إن أفضل وأخصر طريقٍ للتواصل بين الناس هو الكلام، فالألفاظ -وهي الحروف المشتملة على الحروف الهجائية- تشكل وجودًا مهمًا جدًّا في حياتنا، فإننا في حال أردنا أن ننقل إلى ذهن أحدٍ شيئًا التجأنا إليها، سواء كان هذا الشيء موجودًا خارجيًا أو ذهنيًا أو مكتوبًا، وإن كانت الكتابة تُعد مرحلةً متأخرةً بعد اللفظ، وما ذلك إلا لكوننا نبحث عن دوالٍّ أكثر دقةٍ من غيرها، فالدوال التي ننقل المدلولات من خلالها ليست منحصرةً في الألفاظ، فالخطوط دوال، والإشارات دوال، والأصوات دوال، والألوان دوال، في حال وُضعت لتدل على شيء، لكن أشمل الدوال والأكثر شيوعًا واستعمالًا هي الألفاظ، كما وأنها الأقدر على إيصال المدلولات إلى الأذهان. وعليه فأنت ترى أن الألفاظ كانت مصبَّ بحث العلماء في الكثير من العلوم، ولم تقتصر على علمٍ دون آخر، وما ذلك إلا لما مرَّ من أهميتها البالغة، وفي ذات الوقت -وهو يؤكد أهميتها من جهةٍ أخرى- تجد المفسدين والعابثين يلجؤون إليها في عبثهم وفسادهم لما لها من أثرٍ بليغٍ وعظيمٍ في التغييرات الثقافية الكبيرة.
في هذه المقالة آخذُ القارئ الكريم في جولةٍ سريعةٍ في بعض المباحث اللفظية المتداولة في شتى العلوم، ليأخذ معي إطلالةً استطلاعيةً مفيدة، ثم أبني بعض الأمور المهمة على ذلك.
مباحث وضع الألفاظ في علم أصول الفقه:
تبحث كتب أصول الفقه في مباحث الألفاظ في أولها كمقدمةٍ لما يأتي من مباحث، وقد عدَّها بعض العلماء من مباحث نفس العلم لما لها من دخلٍ في الغرض الذي دُوِّن من أجله هذا العلم، ويُبحث فيها عن الوضع والواضع وأقسام الوضع وبعض الأصول والمداليل اللفظية، إلا أنني أكتفي بالحديث في بعض ما يتعلق بالوضع بما يناسب المقام.
أما معنى الوضع إجمالًا فهو جعلُ وتخصيصُ الألفاظ بمعانيها، فيكون لدينا وجودان، وجودٌ حقيقي للمعنى، مثل (الحيوان المفترس الزائر الموجود بالخارج)، ووجودٌ اعتباري تنزيلي للفظ، مثل (أسد) الحاكي عن المعنى السابق الذكر، وبعد هذا الوضع -على اختلافٍ في كيفيته وتفسيره- يحصل نوعٌ من الاتحاد بين اللفظ والمعنى بنحوٍ من الأنحاء، فيكون التلفظ بهذا اللفظ إحضارًا لذلك المعنى في ذهن السامع وكأنه المعنى، فتحضر في ذهنه صورةٌ عن ذاك المعنى، فيتحقق غرض التفاهم عن طريق الكلام، وقد وصف الشيخ محمد رضا المظفر (رحمه الله) الحالة في كتاب المنطق في أول مباحث الألفاظ، فقال: "فإذا حصل هذا الارتباط القوي لدى الذهن يصبح اللفظ عنده كأنه المعنى، والمعنى كأنه اللفظ، أيْ يصبحان عنده كشيءٍ واحد"، وهو ما نجده فعلا بوجداننا ما لم نكن في حالة تحليلٍ وتدقيق.
ثم إن الوضع لا يصح إلا في حال تصور المعنى بأحد وجهين: فإما أن نتصوره بنفسه، أو نتصوره بوجهه؛ أيْ بما هو أوسع منه، وبعد ذلك نتمكن من الوضع، وإلا لم يصح وضعنا للفظ، وذلك لأننا نريد من خلال اللفظ أن نُحضر نفس الصورة الذهنية المطلوبة كما هي لا أننا نضع كما نريد وفقط، ولذلك تجدنا لا نتمكن من وصف شيءٍ خارج حدود الزمن لأننا لا نتمكن من الإحاطة به، وبالتالي لا يمكننا أن نضع له لفظًا مناسبًا، ولا طريق لنا حينها إلا الاستعانة بكلام الوحي والمعصوم.
