الرسالة (1)
اعلم بأنّ العقل هو أوّل مخلوقات الله في البُعد الملائكي والبُعد الإنساني.
فبالنسبة للإنسان -وهو موضوع رسائلنا الجديدة في هذه السلسلة الوجيزة- لا يمكن تكليفه بفعلٍ شيء أو تركه إلا بقوّةٍ في داخله قادرةٍ على إدراك الخير والشرّ، ليستطيع بعد الإدراك اتخاذ قراره العملي في مجال الحقّ والباطل والحُسن والقُبح.
وعلى هذا الأساس يأتي الجزاء العادل من الله للإنسان إما عقابًا بالنار وإما ثوابًا بالجنة.
من هنا أسقط الإسلام التكليف عن المجنون، ولكنّه أوجب على الجاهل أن يتعلّم. فإذا قال يوم القيامة: ربّي ما كنتُ أعلم. يردّ الله عليه: وهَلّا تعلّمتَ.
هذا ما قاله الإمام محمد الباقر (ع): "لما خَلَقَ الله العقل استنطقه ثم قال له: أقبِل فأقبَلَ. ثم قال له: أدبِر فأدبَرَ. ثم قال: وعزّتي وجلالي، ما خلقتُ خَلقًا هو أحبّ إليّ منك، ولا أكملتُك إلا فيمن أُحِبّ، أما إني إيّاك آمُر، وإيّاك أنهى وإيّاك أعاقب، وإياك أثيب".
لذلك حثّ القرآن الكريم على تحرير العقل من الأغلال المختلفة عبر التفكّر كما يتضح من خلال هذه الكلمات في الآيات الكريمة مثل: (أفلا يعقلون) و (أفلا يتدبّرون) و (أفلا يتفكّرون) وغيرها من الكلمات الباعثة على تحريك العقل والدعوة لتحريره.
ولا شك في أنّ طالب الحقيقة إذا أعمَلَ تفكيره بدقة وأجاد توظيف قواه العقلية فإنه سيهتدي حتمًا إلى الإقرار بوجود الله والقبول بتوحيده وما يستتبع هذه العقيدة من الاعتقاد بصفات الله وأهمها العدل. والاعتقاد بالنبوّة والإمامة واليوم الآخر وما في كل ذلك من تفاصيل. وهو في ظلّ الاعتقادات الصحيحة سيتصرّف صحيحًا مع نفسه وأهله والناس حوله. وهذا هو هدف الدّين في الحياة.
يقول الامام ﻋﻠﻲ (ع): "ﻫَﺒَﻂ ﺟﺒﺮاﺋﻴﻞ ﻋﻠﻰ ﺁﺩﻡ (ع) ﻓﻘﺎﻝ: ﻳﺎ ﺁﺩﻡ ﺇﻧﻲ ﺃُﻣِﺮﺕُ ﺃﻥ ﺃُﺧﻴّﺮﻙ ﻭﺍﺣﺪﺓً ﻣﻦ ﺛﻼﺙ ﻓﺎﺧﺘَﺮﻫﺎ ﻭﺩَﻉِ ﺍﺛﻨﺘﻴﻦ.
ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ ﺁﺩﻡ: ﻳﺎ ﺟﺒﺮاﺋﻴﻞ ﻭﻣﺎ ﺍﻟﺜﻼﺙ؟
ﻓﻘﺎﻝ: ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻭﺍﻟﺤﻴﺎﺀ ﻭاﻟﺪّﻳﻦ.
ﻓﻘﺎﻝ ﺁﺩﻡ: ﺇﻧﻲ ﻗﺪ ﺍﺧﺘﺮﺕُ ﺍﻟﻌﻘﻞ.
ﻓﻘﺎﻝ ﺟﺒﺮاﺋﻴﻞ ﻟﻠﺤﻴﺎﺀ ﻭاﻟﺪﻳﻦ: ﺍﻧﺼﺮﻓﺎ. ﻭدﻋﺎﻩ ﻓﻘﺎﻻ: ﻳﺎ ﺟﺒﺮاﺋﻴﻞ ﺇﻧﺎ ﺃُﻣِﺮﻧﺎ ﺃﻥ ﻧﻜﻮﻥ ﻣﻊ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﺣﻴﺚ ﻛﺎﻥ.
ﻗﺎﻝ: ﻓﺸﺄﻧﻜﻤﺎ، ﻭﻋَﺮَﺝ".
هذه الرواية الشريفة تبيّن حقيقة التلازم بين العقل والدّين والحياء، فمَن امتلك الأول سيمتلك الثاني والثالث بالتبع، ويعني أنّ العقل حاوٍ للدّين والحياء وليس العكس.
والدّليل ما تقرأه في القصة التالية التي في الأحاديث أيضًا وما أكثر مثيلاتها في حياتنا اليوم:
ورد أنّ عابدًا من بني اسرائيل كان يعيش في جزيرة، فعجبت الملائكةُ مِن كثرة تعبُّده، فأمَرَ اللهُ بعض ملائكته أن تذهب إليه لقياس درجة عقله، فنزلت إليه في صورة إنسان، حتى إذا استأنس لجلوسها قال للملائكة: يا ليت ربّي ينزل على حمارٍ فيأكل حمارُه هذه الحشائش في الجزيرة حتى لا تضيع هباء!!
إذن قد يتخذ الانسان جهله دينًا.. ويعبد ما يصنعه في مخيلته إلهًا.. ثم لا يستحي مِن فعلِ منكَرٍ والتبرير له بالدّين مثلًا…
نعم.. هذا كلّه يحدث لما يعدم التفكير بالعقل السليم.. بينما إذا فَكّرَ الإنسان عَرَفَ حقيقة الدّين وعاش بقيمة الحياء، فتلك هي السّعادة في الدّارَين.
من هنا وجب على الإنسان أن يساهم في تحرير عقله ليقوده إلى دينٍ صالح وعيشٍ بالقيم الإنسانية. وإلا فلا عذر له لو انطبقت عليه هذه الآية الكريمة:
(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ).
الرسالة (2)
- ليس العقل هو ما يخطّط به البعضُ لباطله ويخدع به الناس في ثوب الحقّ، إنّما هذا هو (النّكراء) هو (الشيطنة) الملبوس بثوب العقل كما يسمّيه الإمام الصادق (ع) في جوابه على سؤال الرّاوي: ما العقل؟
قال (ع): "ما عُبِدَ به الرّحمنُ واكتُسِبَ به الجنان".
قال: فالذي كان في معاوية؟
فقال (ع): "تلك النكراء! تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل، وليست بالعقل".
ولعلّ التسمية بالنّكراء نظرًا إلى أنّ الشخص هنا يتنكّر للعقل باتباع ما يمليه عليه هواه.
البعض يمارس النّكراء والشيطنة وهو عالمٌ بما يمارسه من خبثٍ وباطل. ولكن الأخطر هو مَن يمارس ذلك وهو يعتقد نفسه بالفعل على الحقّ!!
وهذا ما يسمّى في علم المنطق بالجهل المُرَكَّب. وهو المصيبة التي يتقلّب فيها أكثر الناس -وبعض العلماء والمثقفين- إذ لا يعلمون أنهم لا يعلمون، لذلك فلا يرون أنفسهم في حاجة إلى مراجعة النفس والتحقيق فيما يصلهم من معلومات والتأكُّد من صحّتها وسقمها والآثار المترتّبة عليها.
إنّ الإنسان في هذه الحالة -حالة الجهل المُرَكَّب- سيجمد في جهله وهو لا يدري، ويعاند متوهِّمًا استغناءه عن العلم وتجديد الوعي. وهذا أساس الكثير من الجدل العقيم والمراء الذي لا ينتهي إلى نتيجة سوى الدّوَران حول الذّات واجترار القناعات المُسبَقة.
أمّا الحلّ فهو أن يقرّر الفرد مع نفسه على مبدءٍ ثابت عنده، وهو أن يكون متواضعًا في كلّ حال. وبالتالي ينفتح على كلّ معلومة وخاصّةً إذا كانت تتعلّق بمن يخالفه، فيستمع بلا تعصّب ثم يتفكّر في أدلّته بكلّ حياديّة وموضوعيّة، فإن كانت صائبة أخذ بها، وإلا ازداد على يقينه بما عنده، فكلا الطرفين في صالحه. وهذا هو ما تريده الآية التي خاطبت الرسول (ص): (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) وهي خطابٌ إلينا لنفتح نوافذ عقولنا على كلّ الأقوال بحثًا عن الأحسن بينها، وإلا فالنبيّ أعلم الكائنات بعد الله تعالى ولا حاجة لديه للزيادة سوى دعاءه.
وتفيد الآية مفهوم التطوير في آليات المعرفة واكتشاف الجديد منها على نحو الاستمرار. وتؤيدها هذه الآية الأخرى: (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ). وفيها أنّ الهداية الإلهيّة إنما يتلقّاها صاحب اللّبّ.. واللّبّ هو العقل. والعكس صحيح. بمعنى أنّ الذي لا عقل له لا هداية له!!
بهكذا نظرة يجب أن تساهم في تحرير عقلك من الجمود وترفض كلّ آفةٍ تسلبك الحركة العلميّة وزيادة المعرفة.
ومن هنا كان العُجب بالرأي من الممنوعات في الإسلام، لأنه يؤدّي إلى تجميد حركة العقل وهو مدعاة للاستبداد بما يراه الفرد لنفسه وفرضه على غيره، وهذا ما يجعله والآخر في نزاعٍ وصِدام وعِراك وشِجار كما هو الحال الذي تشهده المجتمعات، بينما سيرة العلماء والعقلاء والحكماء قائمةٌ على البحث المفتوح عن الحقيقة في كلِّ وقتٍ وفي كلِّ مكان حتى ولو اقتضت استبدال الرأي بآخر بعد استتمام الأدلة واستحضار الشجاعة.
