بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآلِه الطيبين الطاهرين.
مقدَّمة:
إنَّ لتربة كربلاء المصبوبة في قوالب بأشكال مختلفة لتباع على المؤمنين الَّذين يتَّخذونها مساجد لهم شأنًا أعظمُ ممَّا يُظَنُّ، فهي ليست مجرَّد أقراص ترابية صلبة يصحُّ السجود عليها ونحبُّها لكونها من كربلاء وتُنسب إلى الإمام الحُسين (عليه السَّلام)، ولكنَّها في الواقع وجود خاص له قداسته وشأنه عند الله تبارك ذكره، وهذا ما يُفهم من مجموع النصوص الشريفة الواردة عن أهل بيت العِصمة (عليهم السَّلام).
نستعرض في هذا المختصر ما يوقفنا على واقع الأمر وما ينبغي أن نكون عليه تجاه مساجدنا المتَّخذة من تربة كربلاء.
كربلاء أرض مُقدَّسة:
نصَّتِ الرواياتُ الشريفةُ على ما في تربة الإمام الحسين (عليه السَّلام) من عظيم الفضل وجليل المنزلة عند الله تبارك ذكره، ومن ذلك ما رواه في كامل الزيارات، قال: حدَّثني محمَّدُ بنُ جعفرٍ القرشي الرزَّاز، عن محمَّدِ بنِ الحُسين بنِ أبي الخطَّاب، عن أبي سعيدٍ، عن بعض رجاله، عن أبي الجارود، قال: قال عليُّ بنُ الحسين (عليهما السَّلام):
"اتَّخذَ اللهُ أرضَ كربلاءَ حَرَمًا آمِنًا مُبَارَكًا قَبْلَ أنْ يَخلُقَ اللهُ أرْضَ الكعْبَةِ وَيتَّخِذَهَا حَرَمًا بِأرْبَعَةٍ وَعِشْرينَ ألفَ عَامٍ، وَإنَّهُ إذَا زَلْزَلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الأرْضَ وَسَيَّرَهَا رُفِعَتْ كَمَا هِيَ بِتُرْبَتِهَا نَورَانِيَّةً صَافِيَةً فَجُعِلَتْ فِي أَفْضَلِ رَوضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ وَأفْضَلِ مَسْكَنٍ فِي الجَنَّةِ لَا يَسْكُنُهَا إلَّا النَّبِيُّونَ وَالمُرْسَلُونَ -أوْ قَالَ: أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ- وَإنَّهَا لَتُزْهِرَ بَينَ رِيَاضِ الجَنَّةِ كَمَا يُزْهِرُ الكَوكَبُ الدُّرِيُّ بَينَ الكَوَاكِبِ لِأهْلِ الأرْضِ، يُغْشِي نُورُهَا أبْصَارَ أهْلِ الجَنَّةِ جَمِيعًا، وَهِي تُنَادِي: أنَا أرْضُ اللهِ المُقَدَّسَةِ الطَيِّبَةِ المُبَارَكَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْ سَيِّدَ الشُّهَدَاءِ وَسَيِّدَ شَبَابِ أَهْلِ الجَنَّةِ"[1].
ثُمَّ إنَّ حِكمَةَ السَّماء لاقَتْ بين قداسةِ هذه التربة المباركة وبين أقرب ما يكون فيه العبدُ إلى الله تعالى، وهو السجود وقد رُوي عن الإمام الرِّضَا (عليه السَّلامُ) أنَّه قال: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ وهُوَ سَاجِدٌ؛ وذَلِكَ قَوْلُه عَزَّ وجَلَّ: (واسْجُدْ واقْتَرِبْ)[2]"[3] حتَّى اتَّخَذها، أعني تربة كربلاء، المعصومُ (عليه السَّلام) مسجِدًا له. روى في المِصباح بإسناده عن معاويةَ بنِ عَمَّار، قَالَ:
"كَانَ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ (عَلَيهِ السَّلَامُ) خَرِيطَةُ دِيبَاجٍ صَفْرَاءُ فِيهَا تُرْبَةُ أبِي عَبْدِ اللهِ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فَكَانَ إذَا حَضَرَتْهُ الصَّلَاةُ صَبَّهُ عَلَى سِجَّادَتِهِ وَسَجَدَ عَلَيهِ. ثُمَّ قَالَ (عَلَيهِ السَّلَامُ): السُّجُودُ عَلَى تُرْبَةِ أبِي عَبْدِ اللهِ (عَلَيهِ السَّلَامُ) يَخْرُقُ الحُجُبَ السَّبْعَ"[4].
