بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
كان الكلام في حرمة الغناء، وقد استعرضنا طائفتين من الروايات الواردة في التفسير والتي يفهم منها بموجب اللغة إطلاق الحرمة للغناء، يعني سواء كان الغناء مصاحباً لآلات اللهو كالعيدان والمزامير وأمثالها أو غير مصاحب، وسواء كان مدلوله باطلاً كالألفاظ المستهجنة والفاحشة أو كان مدلول كلماته حقاً كأن تكون آيات من القرآن أو أشعارا في المواعظ أو غير ذلك، وهناك أيضاً روايات أخرى تدل على هذا المعنى بالإضافة إلى هذه الروايات، منها ما عن الرضا عليه السلام وقد قيل له في خراسان "إن العباسي ذكر أنك ترخص في الغناء، قال: كذب الزنديق، ما هكذا قلت له، سألني عن الغناء فقلت له: إن رجلا أتى أبا جعفر عليه السلام فسأله عن الغناء فقال له: يا فلان إذا ميز الله بين الحق والباطل، فأنى يكون الغناء؟ فقال مع الباطل، قال: قد حكمت"[1].
والعباسي هذا كان في سابق أمره يدعى الهاشمي أو العلوي ثم لقب بالعباسي، ولم يكن هو علوي النسب ولا هاشمي النسب ولا عباسي النسب، وإنما كان منقطعاً إلى أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم، شديد التمسك بهم، لهج بالدعوة إليهم، ومن عادة أهل البيت عليهم السلام مهما يكن عند الإنسان من نوايا يخفيها وهم يعلمون بها يتركونه حتى يكشف نفسه، فلما جاء دور الرضا عليه السلام أخبره بأن المأمون سوف يدعوه لولاية العهد، وأنه بعد ذلك سينكث عليه ويقتله، فبقي يترقب حتى جاء أمر المأمون لنقل الإمام الرضا عليه السلام إلى خراسان، فصحبه ذلك الرجل في السفر، وفي أثناء الطريق أسر له بعض الأسرار المتعلقة ببعض أمور العباسيين، فلما وصل إلى خراسان ودعا المأمونُ الرضا عليه السلام إلى قبول الخلافة وبعد إبائه إباءً شديداً لذلك عرض عليه أن يقبل ولاية العهد، وبعد الإلحاح قبلها شريطة أن لا يأمر بشيء ولا ينهى عن شيء ولا يتدخل في أمور الدولة، تأكد للعباسي أن ما قاله الإمام لا شك واقع، فهو لابد أن ينظر له موضعاً آخر لتحصيل الزعامة والرئاسة، فانخرط في سلك جواسيس بني العباس، وفي سلك الداعين لهم، والمدافعين عنهم، وأخذ يشي بالشيعة ويكذب عليهم، بل لا يبالي من الوشاية بالإمام عليه السلام والكذب عليه، ولشدة دعوته للعباسيين والمدافعة عنهم تبدل لقبه من العلوي أو الهاشمي إلى العباسي.
