عندما نريد أن نتحدث كمسلمين عن المعارف الإنسانية والدينية ربما كان من البديهيات والمسلمات أن نبدأ بالبحث عنها من النصوص الدينية (القرآن والسنة) وليس هذا إغفال لدور العقل، بل للعقل دور في تشكيل المعارف، ولكن في هذه الآونة طرحت عدة نظريات تخص الفهم النصي أخذت على عاتقها التشويش المتعمد أو النابع من جهل بنوعيه تجاه ما للنص من قيمة في تشكيل المعارف من خلال تفريغ النص من مضمونه أو تعطيله من خلال طرح الإشكالات على طريقة الفهم، وهذا ما ترمي إليه الهرمنوطيقا الفلسفية.
فالهرمنوطيقا يقصد بها اليوم الاتجاه الباحث عن مسائل ترتبط بالنص وطبيعته وعلاقته بالتراث والتقاليد وبين النص والمؤلف، ومن هنا كان لها تأثيرا على النتاج الإسلامي لكونه وحيانيا.
وهذه النظرية (الهرمنوطيقا الفلسفية) نشأت في القرن العشرين وطرحت كنظرية على يد (غادامر) حيث منح هذا المفكر المصطلح (الهرمنوطيقا) منحىً فلسفيا حيث بحث عن حقيقة الفهم لا منهج الفهم.
وهذه النظرية تبتني على عدة نقطة أهمها:
1/ إن النص هوية مستقلة عن مؤلفه وليس الهدف من تفسير النص الوصول إلى قصد المؤلف ومن هنا برز مصطلح (موت المؤلف) تأكيداً لعدم أهمية قصد المؤلف.
2/ لا يمكن الوصول للحقيقة عن طريق المنهج الموضوع، حيث أن عملية الفهم تتجاوز المنهج، وعملية الفهم عملية حوارية بين المفسر والنص.
3/ إن عملية الفهم متكونة من أفقين أفق النص وأفق المفسر فلهذا لابد للمفسر أن يكون صاحب قبليات وخلفيات وقناعات ثقافية لها الدور الكبير في تكوين الفهم.
4/ ليس للنص تفسير نهائي ومطلق ثابت.
5/ لا يمكن الوصول للفهم الواقعي الموضوعي للنص للاختلاف الزماني بين المفسر والنص.
6/ ليس هناك معيار لتقييم التفسيرات المتعددة وذلك لكون الفهم متعددا والتعدد مفروض للمفسر على النص فلا أفضلية في البين.
هذا ما يمكن أن يفهم من كلامهم وهذا القول مخالف لما تسالم عليه المسلمون ومخالف لصريح ما دلت عليه النصوص، حيث أن للشريعة الإسلامية جهات بالإمكان أن تتعدد فيها القراءات أو تتغير فيها الأحكام للعامل الزماني مثلا أو غير ذلك ولكن ليس ذلك في كل الشريعة، فبعض النصوص صريحة وواضحة لا يختلف في فهمها اثنان بل خلافها قد يعد كفراً لكونها من الضروريات والمسلمات فلا تقبل القراءات المتعددة مع الاعتراف منذ البدء بوجود فهم واحد واقعي حقيقي قد نصيبه وقد لا نصيبه، وهذا ما لا تؤيده هذه النظرية، والذي لا يختلف فيه وهو واضح الدلالة من النصوص وعبر عنه الفقهاء بالنص والذي قد يحتمل معانٍ أخرى ولكن هناك معنى أكثر وضوحا وجلاءً من النص عبروا عنه بالظاهر، وهذا الظهور هو الظهور النوعي لا الشخصي لذي يستظهره الشاذ من قراء النص.
* ولفهم النصوص الدينية لابد من إدخال عناصر أخرى تفيدنا في فهمه من قبيل النحو والبلاغة ومبادئ الفلسفة والأصول، بل لابد من قراءة التاريخ جيدا حتى نفهم مدلول النص حسب وقوعه لا حسب وقوعنا نحن عليه، فالإطلاع على حضارة عصر التشريع وبكل ما يرتبط بفهم المدلول النصي جانب مهم لكل من يريد فهم النصوص لكي يراعي المبادئ العامة للتشريع الإسلامي.