بهذه المناسبة ذكرنا في كتابنا (قصص وخواطر) أنّ المرجع الراحل الشيخ عبد الكريم الحائري مؤسّس الحوزة العلميّة في قم المقدسة، كتب جواب مسألة استفتاها منه أحدُ مقلِّديه. ولكنه قبل إرسال الجواب زار مرجعًا آخر فعرض عليه السؤال، فوجد جواب هذا المرجع أقوى من جوابه، فقال لمراسله فورًا ناولني الرسالة، فأخذها واستبدل جوابه بما استفاده من ذلك المرجع في ظلّ الدّليل الأقوى. وكما يُقال: (نحن أبناء الدّليل، نميل حيثما يميل).
ففي مثل هذه الأخلاقية الانسيابيّة التي تسمّيها الروايات "لين العريكة" سوف تنمحي من الفرد والمجتمع مواقفُ التعنُّت وتصنيم الأنا والعُجب بالنفس وغرور التحدّي وعصبيّات الجاهلية والمكر في الالتفاف حول الحقيقة والاستبداد بالرأي. وهذه كلّها من الرذائل التي عطّلت حركة العقل عند أكثر الناس والأحزاب السياسية والحكومات الظالمة وبعض المثقفين وعلماء الدّين.
كم يفتقر هؤلاء إلى تحرير عقولهم، فإنه لو تحرّر العقل لديهم وصار يمارس دوره الحقيقي كحُجّة الله في باطن كلّ إنسان لصارت علاقاتُهم جُنّةً عن الشرّ وحياتُهم جَنّةً بكلّ صُنوف الخير.
إذا عرفتَ هذه الرسالة فقد عرفتَ قول الإمام الرضا (ع) هذا: "صديقُ كلِّ امرئٍ عقلُه، وعَدُوُّه جهلُه".
وبيان هذا التلازم "وعَدُوُّه جهلُه" إنما للتأكيد على ضرورة الفرار من الجهل كفرارك من عدوّك، ووجوب الالتجاء إلى العقل كلجوئك إلى صديقك.
الرسالة (3)
في زمن الحيرة والتذبذب والضّياع ونزيف الانقسامات والصّراع.. كيف نميّز بين الحقيقة والخرافة وندرك بأنّ هذا من الدّين الحقّ وهذا من الدّين المزيَّف؟
المفتاح الحلّ بيد العقل الذي في داخلك.. فهلّا أعطيتَه دوره في فحص المعلومات الواردة إليك كدور ملكة النّحل التي تفحص أفراد خليّتها العائدين إليها قبل دخولهم مملكته وإفسادها بالسّموم إن وقعوا على غير الزّهور الطيّبة.
إنّ هذا هو دور العقل الطبيعي الذي أراده الله لنا لما رَكَّبَه فينا ليميّزنا عن البهائم التي اختارها أكثر الناس أسوةً وقرّروا أن لا يتميّزوا عنها إلا في الشّكل!!
يقول الإمام علي (ع): "اِنَّ اللّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَكَّبَ فِى الْمَلائِكَةِ عَقْلاً بِلا شَهْوَةٍ وَ رَكَّبَ فِى الْبَهائِم شَهْوَةً بِلا عَقْلٍ وَ رَكَّبَ فى بَني آدَمَ كِلَيْهِما، فَمَنْ غَلَبَ عَقْلُهُ شَهْوَتَهُ فَهُوَ خَيْرٌ مِن الْمَلائِكَةِ وَ مَنْ غَلَبَتْ شَهْوَتُهُ عَقْلَهُ فَهُوَ شَرٌّ مِنَ الْبَهائِمِ".
ولكن ما هو العقل؟
وكيف نحرّره ونحن لا نعرفه؟
ما يُستفاد من القرآن الكريم وأحاديث النبي محمد وأهل بيته (عليه وعليهم الصلاة والسلام) أنه:
{نورٌ مِن عطاء الله على روح الإنسان أفاضه على قلبه ليكشف به صاحبُه موارد الحُسن والقُبح في الحياة ويختار على ضوئه السّلوك المرضيّ عند الله}
إلا أنّ للعقل درجات في القوّة والنّشاط والضّعف والخمول، فمن أين يكون السبب في ذلك؟
يصل العقلُ مرحلةَ الفعليّة في قوّته ونشاطه حينما يغذّيه صاحبه من العلم النافع فتعلو درجة الكاشفيّة فيه للمجهولات وصياغة المواقف من الأمور. ولكنّه لو أخذ من العلم الضارّ وتغذّى من المعلومات الفاسدة سينحدر بجهله نحو كل رذيلة حسب مستوياتها.
هذا ما أفادت به الآية الكريمة: (وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ). ومن هنا كان حثّ الإسلام على طلب العلم النافع فقط، واحترام العلماء الصالحين فقط، والقراءة باسم ربّك فقط.. نعم والاستمرار في ذلك من المهد إلى اللّحد.
إنك إن عرفتَ هذه البصيرة وتعرّفتَ بها على عقلك -وهو حجّة الله عليك- ستنجو يقينًا من الجزّارين الذين كَثُروا اليوم في مجتمعاتنا بأقلامهم وأقوالهم وأفعالهم الجارحة والهاتكة والقاتلة، ويظهر بعضهم على شاشة التلفاز يخدع الذين لا يعقلون فيحوّلهم إلى خرفان تُسحَب إلى مصاقل الصراعات الجاهلية والاستنزاف كما يطلبه أعداء الإسلام ويريده الشيطان.
ولكن السؤال كيف نقوّي العقل بداخلنا ونستثمر هذه النّعمة الإلهيّة لنتخلّص من الخرافة والسقوط في الفخّ؟
نرى الجواب عبر هذه الرسالة الوجيزة في مسألتَين:
* الأولى.. ضرورة تنقية مصادر المعرفة، والتفكير حين تلقّي المعلومات.
فعلى صعيد العلماء والخطباء، اعلم أنّ كلّ مدرسة من مدارس الحوزات العلمية لم تنقل الطالب من دروسه الوَرَقِيّة إلى مرحلة النّضج العقلي لن تكون مدرسةً مؤهَّلةً لخدمة الدّين الحقّ.
لذا يجب أن نختار نوع العلم الذي ندرسه إن كان يُنضِج عقولنا لنُنتِج بها مواقف من جنس الحكمة والأخلاق والعقلانيّة، أم يصنع منّا خطباء الفتنة وأبواقًا للسبّ واللّعن وتأزيم أوضاع المسلمين؟!
قبل 20 عامًا حينما كنتُ أريد تزويد الطبعة الجديدة لكتابي (قصص وخواطر) بقصصٍ جديدة زرتُ أحد العلماء المعروفين (رحمه الله) وكنتُ أراه أيّام دراستي في النجف الأشرف -فترة السبعينيات-، فابتدأ كلامه لي بقصة خرافيّة يضحك عليه حتى الطفل الصغير. فقِستُ بها عقلَه ثم لم أسأله عن قصة أخرى!!
تذكّرتُ حينه قول النّبي (ص): "ﺇﺫﺍ ﺑَﻠَﻐَﻜُﻢ ﻋﻦ ﺭﺟﻞٍ ﺣُﺴﻦ ﺣﺎﻝ ﻓﺎﻧﻈُﺮﻭﺍ ﻓﻲ ﺣُﺴﻦ ﻋﻘﻠﻪ، ﻓﺈﻧّﻤﺎ يُجازى ﺑﻌﻘﻠﻪ".
فلابدّ لنا أن نعرف إذن بأنّ العلم الدّيني شيءٌ والنّضج العقلي شيءٌ آخر. وأنّ العمامة ليست علامة للعالِم الناضج عقليًّا والسّوِيّ عمليًّا.