على أي حال ليس الغرض هو بيان ترجمة العباسي و لكن البيان هو قوله عليه السلام: كذب الزنديق. بعد قول السائل له إن العباسي ذكر أنك ترخص في الغناء، ثم استشهد عليه السلام بكلمة أبي جعفر عليه السلام إذا ميّز الله بين الحق والباطل فمع أيهما يكون الغناء؟ قال: مع الباطل، قال: قد حكمت. فالباطل الذي ليس بحق نوعان - في الحقيقة -، منه ما هو حرام في ذاته ومنه ما ليس بحرام بذاته، فالفكاهة مع الإخوان – مثلاً - والمزح إذا لم تقارنه معصية أخرى باطل؛ لكن ليس محرماً في ذاته وإنما زيادته مكروهة، وكثير من أنواع الباطل مكروه، والعباسي طبعاً لم ينقل عبارة الإمام عليه السلام وإنما نقل عنه أنه يرخص في الغناء، فلو كان كلام أبي جعفر عليه السلام في قوله إذا ميّز الله بين الحق والباطل فمع أيهما يكون الغناء، قال: مع الباطل. لو كان من الباطل غير المحرم لما كان الإمام عليه السلام يكذب العباسي في نقله الرخصة، لأنه عندئذ لو فرضنا أننا نفهم من عبارة أبي جعفر عليه السلام أنه مكروه، وأنه من الباطل غير المحرم، لكان نقله عن الإمام عليه السلام أنه رخّص في الغناء صدقاً وليس كذباً، فوصفه بالزنديق وأنه كاذب، "كذب الزنديق، ما هكذا قلت له"، يعني لم أرخص له؛ أي أن كلامي لا يفهم منه الرخصة بحال ولو من باب الكراهة، وأما استشهاده بكلام أبي جعفر عليه السلام فيدل على أن الذي يفهم من كلام أبي جعفر عليه السلام هو الحرمة بذات الغناء بغض النظر عما يقارنه وما يخالطه، وبغض النظر عن مدلوله وموضوع كلامه؛ سواء كان قرآنا أو موعظة أو دعاء، بل في حد ذاته يكون حراماً فاحشاً.
وهناك أيضاً روايات كثيرةٌ على هذا المعنى، بل روى الثقة المأمون علي بن جعفر الصادق عليه السلام عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام عن الرجل يتعمد الغناء، أيجلس إليه؟ قال: لا. يعني لو أن إنسانا يتعمد أن يغني، هل يصح أن يجلس إليه وهو يتعمد الغناء؟ فإن الإمام عليه السلام يقول: لا. فلو لم يكن الغناء في حد ذاته حراماً لما كان هناك معنى للأمر أو لتحريم الجلوس إليه وزيارته أو القعود معه، طبعاً لابد أن يكون ذلك من أكبر الكبائر حتى يجب مقاطعته، فهو لا يجوز الجلوس إليه مطلقاً.
وأيضاً قوله صلى الله عليه وآله: الغناء عش النفاق. وذلك لما ربما يقال هنا من أنه يفهم من هذه الكلمة أن ذلك باعتبار ما يثيره الغناء المتعارف من كوامن الشهوة و نوازع الرغبات الدفينة في النفس بحيث إنه بعد ذلك تتسلط هذه الرغبات وهذه الشهوات على القلب، فيضطر الإنسان إلى كتمانها عن الناس فيظهر من حاله ما ليس في باطنه فيكون نفاقاً وهذا كافٍ في استهجان الغناء.
وقول موسى بن جعفر عليه السلام في بيع الجواري المغنيات إن بيعهن حرام وشراءهن حرام والاستماع منهن نفاق وتعليمهن كفر. أي تعليمهن الغناء على حد الكفر واستماع الغناء منهن هو نفاق، وثمنهن في بيعهن وشرائهن حرام.
وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وآله في حديث السحت: ومن السحت أجر المغنية. فما تقبضه المغنية من أجر مهما كان نوع غنائها فهو سحت، سواء غناؤها في الأشعار الباطلة الماجنة أو غناؤها بالقصائد التي تتضمن المدح أو القصائد التي فيها الموعظة، فأجرتها حرام وسحت لا يجوز لأحد أن يأكل منه شيئاً.
