نادر الملاح
10 محرم 1445 هـ، 29 يوليو 2023
عقيلة بني هاشم سليلة البيت النبوي الشريف زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام، سيدة كربلاء وبطلتها التي حَمَلت على عاتقها مسؤولية الركب الحسيني من كربلاء إلى الكوفة ثم إلى الشام ثم إلى مدينة رسول الله بعد استشهاد الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وألْجَمَت الأفواه، وفَضَحت الطغاة والظلمة، فرسمت منهج الخلود لنهضة الحسين عليه السلام. أُمُّها بَضْعَةُ رسول الله صلى الله عليه وآله الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها ونبينا الكريم وآله الطاهرين أفضل الصلاة وأزكى التحية والسلام.
كان مولدها الشريف صلوات الله وسلامه عليها في الخامس من جمادى الأولى في السنة الخامسة للهجرة، وهي المولود الثالث لأمير المؤمنين وسيدة نساء العالمين بعد الحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين. تصغر الحسين بسنة واحدة، والحسن بسنتين، وكان عمرها الشريف في واقعة الطف 55 سنة. واسم زينب مُخففٌ لكلمة "زينة الأب" (موسوعة عاشوراء، جواد محدثي، ص224).
كانت صلوات الله عليها معروفة بالتقوى والورع والزهد والعفاف والشجاعة ورباطة الجأش، فصيحة اللسان، شاعرة متكلمة، راوية مُحدِّثة، رَوَت عن جدها المصطفى وأمها سيدة النساء وأبيها أمير المؤمنين صلوات الله عليهم أجمعين، وهي من رواة خطبة الزهراء عليها السلام المعروفة بالخطبة الفدكية، وكان لها من العمر آنذاك قرابة 6 سنوات، حيث كان استشهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الحادية عشر من الهجرة، وكانت ولادتها في السنة الخامسة من الهجرة كما تقدم. وَصَفها الإمام المعصوم زين العابدين عليه السلام بأنها "عالمةٌ غير مُعَلَّمَة، فَهِمةٌ غير مُفهَّمة" (الاحتجاج للطبرسي، ج2 ص31). كان الإمام الحسين عليه السلام يقوم لها احتراماً وإجلالاً لعظيم قدرها ومقامها.
من ألقابها عقيلة بني هاشم، وعقيلة الطالبيين، والمُوثَّقة، والعارفة، والعالمة، والفاضلة، والكاملة، وعابدة آل علي. وفي أعقاب كربلاء صار لقب (بطلة كربلاء) لصيقاً بذكرها صلوات الله وسلامه عليها، لِمَا أبهرت به الأنظار والعقول من بطولة وشجاعة وصبر ورباطة جأش.
زوجها هو ابن عمها عبدالله بن جعفر بن أبي طالب، ولها منه ولدان هما محمد وعون، وكلاهما قضى شهيداً بين يدي سيد الشهداء الحسين عليه السلام في يوم الطف، فهي حفيدة شهيد وبنت شهيدين، وأم شهيدين، وأخت شهداء، بنتُ إمامٍ وأختُ إمامين، وعمَّةُ إمامٍ من نسله ثمانية أئمة معصومين، آخرهم الحجة المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف.
