نادر الملاح
9 محرم 1445 هـ، 28 يوليو 2023
فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، أكبر بنات الإمام الحسين عليه السلام. شهدت واقعة الطف بكامل أحداثها وتفاصيلها، وأُخِذت مع السبايا إلى قصر عبيد الله بن زياد في الكوفة، ثم إلى قصر يزيد بن معاوية عليهم جميعاً لعنة الله في الشام (تاريخ الإسلام للذهبي، ج7 ص442). عالمةٌ فاضلةٌ تقيةٌ فصيحةٌ كريمةُ الأخلاق مُحدِّثة، ولرواياتها عنايةٌ ومكانةٌ خاصة عند الشيعة والسنة، وعلى وجه الخصوص ما يتعلق بأهل البيت عليهم السلام. أجمع الناقلون على أنها عليها السلام كانت تشبه جدتها بضعة رسول الله فاطمة الزهراء عليها وأبيها وآله الكرام أفضل الصلاة وأزكى السلام، ومن ذلك ما نقله الشيخ المفيد في الإرشاد (ج2 ص25)، والشيخ الطبرسي في إعلام الورى (ج1 ص418)، وأبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبين (ص122)، وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق (ج70 ص10). كانت عليها السلام تُكنَّى بفاطمة الصغرى، وذلك تمييزاً لها عن فاطمة الكبرى بنت أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه.
أمها أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله التميمية، وهي أرملة الإمام الحسن عليه السلام، تزوجها الحسين بعد استشهاد أخيه بوصية من أخيه الإمام عليه السلام. وعلى هذه الزيجة، يستند المؤرخون في تحديد عمر فاطمة عليها السلام يوم الطف بتسع أو عشر سنين، حيث لم يرد في ما وصل إلينا من مصادر تاريخٌ محدد لولادتها. فلما كان استشهاد الحسن عليه السلام سنة 50 للهجرة، فقد قدَّر أهل العلم ولادتها عليها السلام سنة 51 للهجرة. إلا أن في المسألة نظرٌ وأقوال، حيث إن فاطمة أكبر من أختها سكينة بنت الرباب، وقد قُدِّر عمر سكينة بـ18 أو 19 سنة في يوم الطف، كما ذهب إلى ذلك السيد الأمين في أعيان الشيعة، وعلى هذا يكون أحد التقديرين موضع تساؤل، فإما أن عمر سكينة أقل من 9 في ذلك اليوم أو أن فاطمة أكبر من ذلك، وهذا ما يصطدم مع أساس تقدير عمرها، وهو زواجها من الحسين بعد استشهاد أخيه الحسن عليهما السلام كما تقدم، إلا أن تكون أمها غير أم إسحاق، وهذا ما لم يقل به المحققون، والله أعلم.
ومما يُستند عليها في إثبات وجودها في كربلاء عدة نصوص، منها ما نقله الشيخ الصدوق في أماليه (228) بإسناده عن عبدالله بن الحسن المحض عن أمه فاطمة بنت الحسين عليها السلام، حيث قالت: "دَخَلَتْ الغاغة علينا الفسطاط، وأنا جارية صغيرة، وفي رِجليَّ خلخالان من ذهب، فجعل رَجلٌ يَفضُّ الخلخالين من رجلَيَّ وهو يبكي، فقلتُ ما يُبكيك يا عدو الله؟! فقال: كيف لا أبكي وأنا أسلبُ ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله؟! فقلتُ: لا تسلبني، فقال: أخافُ أن يجيء غيري فيأخذه" وقالت: "وانتهبوا ما في الأبنية حتى كانوا ينزعون الملاحف عن ظهورنا". ونقل المجلسي في بحار الأنوار (ج45 ص61) أن أحد فرسان جيش عمر بن سعد تبعها وضربها بكعب الرمح على ظهرها، فسقطت على وجهها فخرم أذنها وأخذ قرطها وترك الدماء تسيل على خدها. وكذلك ما رواه ابن نما الحلي في مثير الأحزان (ص78)، وذكره أبو مخنف الأزدي في مقتل الحسين عليه السلام (ص224)، وذكره آخرون: "قال علي بن الحسين عليه السلام: أُدخلنا على يزيد ونحن اثنا عشر رجلاً مغللون، فلما وقفنا بين يديه قلت: أنشدك الله يا يزيد ما ظنك برسول الله لو رآنا على هذه الحال؟! فقالت فاطمة بنت الحسين عليها السلام: يا يزيد أبنات رسول الله سبايا؟! فبكى الناس وبكى أهل داره". وغير هذا من النصوص لدى الشيعة والعامة، ومنها ما نُقل من خطبةٍ لها عليها السلام عندما دخل ركب السبايا إلى الكوفة، وسيلي نصها في هذه المقالة.