على أي حال إن حرمة الغناء لذاته مطلقاً ليست محل خلاف عند أحد من الشيعة [رض] مطلقاً، بل كأنما كلماتهم متسالمة، اللهم إلا من واحد منهم – ما دمت قد ذكرت ذلك – وهو النراقي حيث فصّل وقال إن الغناء منه حلال ومنه حرام، ولكن عدا النراقي سواء من القدماء أو المتأخرين الأموات أو الأحياء الموجودين لا يوجد مخالف منهم على أن الغناء في حد ذاته حرام مطلقاً في أي موضوع كان، وليست حرمته بسبب المقارِنات من استعمال آلات اللهو أو – مثلاً – ما يصاحبه من اختلاط النساء بالرجال، أو ما يصاحبه من الرقص أو غير ذلك، بل هو في حد ذاته حرام مطلقاً. وإنما وقع الخلاف بين الفقهاء في موارد:
المورد الأول: المغنية التي تزف العرائس: هل يجوز الغناء في الأعراس في زف العروس إلى زوجها؟ أو أنه لا يجوز الغناء في زف العروس إلى زوجها؟
هذه مسألة من المسائل التي اختلفوا فيها وذلك بسبب وجود الروايات التي اختلفت أنظارهم وأفهامهم لمعانيها، فمنهم من رآها مخصصة لهذه القاعدة وهي الحرمة المطلقة لحرمة الغناء لذاته، وبعضهم لم يفهم منها ذلك، أو بعضهم رأى أن سندها ضعيف، أو حتى مع صحة سندها فإنما هي رواية أو روايتان، وتلك الروايات التي تدل على الحرمة مطلقاً كثيرة ومستفيضة، بل متواترة، وعندئذ لا يقيد ولا يخصص تلك القاعدة بهذه الروايات.
على أي حال فإن القول المشهور عند الشيعة أنه يجوز للنساء أو يجوز للمرأة في الأعراس في زف العروس إلى زوجها، يجوز لهن الغناء بشروط:
الشرط الأول: أن لا يصاحب هذا الغناء شيء من الحرام، كاستعمال آلات اللهو، وآلات اللهو هي الآلات المعدة للهو كالطبل والدف والعود والمزامير وغيرها كالطوس وأمثالها من كل ما يستعمل قديماً أو يخترع حديثاً، وكل آلة أعدت لإخراج هذه الأصوات طبعا؛ لأن هذا في حد ذاته حرامٌ شديد، ومن الكبائر، فلو أن المغنية التي تزف العرائس حملت شيئا من هذه الآلات تكون قد ارتكبت حراماً كبيراً ويجب على النساء في هذه الحالة إذا دخلت وهي تحمل الدف أن يخرجن من العرس، وأن يخيرن أم العروس بأن تخرج هذه التي جاءت تحمل الدف أو هن يخرجن حتى ينقطع المنكر من مجتمع النساء؛ لأنها في هذه الحالة تكون قد ارتكبت حراماً كبيراً، فلو فرضنا أنها تعطى أجرةً على هذا الغناء أو ما يسمى بالجلوة فعندئذ أيضاً هذه الأجرة تكون حراماً وتكون سُحتاً، وإلا فالغناء في الأعراس لزف العرائس بالنسبة إلى النساء كما هو المشهور بين علماء الشيعة هو القول بحليته، مع الشروط التي سنواصل في سردها، لكن لو دخلت بدف واحد فإن ذلك يكفي في تحريم الجلوس معها، وفي استماع صوتها، ومن الغريب أن النساء اللواتي يسمين بالقارئات أو [الملاّيات] في هذا الزمان أصبحن صاحبات فرق غنائية يحملن الدفوف وهن بعد ذلك سيقرأن المراثي على أبي عبدالله الحسين عليه السلام، فينبغي للنساء أن يطهّرن مجتمعهن من أمثال هؤلاء الفاسقات اللواتي يتشبهن بالمتدينات وما هن من الدين في شيء، حتى يتبن إلى الله ولا يحملن الدفوف والطارات معهن.
الشرط الثاني: أن لا يدخل عليهن الرجال، فلو كانت تغني في موضع يدخل فيه الرجال فعندئذ يحرم عليها الغناء ويحرم الجلوس معها، فإن هذا مجلسٌ لا ينظر الله إلى أهله، وفي الحديث لا تؤمن فيه الفجيعة والكارثة أن تقع في ذلك الزواج، إذا كان النساء يختلطن فيه بالرجال.
