حدَّثنا أبو العباس محمَّدُ بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني رضي الله تعالى عنه، قال: حدَّثنا محمَّدُ بن سعيد بن يحيى البزوري، قال: حدَّثنا إبراهيمُ بن الهيثم البلدي، قال: حدَّثنا أبي، عن المعافى بن عمران، عن إسرائيل، عن المقدامِ بن شريح بن هانئ، عن أبيه، قال: إنَّ أعرابيًا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين أتقول: إنَّ الله واحد؟ قال: فحمل الناس عليه، وقالوا: يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تَقسُّمِ القلب؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): دعوه فإنَّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم، ثم قال: يا أعرابي إنَّ القول أنَّ الله واحدٌ على أربعة أقسام، فوجهان منها لا يجوزان على الله (عزَّ وجلَّ) ووجهان يثبتان فيه، فأما اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل: (واحد) يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز لأنَّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد، أما ترى أنه كفر من قال: (إنه ثالث ثلاثة)، وقول القائل: (هو واحدٌ من الناس) يريد به النوع من الجنس، فهذا ما لا يجوز لأنه تشبيه، وجلَّ ربُّنا وتعالى عن ذلك، وأما الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل: (هو واحدٌ ليس له في الأشياء شبه)، كذلك ربُّنا، وقول القائل: إنه (عزَّ وجلَّ) أَحَدِّيُّ المعنى، يعني به أنه لا ينقسم في وجودٍ ولا عقلٍ ولا وهم، كذلك ربُّنا. [الصدوق، الخصال، باب الواحد، ح1].
قسَّم أمير المؤمنين (عليه السلام) القول في أنَّ الله واحدٌ إلى أربعة أقسام، هي:
- الواحد من الأعداد.
- الواحد من الجنس.
- الواحد الذي ليس له شبه.
- الأحدي المعنى.
أما الأولان فلا يجوزان عليه تعالى، وأما الآخَران فجائزان.
بيان العلامة المجلسي (رحمه الله) للوجوه المذكورة:
قال العلامة المجلسي: "والمعنى الأول المنفي هو الوِحدة العددية بمعنى أنْ يكونَ له ثانٍ من نوعه، والثاني أنْ يكون المراد به صنفًا من نوع، فإنَّ النوع يُطلقُ في اللغة على الصنف، وكذا الجنس على النوع، فإذا قيل لروميٍّ مثلا: (هذا واحدٌ من الناس) بهذا المعنى يكون المعنى أنَّ صنفَ هذا صنفٌ من أصناف الناس، أو هذا من صنفٍ من أصنافهم، ويحتمل أنْ يكونَ المراد بالأول الذي له ثانٍ في الإلهية، وبالثاني الواحد من نوعٍ داخلٍ تحت جنس، فالمراد أنه يريد به؛ أي بالناس أنه نوعٌ لهذا الشخص، ويكون ذكر الجنس لبيان أنَّ النوعَ يستلزم الجنس غالبًا فيلزم التركيب من الأجزاء العقلية. والمعنيان المثبتان: الأول منهما إشارةٌ إلى نفي الشريك، والثاني منهما إلى نفي التركيب. وقوله: (في وجود) أي في الخارج". [المجلسي، بحار الأنوار، ج3، ص207].
بيان الرواية:
مرَّ في بيان العلامة المجلسي (رحمه الله) ما فيه الكفاية لبيان الرواية، لكنْ لا بأس ببعض الإضافات والمناقشة، أما الواحد من باب الأعداد فيمكن أنْ نعبرَ عنه أنه غيرُ المانع من الشريك؛ أي القول بأنَّ الله واحدٌ من الأعداد قد لا يكون مثبتًا للشريك تلقائيًا لكنَّه لا يمنع من القول بوجود شريك، بينما إثبات وحدانية الله تعالى تقتضي أنها مانعةٌ من وجود الشريك، وأما المعنى الثاني فالأنسب باللغة والعرف أنْ يكون المراد هو الصنف من النوع عند المناطقة، أي أنَّ المراد من الجنس هنا هو النوع عندَهم والمراد من النوع هو الصنف عندهم، لا سيَّما وأنَّ علم المنطق لم يكن له حضوره بمصطلحاته بين المسلمين بعد، والمحاورة العرفية تقتضي أنَّ كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) كان وفقًا للغة والعرف لا سيَّما وأنَّ المخاطب من الأعراب، وهذان المعنيان لا يجوزان عليه تعالى.