هذا ما ينبغي للناس أن يعرفوه كيلا يلغوا عقولهم عن التفكير وينساقوا خلف كلّ ناعق. ولا فرق هنا بين معمّمٍ ومثقف وبين رجلٍ وامرأة وبين مسلمٍ وغير مسلم. لأننا في زمن عولمة الثقافات البشريّة واستهداف تقدّم الإسلام واختلاط الأوراق يجب أن نَفطِن الكياسة وإلا صرنا حميرًا لحمل مآرب الآخرين من حيث لا نعلم…
* الثانية.. ضرورة الاعتقاد بقيمة العقل وأهمّيته في حياتنا. وهو ما يوفّره لنا مثل هذا الحديث النبويّ الشريف: "ﻣَﺎ ﻗَﺴَﻢَ ﺍﻟﻠَّﻪُ ﺷَﻴْﺌًﺎ ﻟِﻠْﻌِﺒَﺎﺩِ ﺃَﻓْﻀَﻞَ ﻣِﻦَ ﺍﻟْﻌَﻘْﻞِ ، ﻭَﻧَﻮْﻡُ ﺍﻟْﻌَﺎﻗِﻞِ ﺃَﻓْﻀَﻞُ ﻣِﻦْ ﺳَﻬَﺮِ ﺍﻟْﺠَﺎﻫِﻞِ ﻗَﺎﺋِﻤًﺎ ، ﻭَﺭَﺍﻛِﻌًﺎ ، ﻭَﺳَﺎﺟِﺪًﺍ ، ﻭَﺇِﻓْﻄَﺎﺭُ ﺍﻟْﻌَﺎﻗِﻞِ ﺃَﻓْﻀَﻞُ ﻣِﻦْ ﺻَﻮْﻡِ ﺍﻟْﺠَﺎﻫِﻞِ ﻃُﻮﻝَ ﺍﻟﺪَّﻫْﺮِ ﺳَﺮْﻣَﺪًﺍ ، ﻭَﺇِﻗَﺎﻣَﺔُ ﺍﻟْﻌَﺎﻗِﻞِ ﺃَﻓْﻀَﻞُ ﻣِﻦْ ﺷُﺨُﻮﺹِ ﺍﻟْﺠَﺎﻫِﻞِ ﺣَﺎﺟًّﺎ ﻭَﻣُﻌْﺘَﻤِﺮًﺍ ، ﻭَﺗَﺨَﻠُّﻒُ ﺍﻟْﻌَﺎﻗِﻞِ ﺃَﻓْﻀَﻞُ ﻣِﻦْ ﺳَﻔَﺮِ ﺍﻟْﺠَﺎﻫِﻞِ ﻓِﻲ ﺳَﺒِﻴﻞِ ﺍﻟﻠَّﻪِ ﻏَﺎﺯِﻳًﺎ ، ﻭَﺿَﺤِﻚُ ﺍﻟْﻌَﺎﻗِﻞُ ﺃَﻓْﻀَﻞُ ﻣِﻦْ ﺑُﻜَﺎﺀِ ﺍﻟْﺠَﺎﻫِﻞِ ، ﻭَﺭُﻗَﺎﺩُ ﺍﻟْﻌَﺎﻗِﻞِ ﺃَﻓْﻀَﻞُ ﻣِﻦَ ﺍﺟْﺘِﻬَﺎﺩِ ﺍﻟْﺠَﺎﻫِﻞِ ، ﻭَﻟَﻢْ ﻳَﺒْﻌَﺚِ ﺍﻟﻠَّﻪُ ﻧَﺒِﻴًّﺎ ﻭَﻻ ﺭَﺳُﻮﻻ ﺣَﺘَّﻰ ﻳَﺴْﺘَﻜْﻤِﻞَ ﺍﻟْﻌَﻘْﻞَ ، ﻭَﻛَﺎﻥَ ﻋَﻘْﻠُﻪُ ﺃَﻓْﻀَﻞَ ﻣِﻦْ ﺟَﻤِﻴﻊِ ﻋَﻘْﻞِ ﺃُﻣَّﺘِﻪِ ﻳَﻜُﻮﻥُ ﻓِﻲ ﺃُﻣَّﺘِﻪِ ﻣَﻦْ ﻫُﻮَ ﺃَﺷَﺪُّ ﻣِﻨْﻪُ ﺍﺟْﺘِﻬَﺎﺩًﺍ ﺑِﺒَﺪَﻧِﻪِ ﻭَﺟَﻮَﺍﺭِﺣِﻪِ ، ﻭَﻣَﺎ ﻳُﻀْﻤِﺮُ ﻓِﻲ ﻋَﻘْﻠِﻪِ ﻭَﻧِﻴَّﺘِﻪِ ﺃَﻓْﻀَﻞُ ﻣِﻦْ ﻋِﺒَﺎﺩَﺓِ ﺍﻟْﻤُﺠْﺘَﻬِﺪِﻳﻦَ ﻓَﻤَﺎ ﺃَﺩَّﻯ ﺍﻟْﻌَﺒْﺪُ ﻓَﺮَﺍﺋِﺾَ ﺍﻟﻠَّﻪِ ﺣَﺘَّﻰ ﻋَﻘَﻞَ ﻋَﻨْﻪُ ، ﻭَﻻ ﺍﻧْﺘَﻬَﻰ ﻋَﻦْ ﻣَﺤَﺎﺭِﻣِﻪ ﺣَﺘَّﻰ ﻋَﻘَﻞَ ﻋَﻨْﻪُ ، ﻭَﻻ ﺑَﻠَّﻎَ ﺟَﻤِﻴﻊُ ﺍﻟْﻌَﺎﺑِﺪِﻳﻦَ ﻣِﻦَ ﺍﻟْﻔَﻀَﺎﺋِﻞِ ﻓِﻲ ﻋِﺒَﺎﺩَﺗِﻬِﻢْ ﻣَﺎ ﺑَﻠَّﻎَ ﺍﻟْﻌَﺎﻗِﻞُ ﻋَﻦْ ﺭَﺑِّﻪِ ،ﻭَﻫُﻢْ ﺃُﻭﻟُﻮ ﺍﻷَﻟْﺒَﺎﺏِ ﺍﻟَّﺬِﻳﻦَ ﻗَﺎﻝَ ﺍﻟﻠَّﻪُ ﻓِﻲ ﺣَﻘِّﻬِﻢْ: (ﻭَﻣَﺎ ﻳَﺬَّﻛَّﺮُ ﺇِﻻ ﺃُﻭﻟُﻮ ﺍﻷَﻟْﺒَﺎﺏ)".
نفهم من هذا الحديث أنّ قليل العمل بعقلٍ خيرٌ من كثيره بلا عقل، وأنّ التركيز يجب أن يكون على النوعيّة والجودة والإتقان، وأنّ العاقل لا يغريه المظهر والشعارات والدعايات وكثرة الصور والادعاءات!!
فأيّ شيءٍ يطرق آذاننا يجب أن ندرس محتواه جيّدًا ثم نقرّر قبوله أو رفضه أو التوقّف عنه حتى يأتينا الخبر اليقين.
وهذا من النّضج الذي يصنعه العقل والعلم والدّين، فندفع به الخرافة والزّيف ونتقرّب به إلى الله تعالى بالدّين الصحيح.
الرسالة (4)
لماذا سُمّي العقل عقلًا؟
لأنه يَعْقِلُ صاحبَه عن ارتكاب القبائح واقتراف الآثام والمفاسد.
ويُقال له اللُبّ، لأنه خلاصة روح الإنسان والتي بها يتحقّق معناه في الإنسانيّة.
ويُطلَق عليه الحِجَا، لأن به يحتجّ صاحبُه على غيره في المناظرة.
ويسمّى الحِجْر، لأنه يحجر عن الوقوع في الرذيلة ويحول دونها ويمنع.
ومن أسمائه النُّهَى، لأن حكمه يكون نهاية الدليل إلى الصّواب، فما يصل إليه العقل السليم ليس بعده شيءٌ آخر.
نعمةٌ عظيمةٌ كهذه أليس من الظلم والغباء أن يعتقلها صاحبها في سجن الهوى ويقطع عنها سبيل الحركة والقيادة؟!
من هنا كانت دعوتنا إلى تحريره.. فلا تكن ممن يسجن عقله ويسلبه حرّيتَه ثم يحرم على نفسه نوره وخيره وعطاءه ويتحوّل إلى مصدر تصديع وتأزيم.
ويكون ذلك باتّباع الشهوات التي حدّدها الإمام علي (ع) في خمسة قائلًا: "ينبغي للعاقل أن يحترس من سُكر المال، وسُكر القدرة، وسُكر العلم، وسُكر المدح، وسُكر الشباب، فإنّ لكلّ ذلك رياحاً خبيثةً، تسلب العقل وتستخفّ الوقار".
باحتراسك من هذا السُّكر فأنت تساهم في استثارة دفائن عقلك واستخراج كلّ كنزٍ مخبوءٍ فيه وما أكثره.
وهذه من مهامّ الرّسل والأنبياء كما وصفها الإمام عليّ (ع) في (نهج البلاغة): "…فَبَعَثَ فِيهمْ رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِياءَهُ، لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بَالتَّبْلِيغِ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ…".
فكم ستكون عظيمًا أنت ورائعًا لما تقرّر العمل في تحرير عقلك من تلك المكبِّلات الخمسة:
1/ المال؛ وما أدراك ما المال؟! وبه قد فَسَدَ ما لا يُحصى من البشر ولا زال.
2/ القدرة السياسية والحزبيّة والعسكرية؛ وهي التي سلبت العقول عن العدل والأمن.
3/ العلم؛ حيث أكثر الفتن من العلماء والمثقفين الذين اغترّوا ببعض ما لديهم ظنّوا أنهم يحيطون بكلّ شيءٍ علمًا، فراحوا يقولون ويكتبون بلا خشيةٍ من الله تعالى.
4/ المدح؛ وهو ما يسكر البعض ويخدّره بالفعل حتى يصدّق نفسه وينسى قبره!!
فما أكثر الذين إذا مدحوهم صمّوا عن النقد البنّاء وأغلقوا عقولهم أمام مراجعة الذات.
5/ الشباب؛ طيشٌ وطغيان.. يسمّونه سنّ المراهقة. وهذه من ثقافة الغرب لتبرير فسادهم، وليس عندنا في الإسلام شيء بهذا المصطلح ولا المفهوم.
هذه كلّها رياحٌ خبيثة تسلب العقل حرّيته في القيادة إلى الورع والرزانة والأدب والعفّة والشّرف والمعرفة ورفعة التواضع ونُبل القِيَم النّاهضة من عمق الدّين الذي قال عنه الإمام الصادق (ع): "مَن كان عاقلًا كان له دين، ومَن كان له دين دَخَلَ الجنّة".
فالعقل الإسلامي -في مذهب أهل البيت- متصلٌ بهدف الآخرة وإدخال صاحبه الجنة، حتى قال الإمام الباقر (ع): "إنّما يُداقُّ اللهُ العِبادَ في الحسابِ يومَ القيامة بمِقدارِ ما آتاهُم مِنَ العُقولِ في الدّنيا".
لفظة (مِن) في "آتاهُم مِن العقول".. تفيد وجود مستويات إن أخذناها تبعيضيّة، وتفيد المعيار والمِلاك إن أخذناها بيانيّة.
وفي كلا الحالَين تدلّ العبارة على توفُّر المادّة الأصليّة من نعمة العقل في كلّ إنسان وإنما عليه تنشيط مراحلها في التكامل وتنميتها بالعلم والتقوى. إلا الذين يُصابون بالجنون من الولادة أو بعدها فلا حَرَجَ عليهم ولا حساب. وهذا جزءٌ من عدالة الله ورحمته التي وسعت كلّ شيء.
بالتأسيس على ما سبق فإنّ مفاهيم الصلاح والإصلاح هي مما يحكم العقل بكلّياتها وبعض تفاصيلها ولكن بالتعاون مع الدّين في أحكامه التفصيليّة، كيف لا وهما حجّتان لله في داخل الإنسان (العقل) وفي خارجه (الدّين على لسان النبيّ وأوصيائه المعصومين).
تحرير العقل إذن هو بالانفتاح على هذا الدّين، كما أنّ تحرير الدّين يكون بالانفتاح على هذا العقل، وهو القاعدة التي أقرّها علماء الأصول في قولهم: (ما حَكَمَ به العقلُ حَكَمَ به الدّين، وما حَكَمَ به الدّينُ حَكَمَ به العقل).