هنا أكتفي بهذا المقدار وأسأل: ماذا لو قام أحدهم بوضع لفظٍ من الألفاظ لم يتصوره بنفسه ولا بوجهه، أو تصوره كما هو لكنه وضع لفظًا لا يناسب المعنى المتصور؟
مباحث الألفاظ في علم المنطق:
تبدأ بعض كتب المنطق على الأقل بحسب اطلاعي البسيط بمباحث الألفاظ كذلك، وتتداول مجموعةً مهمةً مما يتعلق بها، فتتعرض لتقسيمات الألفاظ، والدلالة وأقسامها، والعلاقات بين الألفاظ بما لها من معان، وغيرها من المباحث.
وقد تعرَّض الشيخ المظفر (رحمه الله) إلى شيءٍ لا يُذكر عادةً في علم المنطق إن لم يكن متفرِّدًا بطرحه، وهو بحث الوجودات الأربعة، وبيَّن وجود أربعة أقسامٍ للوجود، هي: الوجود الخارجي، والوجود الذهني، والوجود اللفظي، والوجود الكتبي. وهي هكذا على الترتيب، وقال إن الوجودين الخارجي والذهني هما الوجودان الحقيقيان، وإن الوجودين اللفظي والكتبي هما الوجودان الاعتباريان، وإن كان عُرضةً للنقاش لكن هذا يكفي هنا، أما وظيفة الوجود اللفظي فهي كما سبق إحضار المعاني في الأذهان، والوجود الكتبي تابعٌ لهذا الوجود اللفظي، ثم تتفرَّع مجموعة من المباحث على ذلك، من أهمها مبحث الدلالة.
الدلالة كما عرَّفها الشيخ عبد الهادي الفضلي (رحمه الله) في خلاصة المنطق هي: "ما يُوجب إدراك شيءٍ بسبب إدراك شيءٍ ملازمٍ له"، أو هي الكاشفية كما عرَّفها الشيخ محمد صنقور (حفظه الله) في أساسيات المنطق لفظيًا، ثم تنقسم الدلالة إلى أكثر من قسم، إلى ينتهي التقسيم إلى الدلالة اللفظية الوضعية، وهي القسم الذي يكون مدار البحث ومحوره، ثم تُقسَّم هذا الدلالة إلى ثلاثة أقسام: المطابقية، والتضمنية، والالتزامية. ولا تخرج دلالة الألفاظ عن هذه الثلاث، ولتقريب الفكرة وبيان أهميتها أمثل بالتالي: وضعنا لفظ (كتاب) للمعنى الخارجي المعروف المتكون من الأوراق والغلاف والمكتوب على أوراقه وغيرها، وبالتالي نتمكن من استخلاص ثلاث دلالات من استعمالنا لهذا اللفظ، وللتقريب أكثر أذكر أكثر من استعمال لهذه اللفظ، فأقول:
إذا أردتَ شراء كتابٍ من المكتبة فإنك تقول للبائع: (أريد شراء هذا الكتاب)، فيعطيك الكتاب كاملًا، لأن لفظ كتاب دل عليه بالمطابقة فشملت كل أجزائه، ولا يمكن أن يَنزع الغلاف ويعطيك الكتاب دونه، فإنك تطالبه بكتابٍ مع غلافه، وهذه الدلالة مطابقية.
ولو مزَّق ابنك ورقةً من أحد كتبك فإنك قد تغضب وتنهره وتقول: (لماذا مزَّقت الكتاب؟)، ألا ترى أنك قلت (كتاب) وأنت تريد الورقة المتضمنة في الكتاب، وصح إطلاقك لكلمة الكتاب على الورقة الممزقة؟ هذا ما نسميه الدلالة التضمنية، حيث إنك استعملت اسم الكل وأردت جزءًا متضمنًا فيه.