الشرط الثالث: أن لا يسمع أصواتهن الرجال، أي أن يكون صوت المغنية لا يخرج إلى خارج المكان فيسمعه الرجال الأباعد ويجلسوا ليستمعوه من بعيد، ومع الأسف أنه قبل أيام في إحدى القرى غنت [ملاية] كبيرة جداً على سطح من سطوح تلك القرية المجاورة لنا وهي تحمل مكبراً للصوت، يعني لم يكفها أنها تغني بصوتها إلا أنها حملت معها مكبرة من بيتها لأنها في الحقيقة قد انسلخت عن قضية أهل البيت وصارت من المغنيات، ولكن بما أن القراءة على الحسين فيها أموال فهي لا تريد أن تترك القراءة على الحسين؛ وإلا من تكون هذا شأنها لا تسمى من القارئات على الحسين بل صاحبة فرقة غنائية، شأنها شأن اللواتي يغنين في المحطات التلفزيونية والإذاعية وغيرها، ولا فرق بينها وبينهن بحال من الأحوال، مادامت لا تتقيد بالآداب الشرعية، بل لا ترضى بأن توعظ، وقد حاول أحد أهل تلك القرية وعظها – كما أخبرني – فثارت عليه ولم تتقبل الوعظ.
على أي حال إن مثل هذه لا ينبغي للنساء أن تتركها هي وأمثالها يجلن ويصلن في أعراسهن، بل ينبغي طردهن من الأعراس.
أيضا لو قارنته أمور أخرى محرمة بأن يكون موضوع الأشعار التي تقال في ذلك الغناء باطلة من القول الفاحش أو الماجن كما تستعمله بعض البنات مع الأسف في بعض الأعراس، هذا أيضاً لا يجوز؛ فإن هذه الألفاظ المستهجنة والفاحشة لا ينبغي للمسلمات المؤمنات أن يتلفظن بها، ولا أن يرددنها، وأن لا يقبلن لأنفسهن بسماعها، فإذا كانت التي تزف العرائس أو التي تجلو العرائس تلتزم بالآداب الشرعية التي ذكرناها، فإن الغناء عند المشهور من علماء الشيعة مرخصٌ لهن فيه، وإن كان السيد الخميني [رحمه الله] – مثلا ً – يستشكل استشكالاً كبيراً في حلية ذلك لهن، لكن غيره أيضاً من الأحياء لا يستشكل في هذه الأمور بالإضافة إلى أنه القول المشهور عند الشيعة الإمامية.
المورد الثاني: لا شك أن لكل أمة أعياداً، والأعياد هي مواسم الفرح في تلك الأمة، وللمسلمين عيدان مهمان هما عيد الفطر وعيد الأضحى ولنا نحن الشيعة من المسلمين أيضاً أعياد خاصة، يعني مناسبات دينية هي أعياد خاصة منها عيد الغدير ومواليد الأئمة والنبي صلى الله عليه وآله، فهل في هذه المناسبات يجوز الغناء؟ أو لا يجوز الغناء في هذه المناسبات؟ و لا أعني الغناء الذي تصاحبه الموسيقى أو آلات اللهو، بل هو الغناء المجرد، فينبغي أن تضعوا في أذهانكم أن الاختلاف – بين العلماء – في هذه المسائل بالذات هو اختلاف بالتغني بالأشعار في مثل هذه المناسبات، فعندئذ لا تتوهموا مثلاً أن من يحمل موسيقى أو يحمل طبلاً أو عوداً أو يحمل دفاً أو غير ذلك هو يشمله، لا طبعاً إذا صاحب الغناء أي شيء من آلات اللهو لا يختلفون في الحرمة، ولكن الناس يأتون بأشعار على هيئة الغناء وذلك من أجل اللهو في هذه الأيام التي هي مخصصة للأفراح، فهل يجوز لهم ذلك أو لا يجوز؟ هذه من المسائل التي اختلف فيها العلماء، وسنفصل الكلام فيها وفي بقية المواضع التي اختلفوا فيها في المحاضرة الآتية إن شاء الله.
وصل الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
....................................
[1] - الكافي – ج6 – ص435 – الشيخ الكليني