ولكِنَّ خِلافًا وقع في ما يخرُقُ مِنْ تُرابِ كربلاء الحُجُبَ السَّبع عند السجود عليه.
فأقول:
إنَّ المؤثِّر في قداسة التربة إمَّا أن يكون الجسد الطاهر، أو أنَّها مقدَّسة ولِقُدسِهَا ناسَبَ أن تضمَّ الجسد الشريف، أو أنَّ لها قداسة من جِهَتَي أصل خلقتها وملاقاة الجسد الطاهر لها. ولكِنَّ روايةُ أبي الجارود المتقدِّمة دلَّت على أنَّ أرض كربلاء حرمًا آمنًا مُباركًا منذ آلاف السنين، وأنَّ تربتها نورانيَّة صافية، وأنَّها أرض الله المقدَّسة الَّتي تضمنت سيِّد الشهداء وسيِّد شباب أهل الجنَّة، والأقرب، بل نقطع بِعَدَم تَحَدُّدها بخصوص الموضع الَّذي يُدفن فيه الجسد الطاهر؛ ولو كان كذلك لبيَّن في الرواية الشريفة لحاجة هذا التحديد إلى بيان، والحال أنَّ الرواية عامَّة في أرض كربلاء وتربتها. نعم؛ لا يبعد تحدُّدها بما في بيانات أهل بيت العِصمة (عليهم السَّلام) ما بين:
الأوَّل: عشرين ذراعًا وهو القبر الشريف كما في رواية ابن سنان عَنِ أبِي عَبْدِ اللهِ (عَليِهِ السَّلَامُ)، قَالَ: "سَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَبْرُ الحُسينِ بِنِ عَلِيٍّ (عَليهِمَا السَّلَامُ) عشرُونَ ذِرَاعًا فِي عِشرينَ ذِرَاعًا مُكَسَّرًا رَوضَةٌ مِنْ ريَاضِ الجَنَّةِ، وَفِيهِ مِعْرَاجُ المَلَائِكَةِ إلى السَّمَاءِ، وَليسَ مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ إلَّا وهُوَ يَسْأَلُ اللهَ أنْ يَزُورَهُ، فَفَوجٌ يَهبِطُ وَفَوجٌ يَصْعَد"[5].
والثَّاني: خمسة وعشرين ذراعًا وهو حرمة القبر الشريف كما في رواية إسحاق بن عمَّار، قَالَ: "سَمِعْتُ أبَا عَبْدِ اللهِ (عَليهِ السَّلَامُ) يَقُولُ: إنَّ لِمَوضِعِ قَبْرِ الحُسينِ بِنِ عَلِيٍّ (عَليهِمَا السَّلَامُ) حُرْمَةً مَعْلُومَةً مَنْ عَرَفَهَا وَاسْتَجَارَ بِهَا أُجِيرَ.
قُلتُ: فَصِفْ لِي مَوضِعَهَا جُعِلْتُ فِدَاكَ.