أما المعنى الثالث وهو نفي الشبيه عنه فهو نافٍ للمعنيين الأولين، فينفي كونه صنفًا من نوع إذ لا شبيه له، فتقول صنف هذا الرجل بحراني، فيكون لهذا الرجل شبيه، ويكونان مندرجان تحت صنف، والصنف تحت نوع وكلهم أشباه، وهو غير جائزٍ على الله كما مر، وينفي كونه معدودًا لنفي الشبيه أيضًا، وهذا ما يطلق عليه التوحيد الواحدي، وأما المعنى الرابع فهو نافٍ للتركيب سواء كان التركيب خارجيًا أو عقليًا أو مُتوهمًا. أما التركيب الخارجي فالذي يكون فيه الشيء مركبًا من أجزاءٍ خارجية، كتركُّب الإنسان من رأسٍ ويدين ورجلين وغيرها، وهو منفيٌّ عنه تعالى، وأما العقلي فالذي يكون فيه الشيء مركبًا من أجزاءٍ عقلية، كتركُّب الفرس من الحيوانية والصاهلية، وهو منفيٌّ عنه (عزَّ وجلَّ) أيضًا، وأما المُتوهَّمُ فهو كتوهُّمِ انشقاق جذع شجرةٍ إلى قسمين مع أنه غيرُ منقسم، وهو منفيٌّ أيضًا، فكلها يلزم منها أنْ يكونَ محتاجًا جلَّ وعلا عن ذلك، أو أنْ يكونَ متوهَّمًا وهو ممنوعٌ بصريح النصوص الشريفة، بل العقل أيضا يحكم بذلك، ولكنَ المقام ليس مقام البيان العقلي.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: "فَمَنْ وَصَفَ اللهَ سبحانَهُ فقد قَرَنَه، وَمَنْ قَرَنَهُ فقد ثَنَّاه، وَمَن ثَنَّاهُ فقد جَزَّأَهُ، وَمَنْ جَزَّأَهُ فقد جَهِلَهُ، وَمَنْ جَهِلَهُ فقد أَشارَ إليه، وَمَنْ أَشارَ إليه فقد حَدَّهُ، وَمَنْ حَدَّهُ فقد عَدَّهُ ...". [نهج البلاغة، الخطبة الأولى].
التوحيد أصل الدين:
اختلف علماؤنا (رضوان الله عليهم) في تَعداد أصولِ الدين، فقال بعضهم خمسة، وقال غيرهم أربعةٌ دون العدل، وقال آخرون ثلاثةٌ دون العدل والإمامة، وعلى أيِّ حالٍ فالخمسة هي: التوحيد، والمعاد، والنبوة، والإمامة، والعدل. وهذه العقائد لا بدَّ أنْ يؤمنَ بها الإنسان ويعتقدَ بها حتى يدخل في دائرة الإيمان، أما الإسلام فيكفي فيه النطق بالشهادتين.
مهما قلنا في عدد الأصول وعدد العقائد الحَقَّة فإنَّ أصلَها الأول الأصيل هو التوحيد، فكلُّ شيءٍ مبني عليه، ولو سقط هذا الأصل لسقط كلُّ البناء، فالنبوة إنما ترجع لوجود الإله الواحد، والإمامة تابعةٌ لها، والمعاد يرجع لوجوده كذلك، والعدل من صفاته، وقِسْ على ذلك كلَّ العقائد.
في بيان المراد من التوحيد، قال الشيخُ الصدوق في اعتقاداته: "اعلمْ أنَّ اعتقادنا في التوحيد أنَّ الله تعالى واحدٌ أحدٌ، ليس كمثله شيءٌ، قديمٌ لم يزال سميعٌ بصيرٌ عليمٌ حكيمٌ حيٌّ قيومٌ عزيزٌ قدوسٌ قادرٌ غني. لا يوصفُ بجوهرٍ ولا جسمٍ ولا صورةٍ ولا عَرَضٍ ولا خطٍّ ولا سطحٍ ولا ثقلٍ ولا خفةٍ ولا سكونٍ ولا حركةٍ ولا مكانٍ ولا زمان" [الصدوق، الاعتقادات في دين الإمامية، ص21]. وفي هذا البيان الكفاية.
فوائدُ متفرقةٌ من الرواية الشريفة:
الأولى: ليس من طبعِ الأعراب الاهتمام بأمور الدين والمعرفة، وهَمُّهم الأول -غالبًا- هو أمور المعيشة وتوفير الطعام والشراب، وما إلى ذلك، لذلك كان ذِكرُ كونِ السائل أعرابيًا مهما، ويؤيد أهمية ذلك اعتراض الأصحاب عليه بأنه ليس وقت سؤال، وإجابة أمير المؤمنين (عليه السلام) بأنَّ هذا ما نريده من القوم. وذكر مثلِ هذه الأحوال والقرائن كثيرًا ما تكون مفيدةً في فهم الرواية، فالمسلم يجب أنْ يكونَ عارفًا بالتوحيد، وعدم معرفته يكون مدعاةً للاستغراب والتعجب، لكنَّ كونَ السائل أعرابيًا يرفع العجب والاستغراب.
الثانية: التفات الراوي لحال السائل وذكره للقرائن يبيِّنُ أنَّ بعض الرواة كان ملتفتًا لأهمية ذكر القرائن، وعارفًا بدورها في فهم النصوص.
الثالثة: غاية أمير المؤمنين (عليه السلام) مع الأعرابي ومع الجيش المعادي واحدة، لكنَّ اختلافهم يستدعي المراعاة واختيار الأسلوب الأمثل، فشتانَ بين سائلٍ مسالمٍ وجيشٍ معاد. وفي محل كلامنا غاية أمير المؤمنين (عليه السلام) هي الدعوة إلى توحيد الله تعالى، ولاختلاف الطرفين اختلف أسلوب الدعوة، فكان حال الأول يكفي فيه البيان والتلطف، وحال الثاني يستدعي القتال، وهكذا تجري الأمور مع كل طرف بحسب حاله.
محمود سهلان العكراوي
الأربعاء 2 شهر رمضان 1445هـ
الموافق 13 مارس 2024م