عليه العقاب، -لا من باب التجري، فالاستحقاق ليس من هذا الباب بل حتى لو قلنا أن المتجري لا يستحق العقاب فالمخالف للقطع غير المصيب يستحق العقاب في المقام-؛ لتنجز الحكم الواقعي غير الواصل عليه، باعتباره خالف ما نهى عنه المولى من عدم الخوض في المقدمات.
نعم، لو كان القطع مصيبًا فلا شيء عليه؛ لأنّ المتنجز في حقه هو الحكم الواقعي، والفرضُ أن النهي طريقي.
ولكن يردُ عليه: أن هذا الحل تصرّف في مؤمنية القطع ومعذريته، فلا عذر للمكلف بعمله بالقطع، والمعذرية ملازمة للقطع كالتنجيز.
والنتيجةُ أنّ القطع الناشئ من المقدمات العقلية لا يمكن الردع عنه، والمقترحان المذكوران كما ترى.
لكن كلّ ما مرّ ناتج عن عدم الالتفات للنكتة العقلية التي تكمن وراء حجية القطع، ولابدّ من تحليل مفهوم الحجية ليتضح الحال بكنهه وحقيقته، فنقول: الحجية الثابتة للقطع هي عبارة عن تنجز التكليف الواقعي في حال إصابة القطع، والعذر عن مخالفة التكليف الواقعي في حال عدم إصابة القطع. ومنشأ ذلك هو حكم العقل بأنه يحسن معاقبة القاطع بحكم مولاه على تقدير مخالفته لقطعه، ويقبح معاقبة القاطع على تقدير موافقته لقطعه. ومن الأول ينتزع العقل المنجزية، ومن الثاني ينتزع المعذريّة.
فإذا اتضحت النكتة في المنجزية والمعذرية وهي حكم العقل بالحسن والقبح للعقوبة فإنه لا نجد أن العقل يحكم بقبح العقاب للقاطع الذي حصل له قطع بخلاف الواقع عن تقصير منه في مقدمات القطع، بل يحسن عقابه. وعلى هذا فإنّ المقترح الأول الذي حاول تصوير الردع عن القطع الحاصل من المقدمات العقلية تصوير صحيح، فإنّ النهي عن الخوض في المقدمات العقلية نهي يرشدُ لعدم العذر لمن حصل له قطع مخالف للواقع من المقدمات العقلية؛ لأن سلوكه لهذا الطريق حيدٌ عن الجادة التي رسمها المشرع لعبيده ومخالفة لنهيه ومنعه من الخوض في المقدمات العقلية، فيكون القطع الحاصل من سلوك هذا الطريق ناتج عن تقصير من العبد، وإذا كان كذلك حسن عقابه بحكم العقل، ولم تثبت المعذرية لقطعه، والنهي من المولى إرشاد لهذا الحكم.
أما المقترح الثاني وهو جعل المنجزية عبر النهي المولوي لمن يقتحم الطريق العقلي فهو مقترح صحيحٌ لكن بعد ترميمه؛ لأن المنجزيّة للقطع حكم عقلي غير قابل للجعل والرفع، فلا حاجة في المقام لأن يجعل المولى حكمًا طريقيًا بالمنجزية، وإنّما النهي إرشادٌ لحكم العقل بالمنجزية.
وبيان ذلك: إنَّ القاطع الذي نشأ قطعه من الخوض في المقدمات العقلية إذا قطع قطعًا مصيبًا فالحكم الواقعي متنجز في حقه، وإذا قطع قطعًا غير مصيب فالحكم الواقعي متنجزٌ في حقه أيضًا.
أما الأول فالوجه فيه واضحٌ.
وأما الثاني فالوجه في تنجز الحكم الواقعي على المكلف رغم عدم وصول الحكم الواقعي إليه، هو الجهل المركب الناشئ عن التقصير في تحصيل الحكم الشرعي بالخوض في أحكام العقل التي هي موطن الاشتباه والخطأ، وقد نهى المولى عن الخوض فيها حفظًا لملاكاته وأحكامه نهيًا يرشد إلى تنجز الحكم الواقعي في حال عدم إصابة القطع للواقع.
والمحصل: إنَّ النهي من المولى عن الخوض في المقدمات العقلية ليس الغرض من ورائه جعل حكم لا نفسي ولا طريقي، بل الغرض منه الإرشاد إلى منجزيّة الحكم الواقعي في حال عدم مصادفة القطع للواقع، أو الإرشاد إلى عدم معذرية القطع في حال عدم مصادفته للواقع. وقد تقررت عدة نتائج ننبه عليها:
النتيجة الأولى: إنّ المشكلة في النهي عن القطع إنما تكون مشكلة ثبوتية تستلزم التناقض فيما إذا كان النهي عن القطع بالمباشرة، لا ما إذا كان النهي عن مناشئ حصول القطع.
النتيجة الثانية: إنّ النهي عن مناشئ القطع تترتب عليه ثمرتان:
الثمرة الأولى: عدم تعرض المكلف للمناشئ الموجبة للقطع المفوت لأحكام المولى.
الثمرة الثانية: أنه لو حصل للمكلف القطع من تلك المناشئ المنهي عنها فإن للنهي الذي أنشأه المولى ثمرة وهي أنه إذا التفت إلى النهي الذي أنشأه المولى بعدم التعرض لمناشئ القطع كان التفاته كفيلًا بزلزلة قطعه، وانقلابه ظنًا أو شكًا.
النتيجة الثالثة: إنَّ الجاهل بالجهل المركب الناشئ عن تقصير منه غير معذورٍ عقلًا، ومن مصاديق ذلك القاطع قطعًا غير مصيب للواقع من مناشئ نهى المولى عنها.
النتيجة الرابعة: إنّ النهي عن القطع باعتبار مناشئه لا يكون إلا إرشاديًّا.
كتبه
مهدي الجمري
بتاريخ: ١٥ ربيع الثاني ١٤٤٥ هـ