قَالَ (عَلَيهِ السَّلَامُ): امْسَحْ مِنْ مَوضِعِ قَبْرِهِ اليَومَ، فَامْسَحْ خَمْسَةً وَعِشريِنَ ذِرَاعًا مِنْ نَاحِيَةِ رِجْلَيِهِ، وَخَمْسَةً وَعِشْريِنَ ذِرَاعًا مِمَّا يَلِي وَجْهَهُ، وَخَمْسَةً وَعِشْريِنَ ذِرَاعًا مِنْ خَلْفِهِ، وَخَمْسَةً وَعِشْريِنَ ذِرَاعًا مِنْ نَاحِيَةِ رَأسِهِ، وَمَوضِعُ قَبْرِهِ مُنْذُ يَومَ دُفِنَ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ، وَمِنْهُ مِعْرَاجٌ يُعْرَجُ فِيهِ بِأعْمَالِ زُوَّارِهِ إلى السَّمَاءِ، فَلَيسَ مَلَكٌ وَلَا نَبِيٌّ فِي السَّمَاوَاتِ إلَّا وَهُم يَسْأَلُونَ اللهَ أنْ يُأذَنَ لَهُم فِي زِيَارَةِ قَبْرِ الحُسينِ (عَليِهِ السَّلَامُ)، فَفَوجٌ يَنْزِلُ وَفَوجٌ يَعْرُجُ"[6]، وفي مرسلة محمَّد بن إسماعيل البصري عَنْ أبِي عَبْدِ اللهِ (عَليهِ السَّلَامُ) أنَّ حرمة القبر الشريف فرسخ، قَالَ: "حُرْمَةُ قَبْرِ الحُسينِ فَرْسَخٌ فِي فَرْسَخٍ مِنْ أرْبَعَةِ جَوانِبِهِ"[7].
والثَّالث: خمسة فراسخ حريم القبر كما في رواية منصور بن العبَّاس رفعها إلى أبي عبد الله (عليه السَّلام)، قال: "حَريِمُ قَبْرِ الحُسينِ (عَليهِ السَّلَامُ) خَمْسُ فَرَاسِخ مِنْ أرْبَعَةِ جَوانِبِ القَبْرِ"[8].
ولكن ليس في هذه الروايات الشريفة ما يشير، بل ولا حتَّى ما يُشَمُّ منه رائحة التخصيص، كما وليس فيها ما يُفهم منه نظرها التفسيري إلى الروايات الواردة في شرف عموم أرض كربلاء وترابها، إلَّا حمل بعضِ الأعلام لهذا التفاوت على الأفضليَّة فالأقرب أفضل من الأبعد، ومقتضى التمسُّك بالنصوص الشريفة التزام الفراسخ الخمسة حريمًا له شأنه وأحكامه.
وعليه فإنَّ هذه الروايات دالَّة على اتِّساع حريم القبر الشَّريف إلى خمسة فراسخ من جميع الجهات، وهنا صحَّ استقرابُ أنَّ هذه المساحة مساحة الأرض المقدَّسة ذات التربة النورانيَّة الصافية الَّتي تضمَّنت سيِّد الشهداء وسيِّد شباب أهل الجنَّة (عليه السَّلام)، وهي المقصودة بكربلاء الوارد ذكرها في الروايات الشريفة، فكربلاء في مساحة خمسة فراسخ من جميع جهات القبر الشَّريف، ولا تتَّسع بالاتِّساع الجغرافي لكربلاء من حيث كونها مدينةً، أو بلدةً، أو محافظةً، أو ما نحو ذلك.
يؤيِّد ذلك حمل الحرم عليها في قول الإمام عليِّ بنِ الحسين (عليهما السَّلام): "اتَّخذَ اللهُ أرضَ كربلاءَ حَرَمًا آمِنًا"، وفي رواية إسحاق بن عمَّار ومرسلة محمَّد بن إسماعيل البصري، ومرفوعة منصور بن العبَّاس، والحرم ما وقع في حريم الشيء. قال "الأزهري: الحَريمُ الَّذي حَرُمَ مَسُّهُ فلا يُدْنَى مِنْه، وَكَانَتِ العَرَبُ فِي الجَاهِلِيَّةِ إذَا حَجَّتِ البَيتَ تَخْلَعُ ثِيَابَهَا الَّتي عَلَيْهَا إذَا دَخَلُوا الحَرَمَ وَلَمْ يَلْبَسُوهَا مَا دَامُوا فِي الحَرَمِ، وَمِنْهُ قَولُ الشَّاعِرِ: لَقَى، بَينَ أيدِي الطَّائِفِينَ، حَرِيم"[9].