وكانت فاطمة بنت الحسين عليهما السلام مستودع أسرار العترة. فقد نقل الكليني في الكافي (ج1 ص304) روايةً مرفوعةً لأبي جعفر الباقر عليهما السلام، فيها: "إن الحسين بن علي عليهما السلام لما حضره الذي حضره، دعا ابنته الكبرى فاطمة بنت الحسين عليها السلام، فدفع إليها كتاباً ملفوفاً ووصيةً ظاهرة، وكان علي بن الحسين عليهما السلام مبطوناً معهم لا يرون إلا أنَّه (أي أنينه) لما به، فدفعت فاطمة الكتاب إلى علي بن الحسين عليه السلام، ثم صار والله ذلك الكتاب إلينا يا زياد. قال: قلتُ: ما في ذلك الكتاب جُعلتُ فداك؟ قال: فيه والله ما يحتاج إليه وُلدُ آدم منذ خلق الله آدم إلى أن تفنى الدنيا، والله إن فيه الحدود، حتى أن فيه أرش الخدش".
تزوجت عليها السلام من ابن عمها الحسن المثنى (الحسن بن الإمام الحسن عليه السلام)، وولدت منه عبدالله المحض، وإبراهيم الغمر، والحسن المثلث، وزينب كما جاء في عمدة الطالب (ص101) وتذكرة الخواص لسبط بن الجوزي (ص280)، ثم بعد وفاة الحسن المثنى، تزوجت عبدالله بن عمرو بن عثمان وولدت منه محمد المعروف بالديباج، والقاسم، ورقية (الطبقات لابن سعد، ج8 ص473). وكانت وفاتها سنة 117 للهجرة، وهي ذات السنة التي توفيت فيها أختها سكينة وعمتها فاطمة بنت أمير المؤمنين عليهم السلام، أي بعد 56 سنة من واقعة الطف، وبذلك تكون قد أدركت أربعةً من أئمة أهل البيت عليهم السلام هم أبوها الإمام الحسين، وأخوها الإمام علي بن الحسين، وابنه الإمام محمد الباقر، وابنه الإمام جعفر الصادق عليهم جميعاً ونبينا الكريم أفضل الصلاة وأزكى السلام. ولم تدخر عليها السلام خلال هذه السنوات جهداً في فضح جرائم يزيد وبني أمية. ولهذا السبب، ولِمَا كان يحظى به أولادها وأحفادها من مكانة مرموقة بين شيعة أهل البيت عليهم السلام، عاشوا جميعاً بين مطارد ومضطهد وقتيل على أيدي حكام بني العباس (تاريخ الطبري، ج6 ص183).