وأما دلالة الكتاب على القراءة، فهي على نحو الملازمة، فإن الكتب ألفت وكتبت من أجل أن تقرأ، فإذا تلفظ أحدنا بلفظ كتابٍ يتبادر إلى أذهاننا معنى القراءة، مع أن القراءة ليست كل الكتاب ولا جزءًا منه، وهذه هي الدلالة الالتزامية.
وهنا ينقدح سؤالٌ آخر: هل يصح أن نستعمل لفظًا في معنى لا يدل عليه لا بالمطابقة ولا بالتضمن ولا بالملازمة، ولا بالمجاز (المناسب) للمقام؟
في علوم اللغة العربية:
أما في علوم اللغة العربية فلا يخفى أن البحث فيها يرتبط ارتباطًا وثقيًا بنفس الألفاظ، وهذه نماذج لها:
في علم النحو:
في تعريف الكلمة وكذلك الكلام يشترطون أن تكون الكلمات موضوعةً بالوضع العربي، من ذلك تعريف ابن آجُّروم للكلام في متن الآجُّرومية، قال: "الكلام هو اللفظ المركب المفيد بالوضع"، وأراد منه اللفظ الموضوع للمعنى على قواعد اللغة العربية وبأحرفها، فإن الكلام ما لم يكن كذلك لا يعتبره العرب كلامًا ويسمونه بتسمياتٍ أخرى، ولا أظن هذا من الترف الفكري فتنبه.
في علم البلاغة:
يتكفل علم البلاغة بعلومه الثلاثة (البيان والمعاني والبديع) بمسائل في غاية الأهمية في اللغة العربية، وينقسم البحث فيها إلى أقسامٍ عديدة، إلا أن ما يكفي في المقام هو ما يذكر في أول المباحث، وهو اشتراط سلامة الكلمة من أمورٍ حتى تكون فصيحة، وهي -كما في جواهر البلاغة للسيد أحمد الهاشمي- أربعة:
- تنافر الحروف.
- غرابة الاستعمال.
- مخالفة القياس.
- الكراهة في السمع.
وبعيدًا عن تفاصيل هذه الأمور الأربعة أُنبه على أمرٍ يتعلق بها، وهو الأثر الذي يمكن أن تتركه الكلمة المحتوية على بعض هذه العلل حال استعمالها في معنًى معين، في مقابل الأثر الذي ستتركه كلمةٌ أخرى ليس فيها هذه العلل حال استعمالها في نفس المعنى، ولا يخفى وضوح الفرق، حيث إن الإنسان يستعمل الألفاظ بحسب المقام، وقد يتعمد استعمال لفظٍ كريه في السمع أو حروفه متنافرة أو غير ذلك ليؤثر في نفس المتلقي، ومنه استعمال الألفاظ العذبة في المحبوب، والألفاظ الخشنة الثقيلة القبيحة في المبغوض، لكنني أُبين أثره النفسي بنقل الكلام التالي على لسان الشيخ المظفر (رحمه الله) في كتاب المنطق، حيث قال في بيان الارتباط بين اللفظ والمعنى: "والشاهد على هذا الارتباط والاتحاد انتقال القبح والحسن من المعنى إلى اللفظ وبالعكس، فإن اسم المحبوب من أعذب الألفاظ عند المحب، وإن كان في نفسه لفظًا وحشيًّا ينفر منه السمع واللسان، واسم العدو من أسمج الألفاظ، وإن كان في نفسه لفظًا مستملحًا. وكلما زاد هذا الارتباط زاد الانتقال، ولذا نرى اختلاف القبح في الألفاظ المعبر بها عن المعاني القبيحة، ونحو التعابير عن عورة الإنسان، فكثير الاستعمال أقبح من قليله، والكناية أقل قبحًا، بل قد لا يكون فيها قبحٌ كما كنَّى القرآن الكريم بالفروج".
هذا الكلام من الشيخ (رحمه الله) له جوانب نفسية مهمة، ويرتبط بما ذكرناه من عيوبٍ في الكلمة تخرجها عن الفصاحة، وإن كان كلامه أوسع مما يتعلق بنفس الألفاظ بما لها من حروف.
