بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على النبي الأمين والسراج المنير أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين.
وبعد، فإنه من المسائل المهمة الابتلائية التي تكون موردا لابتلاء المؤمنين مسألة الخروج عن الوطن وتركه إلى مكان آخر مثل المرأة التي تتزوج وتنتقل إلى مكان غير بلدها ومسقط رأسها، وتعيش هناك وتنجب ويكبر أبناؤها، فهل بهذا المقدار يزول عنها حكم الوطنيَّة بالنسبة إلى بلدها الأصلي ومسقط رأسها؟
فنقول: لا إشكال في زوال حكم الوطنية عن بلد المكلف الأصلي مع تحقق نية الإعراض منه عن توطُّن البلد الأصلي والاستمرار في سكناها.
قال في العروة الوثقى تحت المسألة رقم (٤): "يزول حكم الوطنية بالإعراض والخروج وإنْ لم يتخذ بعد وطنا آخر فيمكن أن يكون بلا وطن مدة مديدة"[1]. وقد أمضاه جميع المحشِّين عليها.
وفي تحرير الوسيلة في ذيل المسألة الأولى من بحث قواطع السفر، قال: "ويزول حكم الوطن مطلقا بالإعراض"[2]. ومقصوده رحمه الله من قوله (مطلقا) أي مطلق أنحاء الوطن من الوطن الأصلي أو العرفي أو الشرعي على القول به.
وقال السيد السيستاني دام ظله الشريف في الفصل الثاني في قواطع السفر تحت المسالة رقم (٩٨٧): "يزول حكم الوطن بالخروج معرضا عن السكنى فيه، وأما إذا تردد في التوطن في المكان الذي كان وطنا ففي بقاء الحكم إشكال والأظهر البقاء بلا فرق في ذلك الوطن الأصلي والاتخاذي"[3].
وهنا أقول: لا إشكال في زوال حكم الوطن العرفي والاتخاذي بالإعراض، ويستدل عليه بأمور:
1/ أن الأحكام معلقة على موضوعاتها وعناوينها فمتى زال الموضوع والعنوان لا يُعقل بقاء الحكم مع ارتفاع موضوعه وزوال عنوانه، فمن عزم على الإعراض وخرج فعلا عنه فقد زال عنه عنوان الوطن، ولا يصدق عليه حينها أنه وطنه إلا بنحو من العناية بلحاظ ما كان، وظاهر الأدلة في اعتبار عنوان الوطن ما هو وطن فعلا لا ما كان.
2/ ظهور الروايات التي تعلق حكم التمام على المرور على الوطن، فإنها ظاهرة في ما يكون وطنا فعلا، ومن هذه الروايات صحيحة حماد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه السلام "في الرجل يسافر فيمر بالمنزل له في الطريق يتم الصلاة أم يقصر؟ قال يقصر إنما هو المنزل الذي توطنه"[4]. فهي ظاهرة في تعليق التمام على ما هو وطنه فعلا والمسألة واضحة من حيث الدليل والفتوى. فلا كلام بين الأصحاب رضوان الله عليهم في أصل الإعراض وإنه موجب لزوال حكم الوطن، وإنما الذي ينبغي التكلم فيه هو بيان مفهوم الإعراض، فنقول:
ليس للإعراض أثر في الروايات، وإن مفهوم الإعراض ليس له حقيقة شرعية بعد عدم وروده في لسان الروايات فيرجع في تفسيره إلى العرف، والعرف يفهم من الإعراض أنه عبارة عن قطع العلاقة والارتباط بوطنه فهو مقابل لمعنى الوطن الذي معناه عند العرف عبارة عن حصول العلاقة الفعليه بين الشخص والمكان. والعرف يرى أن مفهوم الإعراض متقوم بأمرين:
الأول: العزم على ترك الاستمرار في توطنه.
الثاني: الخروج الفعلي منه.
فمجرد الخروج مع عدم العزم على ترك الاستمرار في توطنه لا يُزيل عنه حكم الوطنية وهذا واضح، إذْ لو خرج من وطنه من دون أن يعزم على تركه فلا يُعدُّ في نظر العرف أنه قد زال عنه حكم الوطن، فمن يهاجر من بلده إلى حواضر العلم ويبقى مدة طويلة مع عدم العزم على ترك وطنه، بل مع نية الرجوع إليه فهو ما يزال باق على وطنيته لوطنه.
وأما العنصر الثاني وهو الخروج الفعلي فهو أمر واضح، إذْ لو عزم على ترك وطنه، ولكنه ما زال باقيا فيه لم يخرج عنه بعد فهو في نظر العرف ما زال يصدق عليه أنه وطنه فعلا وحقيقة، فتترتب عليه أحكام الوطن، وعبارة العروة الوثقى واضحة من هذه الجهة حيث ذكر أن الإعراض يتحقق بأمرين: الأول: العزم على ترك البقاء في الوطن. الثاني: الخروج من الوطن فعلا. وفي منهاج الصالحين للسيد السيستاني استظهر بأنه لو تردد في التوطن في المكان الذي كان وطنا له أشكل بقاء حكم الوطن، ووجهه أن الإعراض متقوم بالعزم على ترك الاستمرار في نظر العرف.
ثم أن هنا صور للإعرض:
الصورة الأولى: إذا نوى الإعراض وخرج منه بالفعل بحيث ينقطع ارتباطه عنه، وفي هذه الصورة لا ينبغي الإشكال في زوال حكم الوطنية ويترتب عليه أنه لو مرَّ به في سفره لا ينقطع سفره ويلزمه القصر، ولا اعتبار بكونه وطنا له سابقا.
الصورة الثانية: من قصد الإعراض، ولكنه لم يخرج فعلا، ولا إشكال هنا في بقاء حكم الوطن، فلا يزول حكم الوطن عنه بمجرد قصد الإعراض ويترتب عليه أحكام الوطن.
الصورة الثالثة: ما إذا لم يقصد الإعراض وخرج منه بالفعل وقصد الرجوع إليه بعد مدة طويلة كعشرين سنة مثلا، وظاهر كلمات الأصحاب بقاء عنوان الوطن، ولكن استشكل بعض الأعلام في هذه الصورة بدعوى قطع الارتباط به فعلا وهو محل منع لِما تقدم من أن مجرد الخروج الفعلي مع عدم العزم على ترك الوطن لا يعد إعراضا موجبا لزوال حكم الوطنية عنه.
الصورة الرابعة: وهي ما إذا خرج فعلا من وطنه ولم يقصد الرجوع إليه ولا عدم الرجوع إليه، بل كان خالي الذهن من قصد العودة إليه وقصد عدم العودة إليه فلم يقصد ويعزم على الإعراض عنه، وظاهر كلمات الأصحاب وجوب التمام عليه إذا رجع إليه.
حرَّره أقل العباد:
محمود الحاج حسن بن الحاج علي العالي آل الشيخ البحراني.
في صبيحة اليوم الثالث عشر من شهر الأحزان محرم الحرام لعام ١٤٤١ من هجرة النبي الأعظم عليه وعلى آله الغر الميامين أفضل صلاة المصلين.
..............................................
[1] - العروة الوثقي ج٢ ص ١٤٣.
[2] - تحرير الوسيلة ج١ ص٢٣٤ ط الثامنة.
[3] - منهاج الصالحين ج١ ص ٢٩٨.
[4] - وسائل الشيعة ج٨ ص ٤٩٣ ط آل البيت.