خطبتها في الكوفة:
بدأ مشوار فاطمة بنت الحسين عليهما السلام في فضح جرائم أعداء الله مباشرة بعد أحداث واقعة الطف، حيث لما بلغ ركب السبايا الكوفة وأُدخل النساء والأطفال مقيدين بالأصفاد في مجلس ابن زياد لعنه الله، خطبت زينب الكبرى عليها السلام خطبةً أرعبت فيها أعداء الله، فلما سكتت، تصدت فاطمة الصغرى عليها السلام لمقارعة القوم بخطبة بليغةٍ فصيحةٍ تملأ فقراتها ثقافة القرآن الكريم والدين القويم، وثَّقت فيها استشهاد أبيها الحسين عليه السلام، وذكرت مناقب جدها أمير المؤمنين عليه السلام وشهادته، وخذلان أهل الكوفة إياه، وفضائل البيت النبوي صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وذمَّت ووبخت أهل الكوفة على أفعالهم. وقد نقل هذه الخطبة الطبرسي في الاحتجاج، والسيد ابن طاووس في اللهوف مع تفاوتٍ يسير. وفي ما يلي نص الخطبة نقلاً عن كتاب الاحتجاج (ج2 ص28)، مع التذكير بأن صاحبتها عليها السلام لم تكن حينها قد تجاوزت التسع سنوات من عمرها الشريف على ما تقدم من تقدير:
"الحمدُ لله عَدَدَ الرَّمل والحصى، وزِنةَ العرش إلى الثَّرى، أحمُدُه وأُؤمِنُ به وأتوكّل عليه، وأشهدُ أن لا إله إلاّ اللهُ وحدَه لا شريك له، وأنّ محمّداً عبدُه ورسوله، وأنّ أولاده ذُبِحوا بشطّ الفرات، بغير ذَحْلٍ ولا تِرات!
اللهمّ إنّي أعوذ بك أن أفتريَ عليك الكَذِب، أو أن أقول عليك خلافَ ما أنزلتَ عليه مِن أخذ العهود لوصيّه عليّ بن أبي طالبٍ عليه السّلام، المسلوبِ حقُّه، المقتولِ مِن غير ذَنْب كما قُتِل وَلَدُه بالأمس، في بيتٍ من بيوت الله فيه معشرٌ مُسلِمةٌ بألسنتهم، تَعْساً لرؤوسهم! ما دَفَعَتْ عنه ضَيماً في حياته ولا عند مماته، حتّى قبَضْتَه إليك محمودَ النَّقيبة، طيّبَ العَريكة، معروفَ المناقب، مشهورَ المذاهب، لم تأخُذْه فيك اللَّهُمّ لَوْمَةُ لائم، ولا عَذْلُ عاذِل، هدَيْتَه اللهمّ للإسلام صغيراً، وحَمِدتَ مَناقبَه كبيراً، ولم يَزَل ناصحاً لك ولرسولك صلّى الله عليه وآله، حتّى قبضتَه إليك زاهداً في الدنيا غيرَ حريصٍ عليها، راغباً في الآخرة، مجاهداً لك في سبيلك، رَضِيتَه فاختَرتَه فهدَيتَه إلى صراطٍ مستقيم.
أمّا بعدُ يا أهل الكوفة! يا أهل المَكْرِ والغَدر والخُيَلاء، فإنّا أهلُ بيتٍ ابتلانا اللهُ بكم وابتلاكم بنا، فجعَلَ بلاءنا حَسَناً، وجعَلَ عِلمَه عندنا وفَهمَه لدينا، فنحن عَيْبَةُ عِلْمِه، ووعاءُ فهمه وحكمته، وحجّتُه على الأرض في بلاده لعباده، أكرَمَنا الله بكرامته، وفَضَّلَنا بنبيّه محمّدٍ صلّى الله عليه وآله على كثيرٍ ممّن خلَقَ تفضيلاً بيّناً، فكذّبتمونا وكفّرتمونا، ورأيتم قِتالَنا حلالاً، وأموالَنا نَهْباً، كأنّنا أولادُ تُركٍ وكابُل كما قتلتُم جَدَّنا بالأمس، وسيوفُكم تَقطرُ مِن دمائنا أهلَ البيت؛ لحقدٍ متقدّم! قَرَّت لذلك عيونُكم، وفَرِحتْ قلوبكم، افتراءً على الله ومكراً مكرتُم، واللهُ خيرُ الماكرين.