* وهذه النظرية، بل وكل قول لا ينهض بنفسه في مقام الاحتجاج إلا إذا اسند إلى شارع أو عقل فالظنون لا يمكن اعتبارها حجة كهذه النظرية إلا إذا التمسنا لها دليلا شرعيا أو عقليا يصححها، ولابد أن يكون الدليل على حجية الظن من قبيل هذه النظرية قطعيا يقينيا لا ظنيا وإلا توقف الظن على الظن وهو توقف الشئ على نفسه وهو محال عقلا. فلهذا فمسألة الإسناد إلى ليل عقلي قطعي لإثبات الحجية لأي ظن أو قول موضع اتفاق بين العقلاء فضلا عن المسلمين، فلهذا ترى الباحث الفقهي عندما يريد أن يؤصل أصلا أو يكتشف قاعدة ما لا يكتفي بالعمل بمقتضى مؤداها، بل يلتمس لها قبل ذلك سندا قطعيا من شرع أو عقل تحقيقا للجزم واليقين، فلاقطع أساس كل الحجج.
* وهذه النظرية تفتح باب الشك وباب السفسطة النصية إن صح التعبير التي لا تؤمن بالواقعية، حيث أن هذه النظرية لا تؤمن بوجود فهم واحد واقعي للنص فلهذا أغفلت دور المؤلف ودعت إلى الاهتمام بالقارئ المتأثر بقبليات ونزعات شخصية، وهذه الرأي لا يتلاءم مع التصور الإسلامي الذي يؤمن بثبات الشريعة فحلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة فالأصالة للنص لا للمفسر والقارئ ، ولا يحتج علينا بان هناك أحكام قد تغيرت في الشريعة، لأننا نقول لم تتغير الأحكام وإنما تغير الموضوع والأحكام تابعة لموضوعاتها فإذا تغير الموضوع انصب عليه حكم أخر وإن عبروا بأن الحكم تغير فهذا تسامح واضح.
* إذا كانت جميع القراءات والآراء نسبية كما تفضل أصحاب هذه النظرية فلماذا دافعوا عن هذه النظرية وهي كذلك لا تملك الواقعية والحقيقة حول الفهم وهذا هو التناقض بعينه.
* ونحن لا ننكر احتياج المفسر إلى معلومات مسبقة لأجل فهم النص لكن ليس كما يدعون، وإنما نحتاج إلى معلومات تؤثر في استخراج المعنى المراد من النص الديني وهو المعبر عنه في علم الأصول بالمعنى الجدي أي نحتاج إلى معلومات تساعدنا على فهم النص لا لتبني لها رأيا يخالف النص وتغير معنى النص وتخرجه عن محتواه ففرق بين ذلك.
* والقول بإمكان القراءات المختلفة لجميع النصوص يؤدي إلى عدم اقتناع المسلم بتعاليمه الإسلامية حيث لا يعلم أن ما يعتقده ويعمل به هل هو ما أراده الإسلام أم لا أو صاغته أيد بشرية بقبليات مسبقة فهذه النظرية تريد أن تقول أنه ليس للإسلام تعاليم حقيقية؟
* إن الاعتقاد بصحة كل تفسير ومشروعية كل تفسير تفتح المجال لإمضاء الأفكار المنحرفة لأن التفسير خاضع لقبليات وقناعان ومتبنيات مسبقة وهذا ما تستهدفه التعددية، فيلزم من ذلك مشروعية كل قراءة وتبريرها لكونها أحد القراءات إذاً الظلم والفسق والجور والانحراف الفكري مشروع حسب القراءة.
* هذه النظرية تجعلنا ملزمين بأن نقول أن الرسول صلى الله عليه وآله والأئمة من بعده عليهم السلام عجزوا عن إيصال مقاصدهم إلى الناس وهذا يلزمنا القول بان بعثة النبي وإنزال القرآن عبث.
* وأخيرا نقول هناك كثيرا من النصوص دلت على بطلان هذا الرأي منها:
قال تعالى:
وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً
وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً
ورد عن الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) قال الله جل جلاله: "ما آمن بي من فسر برأيه كلامي" وعنه (صلَّى الله عليه وآله) أيضا قال: "أكثر ما أخاف على أمتي من بعدي رجل يتأول القرآن يضعه على غير مواضعه" وايضاً "من قال في الدين برأيه فقد اتهمني"، و"من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار".