بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
ما هو الوجه في اشتراط طهارة المولد في القاضي والشاهد؟
الجواب:
أمَّا اشتراط طهارة المولد في الشاهد فهو المشهور شهرةً وصفَها صاحبُ الجواهر بالعظيمة كادت تكون إجماعاً ثم ترقَّى رحمه الله فأفاد أنَّ دعوى الإجماع على اشتراط طهارة المولد في قبول شهادة الشاهد جاءت في محكي الانتصار للسيِّد المرتضى، والخلاف للشيخ الطوسي، والغنية لابن زهرة، والسرائر لابن إدريس رحمهم الله تعالى[1].
الدليل اعتبار طهارة المولد في قبول شهادة الشاهد:
وعمدة ما يُستدلُّ به على اعتبار طهارة المولد في قبول شهادة الشاهد هي الروايات المستفيضة الواردة عن أهل البيت (ع):
منها: صحيحة مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع): "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ وَلَدِ الزِّنَى"[2] ومعنى لا تجوز هو أنَّها لا تنفذ ولا يرتَّب عليها الأثر.
ومنها: معتبرة أَبِي بَصِيرٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (ع) عَنْ شَهَادَةِ وَلَدِ الزِّنَا تَجُوزُ؟ فَقَالَ: لَا، فَقُلْتُ إِنَّ الْحَكَمَ بْنَ عُتَيْبَةَ يَزْعُمُ أَنَّهَا تَجُوزُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَغْفِرْ ذَنْبَه، مَا قَالَ اللَّه لِلْحَكَمِ: ﴿إِنَّه لَذِكْرٌ لَكَ ولِقَوْمِكَ﴾"[3].
والرواية صريحة في عدم نفوذ شهادة ولد الزنا، ومعنى قوله (ع): مَا قَالَ اللَّه لِلْحَكَمِ: ﴿إِنَّه لَذِكْرٌ لَكَ ولِقَوْمِكَ﴾" يعنى أنَّ الحكم بن عتيبة وأمثاله ليسوا أهلاً للفتيا وليسوا أهلاً لفهم مقاصد الكتاب المجيد على حدودها.
ومنها: موثقة عبيد بن زرارة عن أبيه قال: سمعتُ أبا جعفر (عليه السلام) يقول: لو أنَّ أربعةً شهدوا عندي على رجلٍ بالزنا وفيهم ولد زنا لحددتُهم جميعاً لأنه لا تجوز شهادتُه ولا يؤم الناس"[4] فهو (ع) قد نزَّل وجود الشاهد الرابع الذي يتمُّ به نصاب البيِّنة منزلة العدم إذا كان الشاهد ابن زنا، ولهذا استحقَّ الشهود الثلاثة حدَّ القذف، وهو ما يدلُّ على أنَّ شهادة ابن الزنا لاغية ولا يتمُّ بها نصاب البيِّنة، وأمَّا إقامة الحدِّ على ابن الزنا فلأنَّه قذف محصنةً وشهادته لم تكن معتبرة ليتمَّ بها نصابُ البينة.
ومنها: صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألتُه عن شهادة ولد الزنا؟ فقال: لا، ولا عبد"[5].
الروايات المقابلة لروايات عدم النفوذ:
وفي مقابل ما دلَّ على عدم نفوذ شهادة ولد الزنا ثمة روايتان:
الرواية الأولى: رواية عبد الله بن جعفر في (قرب الإسناد) عن عبد الله بن الحسن عن علي بن جعفر عن أخيه قال: سألتُه عن ولد الزنا هل تجوز شهادته؟ قال: نعم تجوز شهادتُه ولا يؤم"[6].
مناقشة رواية قرب الإسناد:
هذه الرواية لو تمَّت سنداً فإنَّها تكون منافية للطائفة الأولى من الروايات، إذ أنَّ معنى جواز شهادة ابن الزنا هو صحَّتها ونفوذها، ومعنى عدم الجواز هو نفيُ الصحة والنفوذ، فالتعارض بينهما مستحكِم، ولهذا لا يُمكن الجمع العرفي بينهما بحمل الطائفة الأولى على الكراهة وحمل رواية قرب الإسناد على الإباحة، لأنَّ الروايتين متصدِّيتان لبيان حكمٍ وضعيٍّ وهو الصحة وعدم الصحَّة وليستا بصدد البيان للحكم التكليفي ليُحمل النفي في الطائفة الأولى على الكراهة.
المانع من حجيَّة رواية قرب الإسناد:
إلا أنَّ الذي يمنع من حجيَّة الرواية أنَّها ذاتها مرويَّة في كتاب مسائل عليِّ بن جعفر عن أخيه لكنَّه ورد فيها أنَّه قال: لا تجوز شهادته ولا يُؤم"[7] وعليه لا يُمكن إحراز ما هو الكلام الصادر من الإمام (ع) وذلك لتعارض النسختين بين النفي والإثبات فتسقط كلا النسختين عن الحجيَّة، نعم لا يبعد ترجيح ما ورد في نسخة مسائل عليِّ بن جعفر لتوافقها مع مفاد الروايات المستفيضة، ولو قيل إنَّهما روايتان وليستا رواية واحدة اختلفت النسختان في حكايتها، فإنَّ المتعيَّن هو حمل رواية قرب الإسناد على التقية لموافقة مضمونها للعامَّة كما أفاد السيد الخوئي[8] هذا مضافاً إلى منافاة الروايةِ للمستفيض من الروايات وما عليه المشهور شهرةً عظيمة وذلك يمنع من الاطمئنان بحجيَّتها بمعنى أنَّ حجيَّة خبر الواحد الثقة لا تشمل مثل هذا الفرض، فهي فاقدة لشرائط الحجيَّة.
الرواية الثانية: رواية عيسى بن عبد الله قال: سألتُ أبا عبد الله (ع) عن شهادةِ ولَدِ الزنا؟ فقال: "لا تجوزُ إلا في الشيء اليسير إذا رأيتَ منه صلاحاً"[9].
قبول شهادة ابن الزنا في الشيء اليسير:
الرواية من حيثُ السند معتبرةٌ -ظاهراً- فليس فيه إشكال إلا من جهة عيسى بن عبد الله المشترك بين الثقة وغيره، وقد استظهر السيِّد الخوئي[10] أنَّه عيسى بن عبد الله القمي الأشعري الثقة، وذلك بقرينة أنَّ الراوي عنه أبان بن عثمان، وأبانُ يروي عن عيسى بن عبد الله القمي الأشعري الثقة، وعليه فالرواية معتبرة من حيث السند.
وأمَّا من حيثُ الدلالة فهي صالحة لتقييد روايات الطائفة الأولى فيُلتزَم بعدم صحَّة ونفوذ شهادة ابن الزنا إلا في الشيء اليسير فإنَّه لا مانع من اعتمادها، إلا أنَّ السيِّد الخوئي أورد على الاستدلال بالرواية بما حاصله[11]: أنَّ الشيء اليسير والشيء الكثير ليس لهما واقع منضبط فهما من العناوين الإضافية، فإنَّ الشيء الواحد يصحُّ وصفُه باليسير بالإضافة إلى شيءٍ آخر وفي ذات الوقت يصحُّ وصفُه بالخطير بالإضافة إلى آخر، ويصحُّ وصف الشيء باليسير بالإضافة إلى شخص ووصفه بالكثير بالإضافة إلى آخر، وكذلك يتفاوت وصفُ الشيء باليسير والكثير بتفاوت الزمان والمكان، وعليه لا تكون ثمة فائدة للبناء على التفصيل بين ما تصحُّ قيه شهادة ابن الزنا وما لا تصحُّ فيه، لأنَّ عنوان اليسير ليس له واقع منضبط يُمكن الحكم في مورده بقبول شهادة ابن الزنا فيه.
إلا أنَّ هذا الذي أفاده السيد الخوئي وإنْ كان صحيحاً من جهة أنّ عنوان اليسير من العناوين الإضافيَّة لكنَّ ذلك لا يمنعُ من وجود قدرٍ يتوافقُ العرفُ على أنَّه يسير، فهذا المقدار هو الذي تنفذ فيه شهادة ابن الزنا -بناءً على الرواية- وأمَّا ما يقع فيه الشكُّ وتتفاوتُ فيه الأنظار فالمرجعُ فيه إطلاقاتُ ما دلَّ على عدم نفوذ شهادة ابن الزنا، وذلك لأنَّ إجمال المخصِّص والمقيِّد لا يسري للعام والمُطلق المنفصل، وذلك لانعقاد ظهوره في العموم والإطلاق.
ومن ذلك يتبيَّن أنَّ ما أفاده العلامة الحلِّي[12] في المختلف من أنَّ قبول شهادة ابن الزنا في اليسير يُساوق المنع من قبول شهادته مطلقاً، إذ لا يسير إلا وهو كثير بالنسبة إلى ما دونه، فإذن لا تُقبل شهادته إلا في أقلِّ الأشياء الذي ليس بكثير بالنسبة إلى ما دونه، إذ لا دون له، ومثله لا يتملك" يعني أنَّ اليسير لا يصدق إلا على شيءٍ ليس له ما دونه، إذ أنَّه في فرض أنَّ لهذا الشيء ما دونه يقتضي أنَّه كثير بالنسبة إليه، فيكون اليسير هو الشيء الذي ليس ثمة ما هو دونه، ومثل هذا الشيء لا يُتملَّك، فكأنَّ الإمام (ع) أراد بهذا الجواب بيان عدم قبول شهادة ابن الزنا مطلقاً ولكنَّه رعايةً للتقية بيَّن ذلك من طريق الإيهام بقبول شهادته فيما لا معنى لقبول الشهادة فيه.
وهذا الكلام لا يتمُّ فإنَّ عنوان اليسير يصدقُ عرفاً وإنْ كان له ما دونه، فهو وإنْ كان من العناوين الإضافيَّة بالدقَّة إلا أنَّ ثمة ما يصحُّ وصفُه عرفاً باليسير رغم أنَّ له ما دونه. ولهذا لا يكون القولُ بقبول شهادة ابن الزنا في اليسير مساوقاً لعدم قبول شهادته مطلقاً.
والمتحصل مما ذكرناه أنَّ شهادة ابن الزنا لا تقبل إلا في الشيء اليسير المحتقَر عرفاً الذي يتوافق العرف أنَّه كذلك، وما عداه ممَّا يقع الشكُّ في كونه يسيراً يكون المرجع فيه -كما ذكرنا- هو إطلاقات ما دلَّ على عدم قبول شهادة ابن الزنا.
الدليل على اعتبار طهارة المولد في القاضي:
وأمَّا اعتبار طهارة المولد في القاضي فادُّعي عليه الإجماع[13] واستدلَّ له بوجهين:
الوجه الأول: أنَّ الروايات المستفيضة نصَّت على أنَّ ابن الزنا لا تصحُّ شهادته ولا يُرتب عليها الأثر، وكذلك نصَّت على أنَّه لا يؤم الجماعة أي لا تصحُّ إمامته لصلاة الجماعة، وذلك يدلُّ بالأولويَّة القطعيَّة على عدم صلاحيته لتولِّي منصب القضاء والذي هو أجلُّ بمراتب في الارتكاز المتشرِّعي والعرفي من التصدِّي لإمامة الجماعة والشهادة في فصل الخصومات، فإذا لم يكن صالحاً شرعاً لأن يكون شاهداً فذلك يكشف بالأولية عن عدم صلاحيته شرعا للقضاء وفصل الخصومات.
الوجه الثاني: أنَّ إطلاقات ما دلَّ على أنَّ كل مجتهد فهو صالحٌ لتولِّي منصب القضاء وإنْ كانت تقتضي نفوذ حكم كلِّ من كان واجداً لملكة الاجتهاد وإن كان ابن زنا إلا أنَّ الروايات المستفيضة التي نصَّت على عدم صلاحية ابن الزنا للشهادة وإمامة الجماعة تخلق -كما أفاد السيد الحائري[14]- جوَّاً متشرعيَّاً يمنع من انعقاد الإطلاق بالإضافة إلى ابن الزنا بمعنى أنَّ الارتكاز المتشرِّعي المستفاد من هذه الروايات المستفيضة يمنعُ من استظهار إرادة الإطلاق بما يشمل ابن الزنا. وذلك معناه عدم الدليل على صلاحيَّة ابن الزنا لتولِّي القضاء وعدم الدليل على نفوذ حكمِه، ومع انتفاء الدليل على نفوذ حكمه لا يكون حكمه نافذاً، إذ أنَّ الأصل هو عدم نفوذ حكم أحدٍ على أحد إلا ما قام الدليل على نفوذ حكمه.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
24 / رجب المعظم / 1445ه
5 / فبراير / 2024م
...............................
[1] - جواهر الكلام -النجفي- ج41 / ص117.
[2] - الكافي -الكليني- ج1 / ص269، تهذيب الأحكام -الطوسي- ج6 / ص244، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص335.
[3] - الكافي -الكليني- ج1 / ص400، ج7 / ص395.
[4] - تهذيب الأحكام -الطوسي- ج6 / ص245، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص376.
[5] - تهذيب الأحكام -الطوسي- ج6 / ص244، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص376.
[6] - وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص376.
[7] - وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص377.
[8] - مباني تكملة المنهاج -السيد الخوئي- ج41 / ص135.
[9] - تهذيب الأحكام -الطوسي- ج6 / ص244، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص376.
[10] - مباني تكملة المنهاج -السيد الخوئي- ج41 / ص135.
[11] - مباني تكملة المنهاج -السيد الخوئي- ج41 / ص135.
[12] - مختلف الشيعة -العلامة الحلِّي- ج8 / ص490.
[13] - جواهر الكلام -النجفي- ج40 / ص13.
[14] - القضاء في الفقه الإسلامي -السيد الحائري- ص77.