فما نستقربه هو اشتراك روايات التربة الَّتي تُتَّخذ للسجود وروايات حريم القبر من حيث الدلالة على حدود الأرض المقدَّسة.
تربة الاستشفاء:
ورد في جملة من الروايات الشريفة ما لتربة الإمام الحسين (عليه السَّلام) من الأثر في الشفاء من الأسقام، منها ما في الكافي بسنده عن يُونُسَ بن الرَّبيع عن أبي عبد اللَّه، قال: "إِنَّ عِنْدَ رَأْسِ الْحُسَيْنِ (عليه السَّلام) لَتُرْبَةً حَمْرَاءَ فِيهَا شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلَّا السَّامَ قَالَ فَأَتَيْنَا الْقَبْرَ بَعْدَ مَا سَمِعْنَا هَذَا الْحَدِيثَ فَاحْتَفَرْنَا عِنْدَ رَأْسِ الْقَبْرِ فَلَمَّا حَفَرْنَا قَدْرَ ذِرَاعٍ ابْتَدَرَتْ عَلَيْنَا مِنْ رَأْسِ الْقَبْرِ مِثْلُ السِّهْلَةِ حَمْرَاءَ[10] قَدْرَ الدِّرْهَمِ فَحَمَلْنَاهَا إِلَى الْكُوفَةِ فَمَزَجْنَاه وأَقْبَلْنَا نُعْطِي النَّاسَ يَتَدَاوَوْنَ بِهَا"[11].
وبسنده عن عُمَر السرَّاج عن بعض أصحابنا قال: "يُؤْخَذُ طِينُ قَبْرِ الْحُسَيْنِ ع مِنْ عِنْدِ الْقَبْرِ عَلَى سَبْعِينَ ذِرَاعًا"[12].
وفي كامل الزيارات بسنده عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي عبد الله (عليه السَّلام)، قال: "كُنْتُ بِمَكَّةَ - وذكر في حديثه - قُلْتُ: جُعِلْتُ فَدَاكَ، إنِّي رَأيْتُ أصْحَابَنَا يَأخُذُونَ مِنْ طِينِ الحَائِرِ لِيَسْتَشْفُونَ بِهِ. هَلْ فِي ذَلِكَ شَيءٌ مِمَّا يَقُولُونَ مِنَ الشِّفَاءِ؟
قال: قال (عليه السَّلام): يُسْتَشَفَى بِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ القَبْرِ عَلَى رَأسِ أَرْبَعَةِ أَمْيَال، وَكَذَلِكَ قَبْرِ جَدِّي رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ)، وَكَذَلِكَ طِينِ قَبْرِ الحَسَنِ وَعَليٍّ وَمُحَمَّدٍ، فَخُذْ مِنْهَا؛ فَإنَّهَا شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ سُقْمٍ وَجُنَّةٌ مِمَّا تَخَافُ، وَلا يَعْدِلُهَا شَيءٌ مِنَ الأشْيَاءِ الَّتِي يُسْتَشْفَى بِهَا إلَّا الدُّعَاءُ.
وَإنَّمَا يُفْسِدُهَا مَا يُخَالِطُهَا مِنْ أَوعِيَتِهَا وَقِلَّةِ اليَقِينِ لِمَنْ يُعَالَجُ بِهَا، فَأمَّا مَنْ أيْقَنَ إنَّهَا لَهُ شِفَاءٌ إذَا يُعَالَجُ بِهَا كَفَتْهُ بِإذْنِ اللهِ مِنْ غَيرِهَا مِمَّا يُعَالَجُ بِهِ.