سؤالٌ آخر: إذا كانت الكلمات لها هذا الأثر النفسي العظيم، هل يتركها الشيطان وجنوده ويتجاوزونها دون استثمار؟
مسائل الترادف والمجاز:
الترادف عبارةٌ عن اشتراك عدة ألفاظٍ في دلالتها على معنًى واحدٍ بأن تكون وُضعت للدلالة عليه، وقيل بعدم وقوعه في اللغة العربية وذلك لأن الألفاظ الموضوعة لُوحظ فيها حيثياتٌ معينةٌ في المعنى الموضوع له فوضعت له بالنظر إلى الحيثية، وعلى القول بوجود الترادف وعدم وجوده تبقى نفس الجهة التي أريدها حاضرةً، وهي وجود حيثياتٍ معينةٍ في المعنى تستدعي استعمال اللفظ بما يناسب هذه الحيثية إذا كان مقام الكلام يقتضي ذلك، ومن المشهورات في الترادف ترادف ألفاظ (سيف، وبتار، وقاطع، وحسام) وغيرها على ذات المعنى، إلا أن كل الألفاظ أو بعضها لاحظنا فيها حيثياتٍ معينةً، وبالتالي عند الاستعمال يتعين أن نستعمل اللفظ المناسب للمقام والحيثية التي نريدها، فإذا أردتُ أن أشيرَ إلى أن هذا السيف حادٌّ جدًّا بما يؤدي لبتر الأعضاء أختار لفظ (بتار)، وهكذا غيره من الألفاظ بحسب جهات النظر، فتبين أن استعمال الألفاظ ليس من الأمور التي يصح التهاون فيها في حال كان المقام يستدعي النظر في بعض جهات المعنى وبيانها.
هذا بالنسبة إلى الترادف، أما المجاز فهو استعمال اللفظ في غير ما وضع له مع وجود المناسبة التي يستحسنها الطبع السليم، لا أيَّ استعمالٍ للفظ في غير ما وضع له، فإنه من دون مناسبةٍ يستحسنها الطبع يكون الاستعمال غلطًا لا مجازًا، وهذا يكفي لبيان ضرورة التحرز في الاستعمالات المجازية، ولا بأس بهذا المثال، فإن الأسد يتميز ببعض الصفات، منها القوة الشجاعة، ومنها أن رائحة فمه كريهة، لكننا نجد العرب استحسنت واستعملت لفظ الأسد مجازًا للدلالة على شجاعة الرجل، لكنها لم تستحسن استعمال اللفظ مجازًا في مَن تكون رائحة فمه كريهةً مثلا، فتقول: (رأيتُ أسدًا يرمي) للدلالة على شجاعة هذا الرامي، لكنك لا تقول: (رأيتُ أسدًا يأكل) للدلالة على أن رائحة فمه كريهة، فليس المجاز من الأمور التي يستهان بها.