جاء في عوالم الإمام الحسين (ص277) أن ابنها محمد بن عبدالله بن جعفر قد خرج لملاقاة الأعداء وهو يرتجز:
نشكو إلى الله من العــــدوانِ
قتال قومٍ في الردى عمــيانِ
قد تركوا معــالــم القــــرآنِ
ومحكم التنزيل والتبــــــيانِ
وأظهروا الكفر مع الطغيانِ
وكان أخوه عون بن عبدالله بن جعفر يرتجز:
إن تنكروني فأنا ابن جـعـفــر
شهيد صدق في الجنان أزهـر
يطير فيها بـجـــناح أخـضـــر
كفى بهذا شرفــــاً في المحشر
أما زوجها، عبدالله بن جعفر بن أبي طالب، فأبوه جعفر الطيار عليه السلام، وأمه أسماء بنت عميس التي تزوجها أبو بكر بعد استشهاد جعفر، ثم تزوجها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بعد وفاة أبي بكر. كان عبدالله أولَ وليدٍ مُسلم في الحبشة، حيث وُلد حين هجرة أبيه إلى الحبشة، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوليه الكثير من الرعاية لمكانة أبيه الذي كان قائداً من قادة الجيش، واستُشهد في موقعة مؤتة، كما كان يوليه أمير المؤمنين عليه السلام رعاية خاصة أيضاً. كان عبدالله بن جعفر من الموالين المخلصين لأمير المؤمنين وللإمامين الحسن والحسين عليهما السلام، وأشد المدافعين عن ولاية أمير المؤمنين عليه السلام وإمامة الحسنين صلوات الله عليهما، لا تأخذه في الله لومة لائم، وقد تحدث مراراً في مجلس معاوية حول حقانيَّة أهل البيت وعدم شرعية حكومة بني أمية (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج6 ص180-181). قال فيه ابن عبد البر، وهو من علماء السنة: "وكان عبدالله بن جعفر كريماً جواداً ظريفاً خليقاً عفيفاً سخياً يُسمى بحر الجود، ويقال أنه لم يكن في الإسلام أسخى منه" (الاستيعاب، ج3 ص881)، وقال الفخر الرازي: "وهو من الأسخياء الأربعة من بني هاشم" (الشجرة المباركة، ص202)، وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (ج3 ص456): "والسيد العالم، أبو جعفر القرشي الهاشمي، الحبشي المولد، المدني الدار، الجواد بن الجواد ذي الجناحين، له صحبة ورواية". وقال فيه السيد الخوئي رضوان الله تعالى عليه، في معجم رجال الحديث: "جلالة عبدالله بن جعفر الطيار بن أبي طالب بمرتبة لا حاجة معها إلى الإطراء، ومما يدل على جلالته أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يتحفظ عليه من القتل، كما كان يتحفظ على الحسن والحسين عليهما السلام ومحمد بن الحنفية…"، وقال العلامة الحلي قدس سره: "من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، كان جليلاً قليل الرواية…".
لماذا لم يشارك عبدالله بن جعفر في واقعة الطف؟!
تناول الكثير من الباحثين والكُتَّاب مسألة عدم مشاركة عبدالله بن جعفر في واقعة الطف، وتنوعت الاستنتاجات والاستدلالات في ما طُرح. وواقع الحال أنه لم يرد أمرٌ صريحٌ في شأن عدم مشاركته رضوان الله تعالى عليه، إلا أنه بالنظر في بعض النصوص، وفي مواقفه الكثيرة قبل وبعد واقعة الطف، فإنه لا يملك المنصف إلا أن يقول أنه لابد وأن يكون هناك عذرٌ لعدم مشاركته، إلا أنه ربما لم يصل إلينا كما هي حال الكثير من التفاصيل والدقائق التي إما أن تكون قد طالتها يد العبث، أو أنها تعرضت للإتلاف، أو أنها ربما تكون موجودة في مكان ما لم يتم العثور عليها بعد، أو لغير ذلك من أسباب.
فعلى الرغم من عدم مسير عبدالله بن جعفر إلى كربلاء مع الحسين، إلا أنه كان مناصراً للنهضة الحسينية، وقد أذن لزوجته زينب الكبرى بالرحيل مع أخيها الحسين، وأرسل معه ابنيه محمد وجعفر. وذكر الشيخ المفيد في الإرشاد (ج2 ص124) أنه "دخل بعض مَوَالي عبدالله بن جعفر بن أبي طالب عليه السلام، فنعى إليه ابنيه فاسترجع، فقال أبو السلاسل مولى عبدالله: هذا ما لقينا من الحسين بن علي، فحذفه بنعله ثم قال: يا ابن اللخناء، أللحسين تقول هذا؟! والله لو شهدته لأحببت ألا أفارقه حتى أقتل معه، والله إنه لمما يسخى بنفسي عنهما ويعزيني عن المصاب بهما أنهما أصيبا مع أخي وابن عمي مواسيين له، صابرين معه. ثم أقبل على جلسائه فقال: الحمد لله، عز عليَّ مصرع الحسين، إلا أكن آسيت حسيناً بيدي فقد أساه وُلدي"، ونقل هذا الحدث ابن الأثير والطبري في تاريخه أيضاً. ويُفهم من قوله (والله لو شهدته لأحببت ألا أفارقه حتى أقتل معه) أن عدم التحاقه بالحسين لم يكن تخلفاً منه وإنما كان لأمرٍ حال دون ذلك، والله أعلم.