هذا البيان يؤكّد لنا على أنّ مقوّمات الشخصية العقلانيّة الناجحة لن تنفصل عن حقيقة ما يريده الدّين الإسلامي الحنيف. وهذا الدّين لن يختلف مع عضيده العقل في سياق الهدف التمهيدي والهدف النهائي، وهو إيصال الفرد إلى الجنّة عبورًا به من الطاعة لله وللرسول ولأهل بيت الرسول.
ونختم رسالتنا هنا بالإشارة إلى المدرسة العلمانيّة التي غزتنا من الغرب بعد الثورة الفرنسيّة سنة 1789م إلى 1799م التي أطاحت بحُكم الكنائس المتخلّفة. فهي كردّة فعلٍ ضدّ دينٍ مزيّفٍ باسم النبيّ عيسى كانت مقبولة نسبيًّا، ولكن انتقالها بكلّ مساوئها إلى الشرق على ظهر المشاريع الاستعمارية لصناعة وكلاء وعملاء لهم في بلاد المسلمين كان ولازال مصدرًا للحرب على دين الإسلام الذي هو ليس كدينهم الكَنَسِيّ في الغرب.
فكلمة (العلمانيّة) تعني الدّنيَوية والمادّية. والاعتقاد بأنّ الأخلاق وطريقة السلوك يجب أن لا تكون دينيّة.
وقسّمت دائرة المعارف البريطانية الإلحاد إلى قسمين.. نظري وعملي. واعتبرت العلمانيّة من القسم الثاني. لعدم اعترافه بأيّ دينٍ من الأديان.
فالعقل الذي تفصله العلمانيّة عن الدّين وتفتح له الطريق الواسع لرسم خرائط العلم والسياسة والإدارة ونمط الحياة، ليس هو العقل الذي نتحدّث عنه في الإسلام.
ونحن بحكم ما يدّعيه العلمانيّون في الشرق من الحرّية ندعوهم إلى مراجعة قراءتهم لمفهوم الدّين الإسلامي ومفهوم العقل الفطري بعيدًا عن الفكر الغربي الذي نتجت عنه حضارة مادّية قائمةٍ على أساس المنفعة الفرديّة والتّحالفات الرأسماليّة التي تصدّر الحروب إلى بلدان العالَم الثالث -كما يسمّونها-.. وبعيدًا أيضًا عن السلوك الشرقي الذي لَبَسَ ثوب الدّين مقلوبًا لِيُروّج به ثقافة الجهل والتحجُّر وتكبيل العقل والتفكّر.
الرسالة (5)
في حديثٍ طويلٍ للإمام الكاظم (ع) شَرَحَ لصاحبه هشام بن الحكم دور العقل في فهم الدّين وتعاضدهما في الارتقاء بشخصيّة الإنسان النوعيّة، يؤكد فيه الإمام (عليه السلام) على مرجعيّة العقل الشرعي في وعي العقائد الدّينية مستعرضًا 29 آيةً حيث ختمت رؤاها بكلمات مثل: (أَفَلَا يَعْقِلُونَ) (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وما أشبه.
على ضوء هذا الحديث الشريف نقول إذا عَقَلَ الفرد وتَفكّر فآمَنَ بالعقائد (كوجود الله ووحدانيّته، والنبوّة والإمامة، واليوم الآخر) فقد دلّه هذا العقلُ نفسه أيضًا على الإيمان الكُلّي بالأحكام الفقهيّة والآداب الأخلاقيّة باعتبارها صادرة عن هذا الإله العليم الحكيم، فلا يشكّك نفسه بعدئذ ولا يناقش في الدّين بقصد الردّ والاستكبار. مَثَلُه كمَثَل الذي إذا اقتنع بجدارة طبيبٍ سيقبل منه علاجه مُغَمَّض العين.
لذلك قال الفقهاء أنّ على المكلَّف الاعتقاد بأصول الدّين وفق الدّليل والبرهان، ولكنّه في فروع الدّين يكفيه تقليد المرجع الأعلم. ولعل السبب أنّ الأحكام الدينيّة من الغيبيّات ولا سبيل للعقل إليها وإنّما الوحي. ولعل السبب الآخر هو اختبار طاعة الإنسان لله تعالى.
(ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ…)
بهذه القراءة سيبطل القول بتنافر العقل والدّين. وإنما يتنافر معه "الرأيُ الشخصي" و"الذّوق" و"الاستحسان" و"القياس" الذي يسمّيه الجاهل عقلًا. وهو قد يكون مثقفًا أو عالم دينٍ عندما يورّطان أنفسهما في هذه الموهومات الأربعة. وهي مصدر أكثر الانحرافات والخلافات حول المسائل الدينيّة والشعائر الحسينيّة. بينما العقل في هذا الدّين العظيم هو ما عرّفناه على ضوء القرآن وكلام النبيّ وعترته أهل بيته. وهم أولى من غيرهم ببيان الدليل إلى هذا الدّين الحق. لذا ورد عن النبيّ (ص) في حديث قُدسيّ: "أنّ الله جلّ جلاله قال: ما آمَنَ بي مَن فَسَّرَ برأيه كلامي".
فعند القيام بتحرير عقلك من هواك -وكغيرك ممن يقرّر هذا القرار البطولي الشّهم- تحتاج إلى وعي البصيرة المذكورة كحاجتك إلى العناصر الأربعة التالية:
* ألف.. الوعي: وذلك بالقراءة والاستماع.
* باء.. التفكُّر: وذلك بالتأمُّل والتدقيق.
* جيم.. التعبُّد: وذلك بذكر الله والخشية من حسابه وعقابه.
* دال.. التّقوى: وذلك بتجنُّب الذّنوب والمعاصي.
ويكون انعدام العنصر الرابع (التقوى) بتغييب العناصر الثلاثة قبله. وهو ما ورد في دعاء أمير المؤمنين (ع) المعروف بدعاء كميل، حيث ذَكَرَ (عليه السلام) أنواع الذّنوب وآثار كل ذنب على مرتكبه. ويدعم ذلك ما جاء في الحديث: (إذا أذنَبَ العبدُ مَجَّ عقلُه مَجّا).
و(المَجَّ) في اللّغة يعني الرّمي، فالمعنى أنّ الذي يذنب يرمي عقله ويتخلّى عنه ويلفظه.
من هنا إذا رأيتُم إنسانًا تائهًا على سراب الغباء والحماقة والتصرّفات الصبيانيّة.. حتى لو كان في زيّ العلماء أو كان من المثقفين لا تستغربوا. فإنما يكشف عن مستوى عقله حيث لم يدرّبه بالقراءة، والتفكّر، وبذكر الله، وتجنُّب الذنوب.
هذه حالة أكثر الناس في زماننا.. يعملون صالحًا وآخر سيِّئًا حسب الأهواء.. مرّة مع الله ومرّة مع الشيطان. هؤلاء لم تنضج عقولهم ويبقون صغارًا دائمًا حتى لو كبُرت أعمارُهم أو كبّرتهم دعايات وسائل الإعلام.
فلكي تحذر من أن تكون منهم تأمّل جيّدًا في بقيّة وصايا الإمام الكاظم (ع):
"يَا هِشَامُ! مَنْ سَلَّطَ ثَلَاثاً عَلَى ثَلَاثٍ فَكَأَنَّمَا أَعَانَ هَوَاهُ عَلَى هَدْمِ عَقْلِهِ؛ مَنْ أَظْلَمَ نُورَ فِكْرِهِ بِطُولِ أَمَلِهِ، وَمَحَا طَرَائِفَ حِكْمَتِهِ بِفُضُولِ كَلَامِهِ، وَأَطْفَأَ نُورَ عِبْرَتِهِ بِشَهَوَاتِ نَفْسِهِ، فَكَأَنَّمَا أَعَانَ هَوَاهُ عَلَى هَدْمِ عَقْلِهِ، وَمَنْ هَدَمَ عَقْلَهُ أَفْسَدَ عَلَيْهِ دِينَهُ وَدُنْيَاهُ".
اعرِف هذه الحقائق لتعرف جذور المشاكل التي تعكّر صفو حياتك. بهذه المعرفة إنهض لمواجهة ما يدمّر دينك ودنياك، فإنك إن لم تتحرّك الآن يوشك أن تنتهي أنفاسك في هذه الحياة فتتفاجأ بحساب القبر وما بعده وأنت يمكنك التخلّص منه قبل موتك المحتوم…
الرسالة (6)
هل الأكثرية معيارُ حقٍّ لاتخاذ القرار، أو هي صالحةٌ لتكون الدليل على معرفة الحقّ وموضعه ومصداقه؟
هذا ما رَفَضَه القرآنُ الكريم والنبيُّ وأهلُ بيته (عليه وعليهم السلام). لذا يقول الإمام الكاظم (ع) في حديثه لهشام بن الحكم: "ثم ذَمَّ الكثرة" واستشهد (ع) بالآية: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).
بل ويؤكّد الإمام على العكس قائلًا: "ثم مَدَحَ القلّة" واستشهد بالآية: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ).
نعم إذا كانت الأكثرية في جمع الفقهاء وعدول المؤمنين فقط وهم في إطار الشورى بينهم أو التوافق العقلائي -لا الحزبي والفئوي- وذلك لحسم القرارات حول الموضوعات الخارجيّة للأحكام الشرعيّة لا لتحليل حرام الله وتحريم حلاله سبحانه فلا إشكال فيها انطلاقًا من الأحاديث القائلة: "المؤمنون عند شروطهم" و "مَن شاوَرَ الرجال شارَكَها في عقولها" و "أعقل الناس مَن جَمَعَ عقول الناس إلى عقله".