فلا تَدْعُوَنّكُم أنفسُكُم إلى الجَذَل بما أصَبتُم مِن دمائنا، ونالتْ أيديكم مِن أموالنا؛ فإنّ ما أصابنا من المصائب الجليلة، والرَّزايا العظيمة، في كتابٍ مِن قَبلِ أن نَبْرأها، إنّ ذلك على الله يسير، لكي لا تأسَوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم، واللهُ لا يحبّ كلَّ مُختالٍ فَخور.
تَبّاً لكم! فانتظِروا اللعنةَ والعذاب، فكأنْ قد حَلَّ بكم، وتَواترَت من السماء نَقِماتٌ فيُسْحِتَكم بعذاب، ويُذيقَ بعضَكم بأسَ بعض، ثمّ تُخَلَّدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتُمونا، ألا لعنةُ الله على الظالمين!
وَيْلكم! أتَدرون أيّةُ يدٍ طاعَنَتْنا منكم، وأيّةُ نَفْس نَزَعَتْ إلى قتالنا، أم بأيّة رِجْلٍ مَشَيتُم إلينا تَبغُون مُحاربتَنا؟! واللهِ قَسَتْ قلوبُكم، وغَلظتْ أكبادُكم، وطُبع على أفئدتكم، وخُتم على سمعكم وبصركم، وسَوّلَ لكمُ الشيطانُ وأملى لكم، وجعل على أبصاركم غِشاوةً فأنتم لا تهتدون.
فتَبّاً لكم أهلَ الكوفة! أيَّ تِراتٍ لرسول الله صلّى الله عليه وآله قِبَلَكُم! وذُحولٍ لديكم بما صَنَعتم بأخيه عليِّ بن أبي طالبٍ جَدّي، وبَنيه وعِترتهِ الطيّبين الأخيار، فافتخرَ بذلك مفتخِرُكم فقال:
قد قَتَلْنا عليّـاً وابــنَيْ عليٍّ *** بسيوفٍ هنديّـةٍ ورمـاحِ
وسَبَينا نساءهم سَبْيَ تُرْكٍ *** ونَطَحناهُـمُ فـأيّ نِطاحِ!
بفِيك أيُّها القائلُ الكَثْكَثُ والأثْلِب! أَفتَخَرتَ بقتلِ قومٍ زكّاهمُ الله وطَهّرَهم، وأذهَبَ عنهم الرِّجس؟! فاكْظِمْ، وأقْعِ كما أقعى أبوك، فإنّما لكلّ امرئٍ ما كسَبَ وما قَدَّمتْ يداه.
وحَسَدتمونا، وَيْلاً لكم، على ما فضَّلَنا الله!
فما ذَنْبُنا إنْ جاشَ دهراً بُحورُنا *** وبَحرُكَ سـاجٍ ما يُواري الدَّعـامِصا
ذلكَ فَضْلُ اللهِ يُؤتيهِ مَن يشاءُ واللهُ ذو الفضلِ العظيم، ومَن لم يَجعَلِ اللهُ له نُوراً فما له مِن نُورٍ".
وارتفعت الأصواتُ بالبكاء والنحيب، وقالوا: حَسْبُكِ يا ابنةَ الطيّبين؛ فقد أحرَقْتِ قلوبَنا، وأنضَحْتِ نُحوَرنا، وأضْرَمتِ أجوافَنا.. فسكتَتْ عليها السلام.
السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين.
اللهم ثبتنا على ولاية الطاهرين، واهدنا سواء السبيل، وأحسن خواتيم أعمالنا إلى خير ما تحب وترضى، إنك أنت السميع المجيب، وصلي يا رب وسلم وزد وبارك على محمد وآله الطاهرين، وارزقنا في الدنيا ولايتهم، وفي الآخرة شفاعتهم، وتوفنا على هذا العهد برحمتك يا أرحم الراحمين.