نعم، استند البعض في رأيهم بالقول بمعارضة ابن جعفر لثورة الحسين عليه السلام على ما نقلته كتب التأريخ من مراسلات ومواقف، وميوله رضوان الله تعالى عليه إلى الحلول الدبلوماسية إن صح التعبير وكراهته للحرب، وتساهله في التعامل مع الأمويين، إلا أن كل ما خلُص إليه أصحاب هذا الرأي لا يعدو كونه استنتاجات، وكذلك ما خلص إليه الفريق الآخر، إذ سكتت كتب التأريخ -كما تقدمت الإشارة- عن بيان سبب عدم حضوره في كربلاء. ونقول، إن هذا السكوت في حد ذاته رغم أن عبدالله بن جعفر كان شخصية ذات مكانة، وكان حدث نهضة الحسين عليه السلام حدثاً غير اعتيادي، ليبعث الريبة ويدعو إلى التريث والتأمل وعدم الاستعجال في الحكم. ولو سلمنا جدلاً بصحة تلك الآراء السلبية، فإنه من اللازم أن نُذكِّر بأن عدداً من خواص الشيعة وكبار بني هاشم قد عجزوا عن إدراك وفهم حركة الإمام الحسين عليه السلام، ولم ينظروا لهذه النهضة من المنظور الإلهي وإنما من منظور حساباتهم العادية والتي قادتهم إلى الحكم عليها سلفاً بالفشل. ونقول، إن مسألة المشاركة في واقعة الطف كان فيها من اللطف الإلهي ما فيها، وكان التوفيق الإلهي للمشاركة من نصيب أصحاب البصيرة والإيمان الخالص والولاية الحقة، وليس معنى ذلك أن كل من لم يشهد المعركة لم يكن له نصيبٌ من اللطف الإلهي، حيث تبين بعد أحداث هذه الواقعة أن لبعض تلك الشخصيات أدوارٌ قد كتبها الله تعالى شأنه انتصاراً لهذه النهضة المباركة.
الصمود الزينبي:
تُعرف عقيلة بني هاشم السيدة زينب صلوات الله وسلامه عليها في الأوساط الشيعية باسم (أم المصائب). وليست هذه التسمية مرتبطة فقط بما شهدته في كربلاء، بل ما شهدته على امتداد حياتها منذ نعومة أظافرها، حيث كانت أول فاجعة شهدتها هي استشهاد النبي الأكرم صلوات الله وسلامه عليه في السنة الحادية عشرة للهجرة، ثم اغتصاب الخلافة من أبيها أمير المؤمنين عليه السلام، وهجوم القوم على دار الزهراء عليها السلام، وإسقاط جنينها المحسن، ثم استشهاد أمها الزهراء متأثرةً بمرضها لما اعتراها في يوم الهجوم على الدار، ثم استشهاد أبيها في محرابه الشريف، ثم استشهاد أخيها الحسن بسم زوجته جعدة بنت الأشعث، ثم استشهاد الحسين عليه السلام في كربلاء وما صاحب هذه الشهادة الخالدة من أهوال شملت استشهاد إخوتها الأربعة من أم البنين (العباس وإخوته) وأبناء إخوتها، وابنيها محمد وعون، ثم حرق مخيم الحسين والاعتداء على حرمه، وسلب النساء والأطفال، واقتيادهن أسيرات إلى أعداء الله ورسوله في الكوفة والشام تاركين الجثامين الطاهرة مطروحة على أرض كربلاء بلا غسلٍ ولا كفن بينما رؤوسهم محمولة على رؤوس الرماح أمامها وأمام النساء والأطفال، ثم فُرجة أهل الكوفة والشام على بنات الرسالة، وشماتتهم وشماتة ابن زياد ويزيد وأزلامهما في قتلى وأسرى كربلاء، ثم المبيت في خَرِبة الشام، ثم العودة إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما جرى بعدها من أحداث على يد يزيد بن معاوية عليه وابيه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
وعلى الرغم من كل هذه المصائب والأهوال، إلا أن كل من نقل التأريخ وروى الأحداث لم يكن ليستطيع أن يتجاوز وصف مواقف العقيلة صلوات الله عليها إلا بالإطراء على شجاعتها وصمودها ورباطة جأشها، كاظمةً أحزانها في قلبها، ومُظهرةً فخرها واعتزازها بدفاعها والعترة الطاهرة عن دين الله الحنيف، وعن الأخيار الذين اصطفاهم الله لتأدية هذه الرسالة الخالدة.