إذًا، ادعاء استعمال بعض الألفاظ في بعض المعاني على أنها مترادفةٌ، أو ادعاء أنه استعمالٌ مجازي، لا ينبغي أن يمر مرور الكرام دون التفاتٍ وتدقيق، ثم أسأل: أليس المفسدون وأهل الباطل بقادرين على استثمار مثل هذه المسألة في فسادهم؟
المعاجم اللغوية:
تحمل الألفاظ إرثًا دلاليًّا مهمًّا، ويزداد أهميةً كلما كان عميقًا في تاريخ الإنسان، فاللفظ الذي نعلم استعماله قبل خمسة عشر قرنًا مثلًا، يختلف عن اللفظ الذي بدأ استعماله قبل عقدين من الزمن، فشتان بين ما يحمل الأول وبين ما يحمل الثاني، وقد قرأتُ في بعض البحوث قبل بضع سنين أن هناك جماعةٌ في المغرب العربي تعمل على إخراج معجمٍ لغويٍّ تاريخي، يسعون من خلاله لتتبع أوائل استعمالات اللفظ وما له من دلالة، ثم تحولاته وتوسعه وتضيقه وما إلى ذلك من أحوال مع ملاحظة تاريخ هذه التحولات ومن سبَّب هذا التحول، وهذا إن تم فهو جهدٌ علميٌّ جبار، له منافع عظيمةٌ للباحثين وأهل المعرفة. اللفظ الذي وجد قبل مئات السنين يحمل معه كل تلك المعاني السابقة بما لها من تحولاتٍ وتاريخ، أما اللفظ الذي جاء حديثًا ولا يتجاوز العقدين أو الثلاثة -مثلًا- فلا يحمل ذلك الإرث، بالإضافة إلى أنه مدعاةٌ للبحث وراء غاياته، وإلا فما الداعي لوضع لفظٍ حديثٍ لمعنًى موجودٍ له ألفاظه التي تناسبه؟
الخطابيات والمغالطات:
يقوم الإعلام العالمي -لا سيَّما الذي يقع تحت الأيادي الفاسدة للدول الكبرى والاستكبار العالمي- على كمياتٍ كبيرةٍ من الخطابيات والمغالطات، ويبتعد أكثر ما يبتعد عن البراهين، ولذلك أسبابٌ كثيرةٌ بالطبع، لكن غايته القصوى -بعيدًا عن التفاصيل الآن- هو السيطرة على عموم الناس، وهذه الغاية تقتضي أن يسيطر عليهم ثقافيًّا، وهذا لا يمكن أن يعتمد فيه على البراهين لأنها لا تصب في صالح الثقافة الفاسدة، فينتقض غرضه باتباعها، أما الخطابيات والمغالطات فهي أفضل طريقٍ لما يبتغيه، فإنها تُمكِّنه من الابتعاد عن مخاطبة العقول والانتقال لمخاطبة العواطف والأوهام، وتفصيل الكلام في الخطابة والمغالطة يجده الباحث في مباحث الصناعات الخمس فلا أطيل، لكنني أربط كلامي هنا بأصل الكلام، حيث إن هؤلاء يلجؤون إلى العبث في الألفاظ والمفاهيم من جهةٍ، ويعبثون بالمعارف والقضايا من جهةٍ أخرى، والأول منهما -وهي الألفاظ والمفاهيم- هو ما أريد، فتجدهم يختلقون مجموعةً من الألفاظ والمصطلحات من أجل تغييراتهم الثقافية.
ومن ذلك لفظ (المثلية)، فقد استعاضوا به عن لفظ (اللوطية) وغيره، ومشاكلُ استعمال هذا اللفظ في المعنى الموضوع له كثيرةٌ جدًّا، فهو أولًا -بالرجوع للسؤال الأول- لا يناسب المعنى المتصوَّر، فإنه لا ينطبق عليه انطباقًا تامًّا، فإن الخلل في اللواط والسحاق ليس كونه ممارسةً بين فردين من جنسٍ واحدٍ وفقط، بل هو بالإضافة إلى كونه ممارسةً بين متماثلي الجنس له حيثياتٌ أخرى لا تجعله مجرد تماثلٍ وانتهى، ثم أنه أمرٌ غير طبيعي مخالفٌ للفطرة وقد حرَّمه الله تعالى، فلا ينطبق هذا اللفظ انطباقًا دقيقًا على الحالة المذكورة، كما أنه يفكِّك علاقةَ ارتباطٍ طويلةٍ بين اللفظ والمعنى، والتي لا تزول إلا وفق ضوابط معينةٍ مذكورةٍ في محلها، وهي غير موجودةٍ في المقام ولن توجد. والنتيجة أن هذا اللفظ لا يصح وضعه لحالة اللوطية المقصودة.
أما دلالة لفظ (المثلية) على الحالة القبيحة المذكورة فليس هو من قبيل المطابقة فهو أعم من المعنى، وإن كان يمكن أن نقول إن اللواط والسحاق مصاديق للتماثل في أقصى درجات التنازل مِنَّا، لكن هذا شيءٌ ووضع اللفظ لنفس المعنى على نحو المطابقة شيءٌ آخر، وكونه أعم -مع التحفظ- لا يغني عن وجود اللفظ الخاص بهذه الحالة، وهو موجود، فلا يصح الاكتفاء بالأعم منه مع وجوده.
