بسم الله تعالى أبدأ، وعليه أتوكَّل، وبمحمَّدٍ وآل محمَّدٍ (صلوات الله عليهم) أتوسل، حامدًا شاكرا، لنيل رضا الله (عزَّ وجلَّ) راجيا، ولفضله تعالى وعطائه متعرضا، والقرب من آل محمَّدٍ وإمام زماني طالبا.
هذا المقال عبارة عن مقدمةٍ لما يأتي من سلسلة مقالاتٍ بدأت كتابتها مستندًا بالدرجة الأولى إلى روايات كتاب الخِصال للشيخ الصدوق (رضوان الله عليه)، حيث وجدته كتابًا عظيمًا مليئًا بالفوائد، متنوعَ الأبواب، يسير الفهم، وعرفته مُؤدِّبًا ناصحًا لمن ألقى السمع، ومَن سمع القول فاتَّبع أحسنه.
وقد اخترت الانطلاق في هذا العمل من هذا الكتاب لتنوعه في موضوعاته، واختلافه في مستوياتها، فبعضها تأسيسيٌّ وبعضها بنائيٌّ من جهة، وبعضها يتناول جانب العقيدة، وبعضها يتناول جانب الأخلاق والآداب، وغيرها يتناول الجانب الفقهي من جهةٍ أخرى، وما إلى ذلك من الحيثيات والجهات الكثيرة التي لا تخفى على من اطلع على هذا الكتاب العظيم ونهل من ينابيعه.
وقد أسميت هذه السلسلة بعنوان (مِداد أوال من ينابيع الخِصال)، أما القسم الأول من العنوان فلاعتزازي وافتخاري بكوني من هذه الأرض الطاهرة، فنسبت المداد إليها، وأما الثاني فلأنَّ كلامهم (صلوات الله عليهم) ينابيع لا تنضب، وإضافتها للخِصال لأنَّه الكتاب الذي عليه المعتمد والذي منه ينطلق القلم.
وسيكون التركيز بالدرجة الأولى على المواضيع التأسيسية الواردة في نصوص الكتاب، ثم البنائية المرتكزة على تلك التأسيسات، وقد أتوسع أحيانًا في حال وجدت حاجةً لذلك، فالغاية القصوى هي تحقيق أعلى فائدةٍ ممكنةٍ بالارتكاز على هذه الينابيع العظيمة، بما يسمح به الوقت والجهد، راجيًا من القارئ الكريم قبول العذر، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
التمسك بالثقلين الشريفين:
أكد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في رواياتٍ كثيرةٍ وصلت حدَّ التواتر المعنوي على ضرورة التمسك بالثقلين الشريفين لتحصيل الهداية والعصمة من الضلال، ومن تلك الروايات ما نقله الشيخ الكليني (رضوان الله عليه) في الكافي الشريف، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديثٍ: قال رسول اللَّه (صلَّى اللَّه عليه وآله) في آخِر خطبته يوم قَبضَه اللَّه عزَّ وجلَّ إليه: «إنِّي قد تركتُ فيكم أمرينِ لن تضلُّوا بعدي ما إنْ تمسكتم بهما، كتابَ اللَّه وعترتي أهل بيتي، فإنَّ اللطيف الخبير قد عَهِدَ إليَّ أنَّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض كهاتين -وجمع بين مُسبِّحَتيه- ولا أقول كهاتين -وجمع بين المُسبِّحَة والوسطى- فتسبقَ إحداهما الأخرى، فتمسَّكوا بهما لا تزِلُّوا ولا تضِلُّوا، ولا تَقَدَّمُوهم فَتَضِلُّوا» [الكليني، الكافي، ج٢، كتاب الإيمان والكفر، باب نادر، ح1]، وتؤكد الرواية على لسان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أنَّ الصيانة والوقاية من الزلل والضلال أمران متوقِّفان على التمسك بالثقلين الشريفين معا، وأنَّ القرآن الكريم والعترة الطاهرة لن يفترقا -بعهدٍ من الله تعالى- حتى يردا عليه الحوض في إشارةٍ إلى أنَّهما باقيان معًا إلى آخر لحظات هذه الدنيا، بل إلى يوم القيامة، فلا يأتي زمانٌ يخلو هذا العالم منهما، ولا يسبق أحدهما الآخر، فنحن كمؤمنين مطالبون بالرجوع إليهما صادقين في دعوانا، لا مجرَّد تمسكٍ شكلي.