فها هي في الكوفة، تقف شامخة الرأس صابرةً مُحتسبة، تخاطب أهلها بعد أن حمدت الله وأثنت عليه، قائلة (الاحتجاج للطبرسي، ج2 ص303-305):
"أَمَّا بَعْدُ يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ يَا أَهْلَ الْخَتْلِ وَالْغَدْرِ وَالْخَذْلِ، أَلَا فَلَا رَقَأَتِ الْعَبْرَةُ وَلَا هَدَأَتِ الزَّفْرَةُ، إِنَّمَا مَثَلُكُمْ كَمَثَلِ الَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً، تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ. هَلْ فِيكُمْ إِلَّا الصَّلَفُ وَالْعُجْبُ وَالشَّنَفُ، وَالْكَذِبُ، وَمَلَقُ الْإِمَاءِ، وَغَمْزُ الْأَعْدَاءِ، أَوْ كَمَرْعًى عَلَى دِمْنَةٍ أَوْ كَفِضَّةٍ عَلَى مَلْحُودَةٍ. أَلَا بِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وَفِي الْعَذَابِ أَنْتُمْ خَالِدُونَ. أَتَبْكُونَ أَخِي؟! أَجَلْ وَاللَّهِ فَابْكُوا فَإِنَّكُمْ أَحْرَى بِالْبُكَاءِ، فَابْكُوا كَثِيراً وَاضْحَكُوا قَلِيلًا، فَقَدْ أَبْلَيْتُمْ بِعَارِهَا، وَمَنَيْتُمْ بِشَنَارِهَا، وَلَنْ تَرْحَضُوهَا أَبَداً. وَأَنَّى تَرْحَضُونَ قَتْلَ سَلِيلُ خَاتَمِ النُّبُوَّةِ، وَمَعْدِنِ الرِّسَالَةِ، وَسَيِّدُ شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَلَاذُ حَرْبِكُمْ، وَمَعَاذُ حِزْبِكُمْ، وَمَقَرُّ سِلْمِكُمْ، وَآسِي كَلْمِكُمْ، وَمَفْزَعُ نَازِلَتِكُمْ، وَالْمَرْجِعُ إِلَيْهِ عِنْدَ مُقَاتَلَتِكُمْ، وَمَدَرَةُ حُجَجِكُمْ، وَمَنَارُ مَحَجَّتِكُمْ، أَلَا سَاءَ مَا قَدَّمَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ وَسَاءَ مَا تَزِرُونَ لِيَوْمِ بَعْثِكُمُ، فَتَعْساً تَعْساً وَنَكْساً نَكْساً، لَقَدْ خَابَ السَّعْيُ وَتَبَّتِ الْأَيْدِي وَخَسِرَتِ الصَّفْقَةُ، وَبُؤْتُمْ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، وَضُرِبَتْ عَلَيْكُمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ.
أَتَدْرُونَ وَيْلَكُمْ أَيَّ كَبِدٍ لِمُحَمَّدٍ (ص) فَرَثْتُمْ، وَأَيَّ عَهْدٍ نَكَثْتُمْ، وَأَيَّ كَرِيمَةٍ لَهُ أَبْرَزْتُمْ، وَأَيَّ حُرْمَةٍ لَهُ هَتَكْتُمْ، وَأَيَّ دَمٍ لَهُ سَفَكْتُمْ؟! لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. لَقَدْ جِئْتُمْ بِهَا شَوْهَاءَ صَلْعَاءَ عَنْقَاءَ سَوْدَاءَ فَقْمَاءَ خَرْقَاءَ كَطِلَاعِ الْأَرْضِ أَوْ مِلْءِ السَّمَاءِ. أَفَعَجِبْتُمْ أَنْ تُمْطِرَ السَّمَاءُ دَماً؟! وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ، فَلَا يَسْتَخِفَّنَّكُمُ الْمَهَلُ فَإِنَّهُ عز وجل لَا يَحْفِزُهُ الْبِدَارُ، وَلَا يُخْشَى عَلَيْهِ فَوْتُ النَّارِ، كَلَّا إِنَّ رَبَّكَ لَنَا وَلَهُمْ لَبِالْمِرْصادِ".
ثم أنشأت تقول:
مَا ذَا تَقُولُــــــونَ إِذْا قَالَ النَّبِيُّ لَكُمْ *** مَاذَا صَنَعْتُمْ وَأَنْتُمْ آخِــــــــــرُ الْأُمَمِ
بِأَهْلِ بَيْتِي وَأَوْلَادِي وتكْـــــــرِمَتِي *** مِنْهُمْ أُسَارَى وَمِنْهُمْ ضُرِّجُوا بِـــدَمِ
مَا كَانَ ذَاكَ جَزَائِي إِذْ نَصَحْتُ لَكُمْ *** أَنْ تَخْلُفُونِي بِسُوءٍ فِي ذَوِي رَحِمِي
إِنِّي لَأَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ يَحُـــــلَّ بِكُمْ *** مِثْلُ الْعَذَابِ الَّـــذِي أَوْدَى عَلَى إِرَمٍ
قال حذيم بن شريك الأسدي عند نقله هذه الخطبة المجلجلة: "لم أرَ والله خَفِرةً قط أنطقَ منها، كأنها تَنْطِقُ وتُفْرِغُ على لسان علي عليه السلام، وقد أشارت إلى النسا بأن انصتوا، فارتدت الأنفاس، وسكنت الأجراء، ثم قالت: أَمَّا بَعْدُ يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ… إلى آخر الخطبة، ثم قال: "فرأيت الناس حيارى، قد ردوا أيديهم في أفواههم، فالتفتَ إليَّ شيخٌ في جانبي يبكي، وقد اخضَلَّت لحيته بالبكاء، ويده مرفوعة إلى السماء، وهو يقول: بأبي وأمي، كهولهم خير كهول، ونساؤهم خير نساء، وشبابهم خير شباب، ونسلهم نسلٌ كريم، وفضلهم فضلٌ عظيم".
وفي الشام، في مجلس يزيد بن معاوية لعنهما الله، لما قام يزيد متشمتاً في نساء العترة الطاهرة، متفاخراً بما فعل في آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قامت عليها السلام، فحمدت الله وأثنت عليه، ثم قالت (اللهوف في قتلى الطفوف، ص181):
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى جَدِّي سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، صَدَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ كَذَلِكَ يَقُولُ: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ.. أَظَنَنْتَ يَا يَزِيدُ حِينَ أَخَذْتَ عَلَيْنَا أَقْطَارَ الْأَرْضِ، وَضَيَّقْتَ عَلَيْنَا آفَاقَ السَّمَاءِ، فَأَصْبَحْنَا لَكَ فِي إِسَارٍ، نُسَاقُ إِلَيْكَ سَوْقاً فِي قِطَارٍ، وَأَنْتَ عَلَيْنَا ذُو اقْتِدَارٍ، أَنَّ بِنَا مِنَ اللَّهِ هَوَاناً وَعَلَيْكَ مِنْهُ كَرَامَةً وَامْتِنَاناً؟! وَأَنَّ ذَلِكَ لِعِظَمِ خَطَرِكَ وَجَلَالَةِ قَدْرِكَ؟! فَشَمَخْتَ بِأَنْفِكَ وَنَظَرْتَ فِي عِطْفٍ، تَضْرِبُ أَصْدَرَيْكَ فَرِحاً، وَتَنْفُضُ مِدْرَوَيْكَ مَرِحاً، حِينَ رَأَيْتَ الدُّنْيَا لَكَ مُسْتَوْسِقَةً، وَالْأُمُورَ لَدَيْكَ مُتَّسِقَةً، وَحِينَ صَفِيَ لَكَ مُلْكُنَا وَخَلَصَ لَكَ سُلْطَانُنَا. فَمَهْلًا مَهْلًا، لَا تَطِشْ جَهْلًا! أَنَسِيتَ قَوْلَ اللَّهِ: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ؟!
أَمِنَ الْعَدْلِ يَا ابْنَ الطُّلَقَاءِ تَخْدِيرُكَ حَرَائِرَكَ وَسَوْقُكَ بَنَاتِ رَسُولِ اللَّهِ سَبَايَا؟! قَدْ هَتَكْتَ سُتُورَهُنَّ وَأَبْدَيْتَ وُجُوهَهُنَّ يَحْدُو بِهِنَّ الْأَعْدَاءُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَيَسْتَشْرِفُهُنَّ أَهْلُ الْمَنَاقِلِ، وَيَبْرُزْنَ لِأَهْلِ الْمَنَاهِلِ، وَيَتَصَفَّحُ وُجُوهَهُنَّ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ، وَالْغَائِبُ وَالشَّهِيدُ، وَالشَّرِيفُ وَالْوَضِيعُ، وَالدَّنِيُّ وَالرَّفِيعُ، لَيْسَ مَعَهُنَّ مِنْ رِجَالِهِنَّ وَلِيٌّ، وَلَا مِنْ حُمَاتِهِنَّ حَمِيمٌ، عُتُوّاً مِنْكَ عَلَى اللَّهِ، وَجُحُوداً لِرَسُولِ اللَّهِ، وَدَفْعاً لِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَا غَرْوَ مِنْكَ وَلَا عَجَبَ مِنْ فِعْلِكَ.
وَأَنَّى يُرْتَجَى مُرَاقَبَةُ مَنْ لَفَظَ فُوهُ أَكْبَادَ الشُّهَدَاءِ، وَنَبَتَ لَحْمُهُ بِدِمَاءِ السُّعَدَاءِ، وَنَصَبَ الْحَرْبَ لِسَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ، وَجَمَعَ الْأَحْزَابَ، وَشَهَرَ الْحِرَابَ، وَهَزَّ السُّيُوفَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ، أَشَدُّ الْعَرَبِ لِلَّهِ جُحُوداً، وَأَنْكَرُهُمْ لَهُ رَسُولًا، وَأَظْهَرُهُمْ لَهُ عُدْوَاناً، وَأَعْتَاهُمْ عَلَى الرَّبِّ كُفْراً وَطُغْيَاناً.
أَلَا إِنَّهَا نَتِيجَةُ خِلَالِ الْكُفْرِ، وَضَبٌّ يُجَرْجِرُ فِي الصَّدْرِ لِقَتْلَى يَوْمِ بَدْرٍ! فَلَا يَسْتَبْطِئُ فِي بُغْضِنَا أَهْلَ الْبَيْتِ مَنْ كَانَ نَظَرُهُ إِلَيْنَا شَنَفاً وَشَنْآناً، وَأَحَناً وَضَغَناً، يُظْهِرُ كُفْرَهُ بِرَسُولِهِ، وَيُفْصِحُ ذَلِكَ بِلِسَانِهِ، وَهُوَ يَقُولُ فَرِحاً بِقَتْلِ وُلْدِهِ وَسَبْيِ ذُرِّيَّتِهِ، غَيْرَ مُتَحَوِّبٍ وَلَا مُسْتَعْظِمٍ:
لَأَهَلُّوا وَاسْتَهَلُّوا فَرَحاً *** وَلَقَالُوا يَا يَزِيدُ لَا تُشَلَّ
مُنْتَحِياً عَلَى ثَنَايَا أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ مُقَبَّلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، يَنْكُتُهَا بِمِخْصَرَتِهِ، قَدِ الْتَمَعَ السُّرُورُ بِوَجْهِهِ! لَعَمْرِي، لَقَدْ نَكَأْتَ الْقُرْحَةَ وَاسْتَأْصَلْتَ الشَّأفَةَ بِإِرَاقَتِكَ دَمَ سَيِّدِ شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَابْنِ يَعْسُوبِ الْعَرَبِ وَشَمْسِ آلِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهَتَفْتَ بِأَشْيَاخِكَ، وَتَقَرَّبْتَ بِدَمِهِ إِلَى الْكَفَرَةِ مِنْ أَسْلَافِكِ، ثُمَّ صَرَخْتَ بِنِدَائِكَ، وَلَعَمْرِي قَدْ نَادَيْتَهُمْ لَوْ شَهِدُوكَ، وَوَشِيكاً تَشْهَدُهُمْ وَيَشْهَدُوكَ، وَلَتَوَدُّ يَمِينُكَ كَمَا زَعَمْتَ شُلَّتْ بِكَ عَنْ مِرْفَقِهَا، وَأَحْبَبْتَ أُمَّكَ لَمْ تَحْمِلْكَ وَأَبَاكَ لَمْ يَلِدْكَ، حِينَ تَصِيرُ إِلَى سَخَطِ اللَّهِ، وَمُخَاصِمُكَ وَمُخَاصِمُ أَبِيكَ رَسُولُ اللَّهِ.