وهنا إذا امتلك المتخالفان في الرأي أدلّتهما ولم يقتنع أحدهما بأدلة الآخر بعد الحوار والمناظرة، فحينئذ جعل الأكثرية معيارًا للترجيح لا بأس به حسب أمر الإمام الباقر (ع) لتلميذه زرارة: "خُذ بما اشتُهر بين أصحابك" في حديثٍ يعالج به الإمام (ع) إشكاليّة التعارُض والترجيح. وهي مسألة علميّة يتناولها الحوزويّون من مختلف جوانبها.
يقول زرارة: سألتُ الباقر (ع) فقلتُ: جُعِلتُ فداك يأتي عنكما الخبران والحديثان المتعارضان فبأيِّهما آخُذ؟
فقال (ع): "يا زرارة خُذ بما اشتُهر بين أصحابك، ودَعِ الشاذّ النادر.
فقلتُ: يا سيّدي إنهما معاً مشهوران مرويّان مأثوران عنكم.
فقال(ع): خُذ بما يقول أعدَلُهما عندك وأوثَقُهما في نفسك.
فقلتُ: إنهما معاً عدلان مرضيّان موثَّقان.
فقال (ع): أُنظُر ما وافَقَ منهما العامّة فاترُكه، وخُذ ما خالَفَه، فإنّ الحقّ فيما خالَفَهُم.
فقلتُ: ربما كانا موافقَين لهم أو مخالفَين، فكيف أصنع؟
فقال: إذن فخُذ ما فيه الحائطة لدينك، واترُك الآخر.
فقلتُ: إنهما معاً موافقان للاحتياط، أو مخالفان له، فكيف أصنع؟
فقال: إذن فتخيَّر أحدَهما، فتأخُذ به وتَدَعِ الآخر".
وأما الأقليّة الممدوحة فلا لكونها أقليّة وحسب، بل لأنها شاكرة لنعم الله بتوظيفها في مكانها الصحيح.. فإذا فقدت أقليّةٌ من عموم المؤمنين هذا القيد القرآني فلا تكون ممدوحةً حتمًا.
بذلك نعرف أنّ الأكثرية ليست دائمًا على باطل ما دامت بين عدول المؤمنين غير المتحزّبين أو المتمرجعين!!
وهي كآليّة للحسم الإداري قابلةٌ للقبول في حدود مشروعهم الخاصّ بهم وليست لفرض قراراتهم على غيرهم حتى لو كانت على مستوى مشروع سياسي لجماعة لم يتمّ الاتفاق بينهم مع جماعات أخرى. وكذلك الأمر في صفوف المراجع الأجلاء، فإن لم يجتمعوا في شورى فلكلّ واحد منهم اجتهاده ومقلِّدوه.
وكذا الأقلية أيضًا ليست دائمًا على حقّ إلا أن تكون بين عباد الله الشّكور.
وفي كلا الحالَين أن لا تكونا -أي الأكثرية والأقلية- في خلاف شرع الله المنصوص. وهو لا يكون بين المؤمنين أبدًا عدولهم وفقهائهم.
ولعلّ السبب في كون الأكثرية لا اعتبار لها من دون القيد المذكور هو أنّ الباطل حُلوٌ بطبيعته المتلاقية مع طبيعة الإنسان الترابيّة الميّالة إلى الحُلو الدّنيوي المتثاقلة عن تحمُّل الحقّ وشروطه في جهاد النّفس.
نستدلّ على ذلك بما نرى في الأكثرية التي على باطل أنها في حقيقتها أقلّيات متناحرة فيما بينها.. ثم كم من كثرةٍ باطلة كانت في بدايتها قلّة فانتفخت بالدعاية وتورّمت بالإعلام وساعدها على ذلك عنصرُ الزمان. والعكس صحيح أيضًا عندما يبدأ المؤمنون من عدد قليل ثم يتحوّلون إلى أكثرية في مجتمعٍ مّا.
لذا فالآيتان حول الأكثريّة والأقلّية لا تؤسّسان قاعدةً كلّيةً ثابتةً في الأكثريّات والأقلّيات، بل تُبيِّنان بعض مصاديق الكثرة والقلّة في مواجهة الأنبياء أو معاضدتهم على نحو الغالب على أرض الواقع.
وبعبارة أخرى لا تريد الآيتان إرساء قاعدة علميّة ثابتة في ذلك بل تشيران إلى الواقع الخارجي كحالة كانت تسود أكثر المجتمعات والأزمنة تبعًا لحقيقةٍ قالها الإمام علي (ع): "الحقّ مُرٌّ والباطلُ حُلو".
إنّ هذه البصيرة المستفادة من القرآن والعترة تفرض على الباحثين عن الحقّ مبدأ التجرُّد المَعرَفي كوسيلةٍ مضمونةٍ للوصول إلى الحقّ بعيدًا عن الميول الأهوائية أو الضغوط الأجوائية أو الانتماءات القوميّة أو المصالح الحزبيّة أو الحسابات السياسيّة أو العواطف الأُسريّة والصداقات العاطفيّة، لأنّ التجرّد عن كلّ ذلك مفتاح الطريق في رحلة الكشف عن الحقّ وبلوغ الحقيقة. وما أكثر الذين انحرفوا عن الحقّ لما أعطوا عقولهم لهذه العوامل البشريّة الضاغطة فجاؤوا يوم القيامة وهم في عِداد المشركين بالله لمّا سلبتهم هذه العوامل عنصر الحياديّة في تقييم الأفكار والأقوال والأفعال.
لقد كان هذا التجرّد ولازال من أصعب القرارات في حياة الإنسان، لأنه الجهاد الأكبر بالفعل. فلا يوجد إنسان تبلورت قناعاته في خارج تلك العوامل الضاغطة إلا مَن كان مُخلصًا لله ومُخلَصًا منه تعالى: (إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ). ولاسيّما في زماننا حيث العولمة الاستكبارية وإعلامها المُمَنهَج بوسائله الساحرة التي أضلّت كثيرين لأجل المصالح الماليّة الكبرى في سوق التجارة والسياسة قد أصبحت هي التي تصنع الأفكار والتوجّهات والتكتّلات وتقود الرأي العام بدلًا عن السّماح للعقل المحايد من قيادة الناس في جوّ الحرّية الحقيقيّة.
وهذه هي الحلقة المفقودة حتى في أفضل الدول الديمقراطية – كما يسمّونها- وهي ليست سوى ديمقراطية التحالفات لأهل الباطل الموجَّهة عبر مَن يملكون منهم المال الأكثر للسيطرة على مساحات أكبر في شؤون العباد والبلاد. وتلعب وسائل الإعلام التي بأيديهم السلاح الأمضى للسيطرة على الجمهور بلطايف الحِيَل في طريقهم إلى استضعافهم للهيمنة الاقتصادية والعبوديّة لرأس المال ورؤوس الأغنياء.
في زحمة هذه الصّراعات -التي تدور فيها المجموعات الكبيرة والصغيرة والأكبر والأصغر- لا يوجد صوتٌ حقيقيٌّ للحقّ نظرًا للطبيعة الترابيّة التي أشرنا إليها والتي يتقاسمها جميع المصابين بالخمول العقلي نتيجة تهميشهم لهذه النعمة منذ البداية وعبر توارث الأجيال بلا تفكير.
فالأكثرية إذن ليست معيارًا ثابتًا للحقّ كما الأقلّية أيضًا إلا ما كان منهما في ظلّ الشروط الآنفة الذّكر.
وهنا ليس من المهمّ أن يكون المؤمنون قلّة، إذ قال ربّنا -عزّ وجل- في المؤمنين السابقين: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).
وهذا ما أراده الإمام علي (ع) من قوله: "لا تَستَوحِشوا طريقَ الحقّ مِن قلّة سالِكيه".
وتدعم هذا المعنى الروايات الداعية إلى معرفة الحقّ بالحقّ نفسه لا بالرّجال. لأن الحقّ ثابت والرّجال متقلّبون.
هذه القضية دقيقة للغاية، ولها أهميتها البُنيَويّة في البحث حول محورَي الهداية والضّلال ومسألتَي الحقّ والباطل والصحيح والخطأ، وهي قضية محلّ ابتلاء الناس في زماننا كما في الأزمنة السابقة.
فالذي يريد تحرير عقله يجب عليه أن لا يسمح لتلك العوامل وخاصةً للأجواء الإعلامية -الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي مثلًا- أن تجرف به إلى صنّاعها الماكرين أو الغافلين أو المغفَّلين ومَن ينشرون الأكاذيب ويشوّشون صفو النفوس لشلِّ التفكير الهادف والهادي…
وهكذا فإن كنتَ جادًّا في تحرير عقلك قاوِم هذه الموجة بعقلك المتفكّر وتحرّر من هواك، ولن تستطيع إلا بطلب العون من الله جلّ جلاله وبالإلحاح والتضرّع إليه كيلا يَكِلَك إلى نفسك طرفة عينٍ أبدًا.
لهذا يوجّهنا الإمام الكاظم (ع) في وصاياه لنكون عقلانييّن بخالص النوايا لله تعالى فإنّ أيّ شيءٍ آخر لا ينفعنا في يوم القيامة.
فلنكن ممن حثّهم الإمام (ع) على التحلّي بصفات العقلاء قائلًا: "ثُمَّ ذَكَرَ -أي الله عزّ وجل- أولي الأَلبابِ بأحسَنِ الذِّكر وحلّاهُم بأحسَن الحِلية".
أما تريد الآن أن تكون من هؤلاء؟!
الرسالة (7)
لا يوجد أحدٌ لا يحبّ الخير، وحتى الذي يمارس الشرّ يحبّ الخير ويغضب إن نسبتَ له شرّه وانتقدته عليه.
ولكن لماذا الإنسان يحبّ الخير هكذا؟
لأنّه مشدود إليه بالفطرة.. ولأنّ الخير معناه فيه واسمه معه.. ولأنّ الإنسان بالخير يعيش ناجحًا محترمًا سعيدًا.. وشامخًا محبوبًا مهيبًا.. وجذّابًا عزيزَ النّفس وجيهًا…
ولماذا لا يكون أكثر الناس من أهل الخير؟
لأنّهم يطلبونه بلا سعيٍ وتعبٍ واهتمام.. وهذا ما لا يكون ولن يتحقّق. أليس الله -عزّ وجل- قال وبأداة الحصر: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ).