من هنا اخترت في هذه السلسلة الانطلاق من الروايات الشريفة في محاولتي البسيطة للمساهمة في نفع مجتمع المؤمنين حرسهم الله، والتقرب إلى الله (عزَّ وجلَّ) وللطاهرين من أوليائه (صلوات الله عليهم). ولك أن تسأل لماذا اخترت الروايات الشريفة ولم تختر القرآن؟ فأقول: جواب هذا سيأتي في طيات الكلام، ولكنْ من الواضح عندي أنَّ الذي يفهم القرآن بكلِّ تفاصيله وحدوده هم الرسول وأهل بيته (صلوات الله عليهم)، وبالتالي فإنَّنا نتمكن من التمسك بالثقلين الشريفين من خلال الرجوع لهم (صلوات الله عليهم)، وأدلة ذلك واضحةٌ في الروايات الشريفة كما سيأتي.
تبيانا لكل شيء:
قال تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].
وقد اشتهر بين كثيرٍ من الناس وبعض أهل العلم أنَّ القرآن كتاب هدى، لكنَّني أدَّعي أنَّه أكثر من ذلك وأوسع بكثير، لعموم قوله تعالى: {لِكُلِّ شيءٍ}، وإردافه لقوله: {تِبيانًا لِكُلِّ شيءٍ} بقوله: {وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِيْنَ} المُشعر بالمغايرة بين الهدى وغيرها، ويدل على ذلك ما جاء في بعض النصوص الشريفة، منها:
عن جعفرِ بن محمَّد، عن أبيه، عن آبائه، عن عليٍّ صلوات الله عليهم، قال: سلوني عن كتاب الله، فوالله ما نزلت آيةٌ من كتاب الله في ليلٍ ولا نهار، ولا مَسيرٍ ولا مقام، إلا وقد أَقرأَنِيها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وعلَّمني تأويلها، فقام ابن الكواء، فقال: يا أمير المؤمنين، فما كان ينزل عليه وأنت غائبٌ عنه؟ قال: كان يحفظ عليَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ما كان ينزل عليه من القرآن وأنا غائبٌ عنه حتى أقدِم عليه فيُقرِئُنيه ويقول: يا عليُّ أنزل الله بعدك كذا وكذا، وتأويله كذا وكذا، فعلَّمني تأويله وتنزيله. [بحار الأنوار، ج89، كتاب القرآن، ب8، ح1].
عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: إنَّ الله أنزل في القرآن تبيانَ كلِّ شيء، حتى والله ما ترك الله شيئًا يحتاج العباد إليه إلا بيَّنه للناس حتى لا يستطيع عبدٌ يقول: لو كان هذا نزل في القرآن، إلا وقد أنزل الله فيه. [بحار الأنوار، ج89، كتاب القرآن، ب8، ح9].
عن عبد الأعلى بن أعيَن، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إنِّي أعلمُ ما في السماء وأعلمُ ما في الأرض، وأعلمُ ما في الجنة وأعلمُ ما في النار، وأعلمُ ما كان وأعلمُ ما يكون، عَلِمتُ ذلك من كتاب الله، إنَّ الله تعالى يقول: فيه تبيانُ لكل شيء. [بحار الأنوار، ج89، كتاب القرآن، ب8، ح19].
عن أبي جعفرٍ (عليه السلام)، قال: إنَّ الله لم يَدَعْ شيئًا تحتاج إليه الأمَّة إلى يوم القيامة إلا أنزله في كتابه، وبيَّنه لرسوله، وجعل لكلِّ شيءٍ حَدًّا، وجعل عليه دليلًا يدل عليه. [بحار الأنوار، ج89، كتاب القرآن، ب8، ح16].