وَيُفْسِدُهَا الشَّيَاطِينُ وَالجِنُّ مِنْ أهْلِ الكُفْرِ مِنْهُم يَتَمَسَّحُونَ بِهَا، وَمَا تَمُرُّ بِشَيءٍ إلَّا شَمَّهَا، وَأمَّا الشَّيَاطِينُ وَكُفَّارُ الجِنِّ فَإنَّهُم يَحْسُدُونَ بَنِي آدَمَ عَلَيهَا، فَيَتَمَسَّحُونَ بِهَا لِيَذْهَبَ عَامَّةُ طِيبُهَا، وَلَا يَخْرُجُ الطِّينُ مِنَ الحَائِرِ إلَّا وَقَدْ اسْتَعَدَّ لَهُ مَا لَا يُحْصَى مِنْهُم، وَإنَّهُ لَفِي يَدِ صَاحِبِهَا وَهُم يَتَمَسَّحُونَ بِهَا، وَلَا يَقْدِرُونَ مَعَ المَلَائِكَةِ أنْ يَدخُلُوا الحَائِرَ، وَلَو كَانَ مِنَ التُّرْبَةِ شَيءٌ يَسْلَمُ مَا عُولِجَ بِهِ أحَدٌ إلَّا بَرَأَ مِنْ سَاعَتِهِ. فَإذَا أَخَذْتَهَا فَاكْتُمْهَا وَأكْثِرْ عَلَيهَا مِنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ بَلَغَنِي أنَّ بَعْضَ مَنْ يَأخُذُ مِنْ التُّرْبَةِ شَيئًا يَسْتَخِفُّ بِهِ، حَتَّى إنَّ بَعْضَهُم لَيَطْرَحُهَا فِي مِخْلَاةِ الإبِلِ وَالبَغْلِ وَالحِمَارِ وَفِي وِعَاءِ الطَّعَامِ، وَمَا يُمْسَحُ بِهِ الأيْدِي مِنَ الطَّعَامِ وَالخَرْجِ وَالجَوَالِق، فَكَيفَ يُسْتَشْفَى بِهِ مَنْ هَذَا حَالُهُ عِنْدَهُ، وَلَكِنَّ القَلْبَ الَّذِي لَيسَ فِيهِ يَقِينٌ مِنَ المُسْتَخِفِّ بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُ يُفْسِدُ عَلَيهِ عَمَلَهُ"[13].
هذه ثلاثُ روايات تبيِّن جانبًا من جوانب خَطَرِ تُرْبَةِ أبي عبد الله الحسين (عليه السَّلام)، وفيها تحديدات أوَّلها عند رأس القبر الشريف، والثَّاني على سبعين ذراعًا منه، والثَّالث ما بينه وبين القبر على رأس أربعة أميال، والحمل على أفضلية الأقرب جيِّد.
وكيف كان، فعلى نحو التقريب الذراع يساوي 46,5 سنتيمتر؛ فالسبعون منها 32,55 مترًا. والميل 1828,8مترًا؛ فالأربعة منها 7315,2 مترًا.
واقع (التعرية):
لا شكَّ في عدم استقرار التراب في منطقةٍ استقرارًا يمنع انتقاله إلى منطقة أخرى بسبب الرياح وما نحوها من (عوامل التعرية)، والتعرية هي: عمليَّة تآكُلِ الطبقة السطحية للقشرة الأرضية (الصخور والتربة) وانتقالهما من مكان لآخر بواسطة الرياح أو الماء[14].