فلابدّ إذن من قرار السّعي، وهو الأساس التنفيذي في مشروع تحرير العقل إن كنتَ معنا على هذا الخط!!
عرفنا أنّ الخير مطلوب الجميع، ولكن من أين السبيل إليه؟
قال الله تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ).
فإذا كان الخير يأتي من الحكمة بمشيئة الله لعبده المخلص، ففي غيابها يأتي الشرّ دائمًا وهو نتيجة البُعد عن الله -عزّ وجل-.
لذلك وجب الحثّ على إحياء الحكمة قبل أن تنقرض تمامًا كما انقرضت من حياة أكثر الناس وأكثر الحكّام وأكثر العلماء وأكثر المثقفين، ودليله هو انقراض الخير إلا ما بقي منه بمقدار الحكمة لدى البعض النوادر.
هذا ما حملته إلينا خاتمة الآية المذكورة (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) عندما أفادت بأنّ أصحاب العقول حصريًّا هم الذين يَذَّكَّرون قيمة الحكمة ومصدرها الإلهيّ وما يترتّب عليها من الخير الكثير. وأما غيرهم فلا يمكنهم ذلك بعد تعطيلهم لنعمة العقل التي وهبها الله إياهم.
فأُولُو الْأَلْبَاب -في الآية الكريمة- هم الذين يتمسّكون بآليات الوصول إلى الحكمة ليكتسبوا بها الخيرَ مِن وجودهم ثم ليمتدّ منهُمُ الخيرُ إلى غيرهم.
وهنا حقيقة دقيقة.. هي أنّ العقول والألباب متفاوتةٌ بتفاوُت درجة التذكُّر عند أصحابها وقوّة مراجعتهم لمخزون القيم الفطريّة لديهم، وهذا هو السبب وراء ما يصدر عن الإنسان الحكيم أحيانًا ما لا يليق بحكمته، إنها الساعة التي يغفل عن نفسه وربّه وقيمه. لهذا كانت لكلّ إنسانٍ مساحةٌ من الخير. فمنه الكثير ومنه المتوسط ومنه القليل ومنه الأقل تبعًا لدرجة عقله ومساحة تحريره ومقدار تعبه في مجاهدة أهوائه وقدرته على ضبط النفس في مواقف الغضب.
ولعلّ هذا هو معنى التذكُّر في الآية والذي تقابله الغفلة، إذ بمقدار ما يكون الإنسان غافلًا عن الأخذ من مخزون فطرته يكون محرومًا عن الخير في مواقفه وسلوكه فيوجب وقوعه في الخطأ والزّلل.
وكذلك أيضًا بمقدار ما يكون ذاكرًا لله جلّ جلاله ولقِيَم الحقّ المودَعة في فطرته يكون موفورًا بالخير مصونًا عن الخطأ والزّلل.
من هذه المسألة الدقيقة يستلّ سؤالٌ عن الحكمة من سقوط بعض المعروفين بالحكمة في زلّات وأخطاء؟
* أوّلًا.. كيلا يحسبهم البعض معصومين، بينما المعصومون محدودٌ عددُهم وبالأسماء (صلوات الله عليهم أجمعين).
* ثانيًا.. كيلا يصنع الناس من الحكماء أصنامًا يتفانون في حبّهم على المطلق ويتحاربون لأجل الدفاع حتى عن أخطائهم.
* ثالثًا.. كيلا يجعل الناس حكماءهم سقفًا أمام أجيالهم من التقدّم في اكتساب المزيد من الحكمة واكتشاف ما لم يتوصّل إليها أولئك السابقون.
* رابعًا.. كي يختبرنا الله تعالى كيف نتصرّف مع زلّة الحكماء.. هل نغفرها حيث أمرنا النبيّ الأكرم (ص) قائلًا: "غريبتان: كلمة حِكَمٍ من سفيهٍ فاقبلوها. وكلمة سَفَهٍ من حكيمٍ فاغفروها". أم ننسى جميع ما قدّموا من خيرٍ ونغتال كرامتهم بسهام التسقيط في العلن فنصير كالجار الذي قيل عنه: "قَصَمَ ظهري جارٌ يرى حسناتي فيستُرُها ويرى سيئاتي فينشُرُها".
فكما ذكرت الآية إنّ الحكمة هي مما يؤتيه الله، ولكن بسعيٍ من الإنسان كما في الآية الأخرى. ومن هذا السّعي أن يذكر الإنسان ربّه تعالى ذكرًا كثيرًا.. بُكرةً وأصيلًا. وهذا لا ينتج إلا أن يزهد الذاكر في الدنيا، فيجاهد هواه ويترك شهواته المفرطة في الحلال، فضلًا عن الشهوات المحرَّمة.
عندما يبلغ العبد هذا المستوى سيعرف الأشياء بمواضعها فيضع كلّ شيء في محلّه بالحقيقة لا بالوهم. وهذا معنى الحكمة التي قالها الإمام الكاظم (ع) في تفسيره لقول الله -عزّ وجل-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) حيث قال: "بالفهم والعقل".
وهنا عندما نريد العمل لتحرير عقولنا يجب أن نبصر العنصرين التالييَن:
1/ (فهم الموضوع بالدقّة اللازمة).
2/ (التعقّل في التعامل مع الموضوع).
فإذا أوجدناهما في أنفسنا فقد أوجدنا الحكمة في سلوكنا وآتانا الله الخير الكثير منها وبها.
وفي ختام هذه الرسالة:
إنّ حديثنا عن الحكمة.. ليس حديث الفلاسفة عنها بالتأكيد. وإنما تحدّثنا عن الحكمة التي ورد تعريفها في هامش كتاب بحار الأنوار للعلّامة المجلسي -رحمه الله- من تعليق الشيخ النمازي الشاهرودي بأنّ:
(المراد من الحكمة التي آتاها الله تعالى أنبياءه ورسله وأولياءه لا الأباطيل التي لفّقتها الفلاسفة بأهوائهم وآرائهم ومقائسهم، فإنّ أباطيلهم التي سمّوها الحكمة لا تُثمِر الخوف من الله، بل تُثمِر الأمن من العذاب، ﻷنها تثمر التطوّر والجبر والتوحيد الأفعالي، بخلاف الحكمة الإلهية فإنها تورث الخوف، وعليها تنطبق الرواية المشهورة: "رأس الحكمة مخافة الله تعالى").
وفي السّياق نفسه قال المرجع النجفي المرعشي (رحمه الله) -كما في ج1 ص97 من كتاب إحقاق الحق-:
(ليس المراد من الحكمة في الآية الفلسفة التي هي تراث اليونانيّين، بل المراد العلم الذي به حياةُ الأرواح وشفاؤها من الأسقام، وهل هي إلا العلوم الدينيّة الإسلامية والمعتقدات الحقّة وأسرار الكون بشرط اتخاذها عن الراسخين في العلم الذين مَن تمسّك بهم فقد نجى. كيف وعلومهم مستفادة من المنابع الإلهية).
وعليه نرجو أن تخشع قلوبنا عند هذه الآية المباركة: (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ) حيث فسّر الإمام الكاظم (ع) معنى القلب فيها بالعقل. أي مَن كان له عقل يتذكّر به ذلك الحقّ المخزون في فطرته النقيّة فيستخرجه منها على سلوكه بجهاده لهواه جهادًا لا يخضع فيه لخطوط الضغط ولا لضغط الخطوط.
فهنيئًا لكلّ إنسان مَدَحَه الله على عقله المتحرّك وأثنى على لُبّه المتوقِّد.. فصار يَفهَم الأمور في حياته جيّدًا ويتعامل معها بالصّواب مُسدَّدًا.. لا هو إمّعيٌّ كالببغاء.. ولا هو فحّاشٌ ولا هتّاكٌ ولا سفيهٌ ولا شرّيرٌ ولا كذّاب ولا هو مصدرٌ للفتن ومرتعٌ للنزاعات والإفتراءات…
الرسالة (8)
لأهمّية الحكمة في الحياة قد أثنى الله عليها لرسوله وقال: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ…).
والحكمة في هذه الآية المباركة تعني الطرح المنطقي للموضوع باستخدام الأدوات العلميّة والدليل العقلي، وذلك على نحوٍ تتفاعل معه الفطرة في داخل المستمع، بحيث لا يبقى له مفرٌّ من حكمها عليه إلا هواه الذي يكشف عناده للحقّ ويجعله في مواجهة تأنيب ضميره.
إنّ هذه البصيرة القرآنيّة توجّهنا نحو تحرير عقولنا بالقدرة على إقناع الغير والاقتناع منه على محور الحقّ بلا تعصّب.
وهنا مجموعة مسائل:
- الأولى.. اعتماد الحقّ بما هو حقّ لا بما يحبّه الناس. فالناس مختلفون في ميولهم ولا يمكن ترضيتهم جميعًا. بينما الحقّ واحد. واعتماده يجلب لك رضا العقلاء (الحقيقيّين) من الناس. وفي هذا أيضًا رضا الله تعالى.
- الثانية.. أن يكون العمل بالحقّ بعد الاقتناع به جاريًا وفق أُسلوب شعبيٍّ سَلِس وتعايُشيٍّ سَمِح.
إذن ليس من حقّك أن تُكره غيرك بما توصّلتَ إليه من قناعة حتى لو كنتَ مُحقٍّا.
فهذا ربّك -جلّ جلاله- يقول لنبيّه: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).
فمن أنا ومن أنت لنكره الآخرين على ما نراه حقًّا والحقّ كلّه عند النبيّ الأكرم الذي لم يطلب منه ربّه سوى البلاغ المبين؟!
تفيدنا هذه البصيرة بأنّ الحكمة ثباتٌ في قالب المرونة.. ومرونةٌ في قالب الحرّية.. وحرّيةٌ في قالب الاحترام لخيارات الآخرين…
وتساندها النصيحة في قالب المحبّة والمجادلة في قالب الأخلاق. وهذا ما قالته بقيّةُ الآية: (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).