ثم إنَّ جمع الفوائد العظيمة من كتاب الله وتحصيلها، وإنَّ فهم القرآن الكريم على أكمل وأتمِّ وجهٍ لا يكون إلا بالرجوع إلى من عنده علم الكتاب، ولا يخفى على أحدٍ أنَّ أعلم الناس به من نزل في بيته، ويكفينا في ذلك الروايات الكثيرة التي وردت في هذا المعنى، تصريحًا أو تنبيهًا أو إشارةً أو تلويحا، وأذكر منها:
عن أبي جعفرٍ (عليه السلام) قال: إنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أفضلُ الراسخين في العلم، فقد عَلِمَ جميع ما أنزل الله عليه من التأويل والتنزيل، وما كان الله لينزل عليه شيئًا لم يُعلِّمه التأويل، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلَّه. [بحار الأنوار، ج89، كتاب القرآن، ب8، ح8].
عن أمِّ سلمة، قالت: سمعت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وهو يقول: إنَّ عليًا مع القرآن والقرآن مع علي، لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض. [بحار الأنوار، ج89، كتاب القرآن، ب8، ح6].
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ألا إنَّ العلم الذي هبط به آدم من السماء إلى الأرض وجميع ما فُضِّلتْ به النبيون إلى خاتم الأنبياء عندي، وعند عترة خاتم النبيين (صلوات الله عليهم)، فأين يُتاهُ بكم بل أين تذهبون. [بحار الأنوار، ج89، كتاب القرآن، ب8، ح7].
عن حمَّاد اللَّحام، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): نحن والله نعلم ما في السماوات وما في الأرض، وما في الجنة وما في النار، وما بين ذلك، فَبُهِتُّ أنظر إليه، قال: فقال: يا حمَّاد إنَّ ذلك من كتاب الله، إنَّ ذلك من كتاب الله، إنَّ ذلك من كتاب الله، ثمَّ تلا هذه الآية: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} إنَّه من كتاب الله، فيه تبيانُ كلِّ شيء، فيه تبيانُ كلِّ شيء. [بحار الأنوار، ج89، كتاب القرآن، ب8، ح20].
عن جابر، عن أبي جعفرٍ (عليه السلام)، أنَّه قال: ما يستطيع أحدٌ أنْ يدَّعي أنَّه جَمَعَ القرآنَ كلَّه، ظاهره وباطنه غير الأوصياء. [بحار الأنوار، ج89، كتاب القرآن، ب8، ح26].
أكتفي بهذا المقدار الوافي بالغرض، وإلا فإنَّ الروايات في هذا المعنى كثيرةٌ جدا، ولرُبَّما كان بعضها أوضح في المراد، وأكثر اتساعًا في البيان، فعلى القارئ الكريم السعي في تتبع ما جاء في هذا الباب.
خلاصة الكلام:
إنَّ الهادي من الضلال هو التمسك بالثقلين معا، والذي يجمع لنا ذلك هو العترة الطاهرة، فإنَّ فهم القرآن الكريم كما نزل بكماله وتمامه ليس لأحدٍ سواهم، وقد أشاروا في مواردَ كثيرةٍ إلى أنَّ ما عندهم من علمٍ ومعرفةٍ مستندٌ للقرآن الكريم، أما غيرهم فقد فهم بعض الظواهر، لكنَّه لا يعلم كلَّ ما في القرآن ولا يُحيطُ بكلِّ معارفه، وبالتالي مع رجوعنا للقرآن لا بدَّ من الرجوع لمن عندهم علمه كي نحوز على قدرٍ أكبر من العلم والمعرفة، والعاقل إنَّما يسعى وراء ما هو متاحٌ له بأعلى مستوياته، وفي مقامنا لا يتحقَّق ذلك إلَّا بالرجوع لأحاديثهم (صلوات الله عليهم)، ومن خلال فهم معاريضِ كلامهم وصريحه، والسير على طريقتهم.
هذا هو السر في انطلاقي من الروايات الشريفة، إذ هي الجامعة لشتى العلوم والمعارف، وهي المُبيِّنَة لما استبهم علينا من آيات الله تعالى.
قال تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]، لِتُبيِّن الذِكرَ أنت يا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله).
محمود سهلان العكراوي
الاثنين 3 رجب 1445هـ
الموافق 15 يناير 2024م