إذا كان الواقع هو انتقال الأتربة وعدم استقرارها في مكان واحد بسبب عوامل تؤثِّر في التعرية مثل المناخ والتضاريس وغير ذلك فالمتعيِّن هو اكتساب التراب للقداسة بالكون في أرض كربلاء على التحديدات المذكورة، وما يخرج منها يكون مُعرَّضًا لفقدانِ قداسته بفعل الشياطين كما في رواية أبي حمزة الثمالي، وإلَّا فالخصائص المذكورة لا تتعدَّى السنوات القليلة التالية لواقعة الطف، وهذا في غاية البعد لكونه يسلب موضوعيَّة الروايات الواردة في الحثِّ على الاستشفاء بتربة أبي عبد الله الحسين (عليه السَّلام).
توصية:
بناء على ما مرَّ فالمرجو من الإخوة العاملين على جمع التراب من كربلاء لصبه في قوالب ليكون سجدات للمؤمنين أن يولوا الأمر الاهتمام اللائق به من حيث الطهارة والحفظ واستمرار الذكر حال الجمع والتصنيع، ومن الأهميَّة بمكان أن لا تكون نيَّة التكسُّب أصلًا في الأمر. وكيف كان فليُعلم أنَّ المسألة في غاية الخطورة والحساسيَّة؛ فتربة كربلاء نعمة إلهيَّة عظمى، والمؤمن يصون النعمة ويحفظها بعيدًا عن أدنى شبهةِ شينٍ أو ما نحو ذلك.
ثُمَّ إنَّ المتعيِّن على من يقتني سجدةَ تربة كربلاء الحرص على حفظها والقراءة عليها وإبعادها عن كل ما تكون فيه شبهة المساس بقداستها وواقع شأنها عند الله جلَّ في عُلاه.
وإنَّني أذكر قبل قرابة الأربعين سنة أنَّ المؤمن في البحرين كان يحفظ تربته في ظرف من قماش يضعها فيه مع السبحة ويربطه ثُمَّ يلفُّه في سجادة الصلاة، وهو فِعل في غاية الحُسن وكاشف عن وعي وجداني بقداسة تربة كربلاء.
إنَّ ما ينبغي أن يقع في وجدان المؤمن هو أنَّ تربة كربلاء الَّتي نتخذها مسجدًا في صلواتنا ليست مجرَّد تراب نسجد عليه لكونه ممَّا يصحُّ السجود عليه، بل هي وجود له خصائص يظهر من النصوص الشريفة أنَّنا لا نُدرِك حقائقها وما هو واقعها في علم الله تبارك ذكره.
عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا الأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: سَمِعْتُه يَقُولُ: "مَنْ سَرَّه أَنْ يَسْتَكْمِلَ الإِيمَانَ كُلَّه فَلْيَقُلِ الْقَوْلُ مِنِّي فِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ قَوْلُ آلِ مُحَمَّدٍ فِيمَا أَسَرُّوا ومَا أَعْلَنُوا، وفِيمَا بَلَغَنِي عَنْهُمْ وفِيمَا لَمْ يَبْلُغْنِي"[15].
.............................................
[1] - كامل الزيارات - جعفر بن محمد بن قولويه - ص 451.
[2] - سورة العلق، الآية 19.
[3] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 3 - ص 264 - 265
[4] - مصباح المتهجد – الشيخ الطوسي – ص 733-734.
[5] - كامل الزيارات – جعفر بن محمد بن قولويه – ص 222.
[6] - كامل الزيارات – جعفر بن محمد بن قولويه – ص 457.
[7] - كامل الزيارات – جعفر بن محمد بن قولويه – ص 456.
[8] - كامل الزيارات – جعفر بن محمد بن قولويه – ص 456
[9] - لسان العرب – ابن منظور؛ أبو الفضل جمال الدين محمَّد بن مكرم الأنصاري – ج4 ص95.
[10] - لسان العرب: والسِّهْلة والسِّهْل: تراب كالرمل يجيء به الماء.
[11] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 4 - ص 588.
[12] - المصدر السابق.
[13] - كامل الزيارات - جعفر بن محمد بن قولويه - ص 470 – 471.
[14] - Britannica: https://www.britannica.com/science/erosion-geology
[15] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 391