- الثالثة.. عندما تقرّر أن تحرّر عقلك.. تَذكَّر بأنّ العبوديّة للأفكار والثقافات والعادات شيء قبيح منك ولاسيّما عندما تتعصّب لأشخاصٍ غير معصومين عن الخطأ فتكون قد صنعتَ منهم معبودًا وأنت لا تشعر.
ليس هذا دعوةٌ لك للتمرّد بقدر ما هو تدليل على سبيل التحرّر من خلال دعوتك إلى مراجعة مسبقاتك الفكريّة وعاداتك السابقة والفعليّة عبر:
* التعلّم أوّلًا.
ففي الحديث عن الإمام علي (ع): "تَعَلَّم عِلمَ مَن يَعلَمُ، وعَلِّم عِلمَكَ مَن يَجهَلُ، فَإِذا فَعَلتَ ذلِكَ عَلَّمَكَ ما جَهِلتَ وَانتَفَعتَ بِما عَلِمتَ".
* والتواضع للحقّ ثانيًا.
فقد قال الإمام الكاظم (ع): "ﻳﺎ ﻫﺸﺎﻡ.. ﺇﻥّ ﻟﻘﻤﺎﻥ، ﻗﺎﻝ ﻻﺑﻨﻪ: ﺗﻮﺍﺿﻊ ﻟﻠﺤﻖّ ﺗﻜُﻦ ﺃﻋﻘﻞَ ﺍﻟﻨﺎﺱ".
* والانفتاح ثالثًا.
حيث قال الإمام علي (ع): "الحِكمَةُ ضالَّةُ المُؤمِنِ، فَاطلُبوها ولَو عِندَ المُشرِكِ تَكونوا أحَقَّ بِها وأهلَها".
فإذا اجتمعت لديك هذه الخطوات الثلاثة لا تقُل لنفسك كيف أغيّر طريقي، وماذا أقول لصديقي، والناس ماذا سيقولون عنّي؟؟؟!!!
بل قُل يا ربّ هذا عبدك.. أنت خالقي وأنا لك.. افعل بي ما أنت أهله، ولا تفعل بي ما أنا أهله. أللّهمّ أرِني الحقَّ حقًّا لأتّبعه، والباطل باطلًا لأجتنبه، ولا تجعله عليّ متشابهًا فأتّبِعَ هواي من دون علمٍ منك…
ولعلّ سؤالًا يجول في ذهنك.. وذلك عن السبب الحقيقي في الانحرافات والخلافات والنزاعات بين الناس؟
أقول: السبب هو صفة العناد والتكبّر والغرور والحسد. وهي صفة إبليس الذي انطلق منها في التمرّد على أمر الله تعالى وسَبَّبَ للناس كلّ الأزمات إلى يوم القيامة.
وتسألني: ما هو الحلّ؟
أقول: هل تعلم بماذا عَرَّف الإمام علي (ع) حقيقة الإسلام؟
عَرَّفه قائلًا: "لَأَنْسُبَنَّ اَلْإِسْلاَمَ نِسْبَةً لَمْ يَنْسُبْهَا أَحَدٌ قَبْلِي، اَلْإِسْلاَمُ هُوَ اَلتَّسْلِيمُ، وَ اَلتَّسْلِيمُ هُوَ اَلْيَقِينُ، وَاَلْيَقِينُ هُوَ اَلتَّصْدِيقُ، وَاَلتَّصْدِيقُ هُوَ اَلْإِقْرَارُ، وَاَلْإِقْرَارُ هُوَ اَلْأَدَاءُ، وَاَلْأَدَاءُ هُوَ اَلْعَمَلُ".
نعم.. التسليم، وهو روح التواضع، بمعنى أنّ التواضع تجسيد خارجيٌّ للتسليم إن كان بداخلك. وعلامته أن ينتهِي بك إلى العمل وإلا فليس لديك تواضعٌ للحقّ، إذ ليس هناك تسليم في قلبك من الأساس.
وعيُك بهذه المفاهيم يبني لك صرحًا من العقلانيّة التي تثبت أنك بالفعل قد مشيتَ في طريق تحرير عقلك وتغيير نفسك وفق ما قاله الإمام الكاظم (ع) في حديثه لهشام حول وصايا لقمان الحكيم: "ﻳﺎ ﺑُﻨﻲّ ﺇﻥّ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﺑﺤﺮٌ ﻋﻤﻴﻖ،ٌ ﻗﺪ ﻏَﺮِﻕَ ﻓﻴﻪ ﻋﺎﻟَﻢٌ ﻛﺜﻴﺮ، ﻓﻠﺘﻜُﻦ ﺳﻔﻴﻨﺘُﻚ ﻓﻴﻬﺎ ﺗﻘﻮﻯ ﺍﻟﻠﻪ، ﻭﺣَﺸﻮُﻫﺎ ﺍﻹﻳﻤﺎﻥ، ﻭﺷﺮﺍﻋُﻬﺎ ﺍﻟﺘﻮﻛّﻞ، ﻭﻗَﻴِّﻤُﻬﺎ ﺍﻟﻌﻘﻞ، ﻭﺩﻟﻴﻠُﻬﺎ ﺍﻟﻌﻠﻢ، ﻭﺳِﻜّﺎﻧُﻬﺎ ﺍلصّبر".
وهنا أختم لك هذه الرسالة بقصّة شابّ كان مثالًا لهذا الحديث ومصداقًا لتلك المفاهيم.. وهو ﺍﻟﺴﻴّﺪ ﺍﻟﻤﻴﺮﺩﺍﻣﺎﺩ. يُحكى أنه كان في منتصف ذات ليلةٍ باردة جالسًا في حُجرته بمدرسة دينيّة في أصفهان يقرأ ويراجع دروسه، وإذا يُطرَق باب المدرسة، ذهب وفتح الباب فتفاجأ بفتاة جميلة تستجير به ليُئويها حتى الصباح. فأجارها السيّد وآواها مضطرًّا على هذه الخلوة بالأجنبيّة، ولكنّه أجلسها في زاوية الحجرة، وحَبَسَ ذهنه بالإنهماك الشديد في قراءة كتابه، وإذا بدأ الشيطان يوﺳﻮﺱ ﺇﻟﻴﻪ، فجاهَدَ السيّد الشابّ شهوته بوضع ﺇﺻﺒﻌﻪ على حرارة الفانوس الذي بجانبه ﻟﻴﺘﺬﻛّﺮ ﻧﺎﺭ ﺍﻵﺧﺮﺓ.
وما أن جاء الصباح طلب منها أن ترحل بسرعة إلى بيتها.
خرجت الفتاة، وذكرت القصّة لأبيها وما جرى لها من حادثٍ في الطريق وجعلها وحيدة في ظلمة الليل القارص مما ألجأها الخوف إلى أقرب باب. ثم بيّنت قصّة هذا الشابّ كيف كان يحرق إصبعه. فأرسل عليه أبوها ليجزيه على نزاهته في حفظ الأمانة. فما كان جزاؤه إلا أن طلب منه أن يتزوّجها.
هكذا نقلت حكمةُ هذا السيّد الشابّ المتمثّلة في تقواه وإيمانه وتوكّله وعقله وعلمه وصبره من ذلك الفقر المُدقَع إلى قصر أمير المدينة -وهو أبو الفتاة- فصار يخدم الدّين والمجتمع من هذا الموقع الجديد.
ولذا اشتُهر السيّد محمد بلقب (ميرداماد) ويعني (صهر الأمير).
الرسالة (9)
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ)
في المجتمعات نوعان من الأفراد:
* نوعٌ عاقل، وهو الذي يمتلك صفات العقلاء المذكورة في روايات النبيّ وأهل بيته (ع).
* نوعٌ جاهل، وهو الذي ذكروا أيضًا صفاته في عكس صفات العقلاء.
فإذا كَثُر في أيِّ مجتمعٍ أيٌّ من النوعَين اصطبغ ذلك المجتمع بصبغته. ولكنّ التاريخ بشكلٍ عام شَهِدَ معشر الجهلاء أكثر، وقد أطلق عليهم بهلول -صاحب الإمام الصادق (ع)- كلمة المجانين في مجلس هارون العبّاسي لما أراد هارونُ أن يُضحِك عليه جُلساءَه من الوزراء والشخصيات الدنيويّة لديه، فسأله كم عدد المجانين في البلد يا بهلول؟
فأجابه بذكائه الخفيّ: أستطيع أن أُعِدّ لك عدد العقلاء فقط إن أردت!!
وفي بعض الروايات جُعِلَت صفة الحماقة بمثابة الجهل في مقابل العقل. حتى قال الإمام علي (ع): "عدوٌّ عاقل خيرٌ مِن صديقٍ أحمق".
زماننا يعجّ فيه الجهلاء والحمقى وكذلك الأصدقاء الأغبياء حتى ارتفعت أصواتهم الهابطة عبر تكنولوجيا الإعلام. ولتكتشفهم وتكتشف نفسك أين محلّك منهم أنظر إليهم من نافذة هذه الرواية الشريفة:
قال النبي (ص) "صفة العاقل.. أن يحلم عمَّن جَهَلَ عليه، ويتجاوز عمَّن ظَلَمَه، ويتواضع لِمَن هو دونه، ويسابق مَن فوقه في طلب البِرّ، وإذا أراد أن يتكلّم تدبّر، فإن كان خيرًا تكلّم فَغَنِمَ، وإن كان شرًّا سَكَتَ فَسَلِمَ، وإذا عرضت له فتنةً استعصم بالله وأمسَكَ يدَه ولسانَه، وإذا رأى فضيلةً انتهز بها. لا يُفارِقه الحياء، ولا يبدو منه الحرص.
فتلك عشر خصال يُعرَف بها العاقل.