أما كون اللفظ حسنًا أو قبيحًا، أو ما يدل عليه من معنًى حسنًا أو قبيحًا، فإن ما يقتضيه المقام، وهو مقام زجر، استعمال الألفاظ والمعاني المنفرة عن هذه الحالة القبيحة، لذلك تجد القوم استبدلوا لفظ (اللواط) و (اللوطية) بلفظ (المثلية)، وذلك لأن هذا اللفظ الأخير أخف وطأةً على النفوس، بل قد يكون مستحسنًا عندها، بخلاف اللفظين الأولين، وبالتالي يكون التغيير المنشود ممكنًا باللفظ الأخير ولا يكون ممكنًا بهما، لذلك أقول استعمال الأخير لا يناسب المقام مطلقًا، أما الأولين فهما ما ينبغي استعمالهما، بل إن استعمال لفظ (شذوذ) كذلك غير صحيح، لكنه أقل سوءًا من استعمال اللفظ المصطلح عليه من أنصار اللوطية.
أما الاكتفاء بالترادف على التسليم بوجوده بين (المثلية) و (اللوطية) -إذ أقطع بعدم الترادف بينهما- لا يناسب بالنسبة لنا على أقل تقدير كمسلمين، فلا بد من التنفير عن هذه الحالة لمكان الحرمة الشرعية، وإلا فلا ترادف بين اللفظين أصلًا، فاستعمال اصطلاحهم هذا يكون في غير ما وضع له، وقد يُدَّعى المجازية، فأقول هذا لا يصح أيضًا، فإن المجازية تحتاج إلى وجود مناسبةٍ يستحسنها الطبع السليم بين المعنيين، والمناسبة مفقودةٌ، وعلى فرض وجودها فالطبع السليم لا يستحسن هذا الاستعمال، فيتعين أن هذا الاستعمال غلطٌ فلا هو على نحو الحقيقة ولا على نحو المجاز.
خاتمة:
من أهم أدوات المفسدين والمستكبرين وأعداء الإنسان والدين أداة العبث في الدوال والمدلولات، فإن الدوال يمكن أن تتحكم في المداليل في بعض الحيثيات والجهات، لا سيَّما الدال اللفظي، وبالنظر لمثالنا السابق يمكن أن نقرر ما يلي: لفظة (اللوطية) تحمل معها إرثًا ثقيلًا منذ زمن قوم لوط إلى يومنا هذا، وهذا الثقل شرعيٌّ وإنسانيٌّ كذلك، ولعل الإنساني يعود إلى أول محط أبينا آدم (عليه السلام) على هذه الأرض، ثم إن هذه الكلمة صارت ثقيلةً على سامعها ومنفرةً وغير مستساغة، ودلالتها على مدلولها واضحةٌ للجميع، وهي المناسبة للمقام، ولها آثارها النفسية العميقة جدًّا، وفي المقابل اللفظ المستحدث (المثلية)، لفظٌ جديدٌ لا ثقلَ فيه لا شرعيًّا ولا إنسانيًّا، ولا يدل على الحالة المقصودة بالمطابقة، ولا تشمئز منه النفوس، ولا يناسب المقام إذ المقام مقام ردعٍ وزجرٍ لا أقل عندنا نحن المؤمنون بالله تعالى.
هذا مثالٌ واحدٌ من عملٍ جبارٍ وكبيرٍ يقومون به لحرف الناس عن الصراط والتحكم بهم، ويعملون ليلًا ونهارًا من خلال كل وسائل الإعلام لبث هذه المصطلحات والألفاظ بين الناس، فتتحول إلى مستساغةٍ ثم تحل محل الألفاظ والمصطلحات السابقة، فيغيرون ثقافة الأجيال القادمة من خلالها. لذلك لا يصح التهاون في هذا مطلقًا.
أما دور الإعلام فهو أساسي في عملهم، ويحتاج إلى مقالٍ منفصل، وأرجو أن أوفق لذلك قريبًا.
محمود سهلان العكراوي
الأربعاء 14 جمادى الأولى 1445هـ
الموافق 29 نوفمبر 2023م