اللَّهُمَّ خُذْ بِحَقِّنَا وَانْتَقِمْ مِنْ ظَالِمِنَا، وَأَحْلِلْ غَضَبَكَ بِمَنْ سَفَكَ دِمَاءَنَا، وَنَقَصَ ذِمَامَنَا، وَقَتَلَ حُمَاتَنَا، وَهَتَكَ عَنَّا سُدُولَنَا، وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ، وَمَا فَرَيْتَ إِلَّا جِلْدَكَ، وَمَا جَزَزْتَ إِلَّا لَحْمَكَ، وَسَتَرِدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ بِمَا تَحَمَّلْتَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَانْتَهَكْتَ مِنْ حُرْمَتِهِ وَسَفَكْتَ مِنْ دِمَاءِ عِتْرَتِهِ وَلُحْمَتِهِ، حَيْثُ يَجْمَعُ بِهِ شَمْلَهُمْ، وَيَلُمُّ بِهِ شَعَثَهُمْ، وَيَنْتَقِمُ مِنْ ظَالِمِهِمْ، وَيَأْخُذُ لَهُمْ بِحَقِّهِمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ.
وَلَا يَسْتَفِزَّنَّكَ الْفَرَحُ بِقَتْلِهِ، وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.
وَحَسْبُكَ بِاللَّهِ وَلِيّاً وَحَاكِماً، وَبِرَسُولِ اللَّهِ خَصِيماً، وَبِجَبْرَئِيلَ ظَهِيراً. وَسَيَعْلَمُ مَنْ بَوَّأَكَ وَمَكَّنَكَ مِنْ رِقَابِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا وَأَنَّكُمْ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا.
وَمَا اسْتِصْغَارِي قَدْرَكَ وَلَا اسْتِعْظَامِي تَقْرِيعَكَ تَوَهُّماً لِانْتِجَاعِ الْخِطَابِ فِيكَ، بَعْدَ أَنْ تَرَكْتَ عُيُونَ الْمُسْلِمِينَ بِهِ عَبْرَى، وَصُدُورَهُمْ عِنْدَ ذِكْرِهِ حَرَّى، فَتِلْكَ قُلُوبٌ قَاسِيَةٌ، وَنُفُوسٌ طَاغِيَةٌ، وَأَجْسَامٌ مَحْشُوَّةٌ بِسَخَطِ اللَّهِ وَلَعْنَةِ الرَّسُولِ، قَدْ عَشَّشَ فِيهِ الشَّيْطَانُ وَفَرَّخَ، وَمَنْ هُنَاكَ مِثْلُكَ مَا دَرَجَ وَنَهَضَ. فَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ لِقَتْلِ الْأَتْقِيَاءِ وَأَسْبَاطِ الْأَنْبِيَاءِ وَسَلِيلِ الْأَوْصِيَاءِ بِأَيْدِي الطُّلَقَاءِ الْخَبِيثَةِ، وَنَسْلِ الْعَهَرَةِ الْفَجَرَةِ، تَنْطِفُ أَكُفُّهُمْ مِنْ دِمَائِنَا، وَتَتَحَلَّبُ أَفْوَاهُهُمْ مِنْ لُحُومِنَا، وَلِلْجُثَثِ الزَّاكِيَةِ عَلَى الْجُبُوبِ الضَّاحِيَةِ، تَنْتَابُهَا الْعَوَاسِلُ، وَتُعَفِّرُهَا الْفَرَاعِلُ، فَلَئِنِ اتَّخَذْتَنَا مَغْنَماً، لَتَتَّخِذُنَا وَشِيكاً مَغْرَماً، حِينَ لَا تَجِدُ إِلَّا مَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ، وَمَا اللَّهُ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، وَإِلَى اللَّهِ الْمُشْتَكَى وَالْمُعَوَّلُ، وَإِلَيْهِ الْمَلْجَأُ وَالْمُؤَمَّلُ.
ثُمَّ كِدْ كَيْدَكَ وَاجْهَدْ جُهْدَكَ، فَوَ الَّذِي شَرَّفَنَا بِالْوَحْيِ وَالْكِتَابِ، وَالنُّبُوَّةِ وَالِانْتِجَابِ، لَا تُدْرِكُ أَمَدَنَا، وَلَا تَبْلُغُ غَايَتَنَا، وَلَا تَمْحُو ذِكْرَنَا، وَلَا تَرْحَضُ عَنْكَ عَارَنَا. وَهَلْ رَأْيُكَ إِلَّا فَنَدٌ، وَأَيَّامُكَ إِلَّا عَدَدٌ، وَجَمْعُكَ إِلَّا بَدَدٌ، يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي، أَلَا لُعِنَ الظَّالِمُ الْعَادِي، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي حَكَمَ لِأَوْلِيَائِهِ بِالسَّعَادَةِ، وَخَتَمَ لِأَوْصِيَائِهِ بِبُلُوغِ الْإِرَادَةِ، نَقَلَهُمْ إِلَى الرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ، وَالرِّضْوَانِ وَالْمَغْفِرَةِ، وَلَمْ يَشْقَ بِهِمْ غَيْرُكَ، وَلَا ابْتَلَى بِهِمْ سِوَاكَ، وَنَسْأَلُهُ أَنْ يُكْمِلَ لَهُمُ الْأَجْرَ، وَيُجْزِلَ لَهُمُ الثَّوَابَ وَالذُّخْرَ، وَنَسْأَلُهُ حُسْنَ الْخِلَافَةِ، وَجَمِيلَ الْإِنَابَةِ، إِنَّهُ رَحِيمٌ وَدُودٌ.
ولما رجعت صلوات الله وسلامه عليها إلى المدينة، مع النساء والأطفال، أقامت المآتم لشهداء كربلاء، ونظمت المراثي، وفضحت فيها الأدعياء، وعَرَّت بني أمية، وعَرَّفت الناس بمخازيهم، وفضحت جورهم وظلمهم وعداءهم لرسول الله صلى الله عليه وآله، ولأهل بيته الميامين. وظلت على هذه الحال حتى انتقلت روحها الطاهرة إلى الرفيق الأعلى سنة 63 للهجرة (وقيل 65 للهجرة)، ودُفنت في الشام في ما يُعرف اليوم بحي السيدة زينب، ويعتقد البعض أن مدفنها الشريف في مصر، غير أن الراجح عند أهل العلم أنه في الشام حيث تُزار اليوم من الموالين من كل أرجاء العالم.
نعم، لقد كرَّست العقيلة زينب صلوات الله عليها حياتها لخدمة دين الله الحنيف، والحفاظ على نهضة الحسين ومضامين وثقافة عاشوراء، التي لاتزال حتى يومنا هذا أكثر الأحداث ألماً، وأشدها تاثيراً في النفس، وشحذاً للهمم في مقارعة الظلم والطغيان، رغم كل ما مرت وتمر به من محاولات الوأد وطمس المعالم وتشويه المعاني والأحداث..
السلام عليك يا سيدتي ومولاتي الطاهرة المطهرة، سليلة الكرام البررة..
السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين..
السلام على أبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين، حامل اللواء الشريف، ساقي العطاشى وناصر الدين..
اللهم ثبتنا على ولاية الطاهرين، واهدنا سواء السبيل، وأحسن خواتيم أعمالنا إلى خير ما تحب وترضى، إنك أنت السميع المجيب، وصلي يا رب وسلم وزد وبارك على محمد وآله الطاهرين، وارزقنا في الدنيا ولايتهم، وفي الآخرة شفاعتهم، وتوفنا على هذا العهد برحمتك يا أرحم الراحمين.