وصفة الجاهل.. أن يظلم مَن خالطه، ويتعدّى على مَن هو دونه، ويتطاول على مَن هو فوقه، كلامه بغير تدبُّرٍ، إن تكلّم أَثِمَ، وإن سَكَتَ سها، وإن عرضت له فتنةٌ سارَعَ إليها فأردَته، وإن رأى فضيلةً أعرَضَ وأبطأ عنها، لا يخاف ذنوبَه القديمة، ولا يرتدع فيما بَقِيَ مِن عمره مِن الذنوب، يتوانى عن البِرّ ويبطئ عنه، غير مُكتَرِث لِما فاته مِن ذلك أو ضيّعه".
تابِع معي لتساعد نفسك في تحرير عقلك كيلا يُوظّفك الأقوياء الماليّون والمتنفِّذون السياسيّون ورجال الدين المزيّفون وأهل الهوى الإعلاميّون في مصالحهم البعيدة عن نداءات العقل وقِيَم الدّين الحنيف ولا تكون دُميةً في لعبة الشطرنج لديهم من خلف الكواليس…
لذا أقول:
إنّ الجهلاء في مستويات أربعة:
- أ- البسطاء.. وأكثرهم على نيّاتهم، وتبدأ حالات السذاجة عندهم من البَلَه وتصل إلى الغباء.
- ب- الحمقى.. ويمتازون بالجرأة والعناد.
كلاهما يمارسان جهلهما وفق المثل القائل: حشرٌ مع الناس عيد!!
- ج- بين هذا وذاك يأتي المغفَّلون وهم طيّبون في الأصل ولكنّ البيئة التي هم فيها قد رمتهم في جهلٍ جزئيٍّ أو كلّيٍّ وهم لا يشعرون.
- د- القسم الذي يقودهم، وهو خليطٌ من المثقّفين ورجال الدين والسياسيّين والتجّار والإعلاميّين يجمعهم قاسمٌ مشترك هو الغياب العملي للعقل الفطري الذي يطابق الدين الحقيقي كما شرحناه في الرسائل السابقة بالاستناد إلى الآيات والروايات.
وهؤلاء على فئتين:
* فئة لا تعلم بحالها. فهي خبيثة.
* فئة تعلم بحالها وعلى ارتباط بالاستعمار. فهي أخبث.
وهنا لا غرابة إذا صدرت أنواع الظلم والفساد والسفاهة والبهتان من بعض المثقّفين والدينيّين.. لأن العقل المُطاع والتديّن التطبيقيَّ شيءٌ والعلم والثقافة وحُلو اللّسان شيءٌ آخر…
من هنا كان الذين يديرون الخيانات السياسيّة والسّرقات الماليّة وتفسيد الأفكار ونشر المعلومات المغلوطة في كافّة المجالات إمّا خرّيجو الجامعات اللّا دينية وإمّا منحرفو الحوزات الدينيّة، وكلاهما يلتقيان معًا في مسار النفعيّة المادّية وحسابات المصالح الذاتيّة، وهذا المسار من عمق الجهل الذي يفرزه نفيُ العقل -بالمعنى القرآني والعتروي- عن الفاعليّة في الحياة.
نعم.. هناك حالة طارئة لكلّ عاقل حينما يقع فريسةً للغفلة أو السّهو نتيجة تعبٍ صحّي أو ضغطٍ نفسيٍّ أو أزمةٍ خارجة عن إرادته فيرتكب عملًا من أعمال الجاهل. إنّها من الاستثناءات التي يعرف العقلاء أنها مما لا تجوز صيدها عليه والتشهير به وحرق شخصيته بين الناس. وإنما يفعله الجهلاء بمستوياتهم الأربعة المذكورة (البسطاء، الحمقى، المغفَّلون، الخبثاء)
لهذا وردت في الإسلام توجيهات للوقاية والعلاج. ومنها ما يلي:
1/ النهي عن تتبّع العثرات.
يقول النبي (ص): "يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُخْلِصِ الإيمَانَ إِلَى قَلْبِهِ لا تَذُمُّوا الْمُسْلِمِينَ وَلا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَاتِهِمْ تَتَبَّعَ الله عَوْرَتَهُ وَمَنْ تَتَبَّعَ الله تَعَالَى عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي بَيْتِهِ".
ويقول الإمام علي (ع): "لا تَفرَحنَّ بسَقطةِ غيرِك فإنّكَ لا تدري ما يُحدِث بك الزّمان".
ويقول الإمام الباقر (ع): "إِنَّ أَقْرَبَ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ إِلَى الْكُفْرِ أَنْ يُوَاخِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ عَلَى الدِّينِ فَيُحْصِيَ عَلَيْهِ عَثَرَاتِهِ وَزَلاتِهِ لِيُعَنِّفَهُ بِهَا يَوْماً مَا".
2/ الأمر بالتغاضي والتسامح والعفو وحمل فعل المؤمن على سبعين محمل خير. فقُل لعلّه كان معذورًا، ولعلّه كان في تقيّة، ولعلّه كان ساهيًا، ولعلّه اجتهد فأخطأ، ولعلّه قال أو فعل ذلك وهو في زمنٍ كانت ظروف الوعي فيه بهذا المقاس. فهو لم يتعمّد الخطأ ولو كانت الأدلّة لديه متوفّرة لما كان يقول كذا ويفعل كذا.
بهذه الأخلاقيّة الإيجابيّة في النقد العلمي يُعالَج العاقل الحكيم موقفه من الآخرين.
جاء أحد الشيعة إلى الإمام الكاظم (ع) وقال: جُعِلتُ فداك.. الرّجلُ من إخواني يبلُغني عنه الشيءُ الّذي أكرَهُ له، فأسأله عنه فينكُر ذلك. وقد أخبَرَني عنه قومٌ ثقات.
فقال (ع): "يا محمّد.. كَذِّب سمعَك وبصرَك عن أخيك، فإن شَهِدَ عندك خمسون قسّامة، وقال لك قولًا فصَدِّقه وكذِّبهُم، ولا تُذيعَنَّ عليه شيئاً تُشينُه به، وتَهدِم به مروّتَه…".
3/ نصيحة السرّ والموعظة المباشرة.
يقول أمير المؤمنين (ع): "مَن وَعَظَ أخاه سرًّا فقد زانَه، ومَن وَعَظَه علانيةً فقد شانَه".
هذه التوجيهات وما ابتدأنا به أعلاه حول العقل والجهل إنما يريد بها أهل البيت (ع) تحرير عقولنا من أهواء التشهير والنّبش في الخلافات الماضية وعُقدة الانتقام من الغير بالسّقوط في وحل إشاعة الفاحشة بين المؤمنين التي هدّد القرآن عليها -في الآية 19 من سورة النور- بالعذاب الأليم.
نستخلص القول في الخاتمة:
بأنّ العاقل لن يتأثر بالإشاعات الواتسابيّة ولا ما يُنفَث من سمومٍ في مجالس البطّالين -وكروبات السفهاء- ولاسيّما ضدّ مراجع الدّين وكبار العلماء الذين صرفوا حياتهم لخدمة الإسلام والمسلمين، وبالأخصّ الأموات منهم إذ هم الآن عاجزون عن الدفاع عن أنفسهم. فليس من المروءة والشهامة اتهامهم بأدلّة ظنّية ومن منطلقات سياسيّة أو دوافع الثأر التاريخي والقرآن الكريم قد نهى عن ذلك قائلًا: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا).
الرسالة (10)
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ)
ما كان الإسلام ليحثّ على طلب العلم والقراءة، واحترام القلم والكتاب، وتعظيم العلماء والمعلِّمين، ونشر الوعي وتبليغ الكلمة الطيّبة، إلا ليبني الفرد والأسرة والمجتمع والأمة والدولة على أساس العقل المُتشرِّع والشرع المُتعقِّل، بحيث لو انفصلا فلا العقل ينفع لوحده ولا الشرع. وهما في الحقيقة لن ينفصلا إلا لدى مَن يجهل حقيقتهما ويتصوّرهما طرفين متنافسين!!
أيّها القارئ الكريم:
إن كنتَ تطمح في سعادتك خُذ هذه البصيرة لتحرير عقلك وتبيين شرعك وكلاهما حجّتان عليك من ربّك متعاونتان بينهما لهدايتك. خُذها فإنّها من بصائر الإسلام في أهدافه الأساسية لإنقاذ الفرد والأمّة والبشريّة من شرّ التخلّف وشرنقة الجهل وما يسبّب لهم من الشّلَل والعَطَل والخَطَل والخَلَل.
ولكي نكتسب هذه البصيرة يوجِّهنا الإمام الكاظم (ع) إلى الوعي بهذه القاعدة العلميّة، وهي قوله: "إنّ لِكُلِّ شيءٍ دليلًا".
الدليل هو ما يستلزم العلمُ به العلمَ بمدلوله -كما يُعرِّفه أهل الاختصاص-.. وحسب هذا الحديث فإنّ كلّ شيء في الوجود خاضعٌ لهذه القاعدة التي يريدنا الإمام من خلالها أن نبني أنفسنا على مبدأ الوعي بالأدلة في الأشياء، فلا نقبل شيئًا بلا دليلٍ.. إما بطريقٍ مباشر أو غير مباشر.
فالمباشر مثل الدليل على وجود الله من خلال قانون العِلّية الحقّة والدَّور الباطل: (أنّ لكلّ مصنوع صانعًا لا محالة إلا الله نفسه، وإلا لزم الدَّور، والدّور باطل عقلًا).
وغير المباشر مثل أننا بعد إيماننا بالله علميًّا يُلزِمنا هذا الإيمان القبول بما يأمر به حتى لو لم تستوعبه عقولنا. مثلًا أمرُه بالصلاة والصّوم والزكاة والحجّ وما فيها من جزئيّات حُكميّة، فهنا لا حاجة إلى معرفة السبب وراء عدد الرّكعات وعدد أشواط الطواف مثلًا ما دمنا قد آمنّا بالله عبر الدّليل المباشر وبأنه عليمٌ لا يقول لغوًا وحكيمٌ لا يفعل عبثًا.
هذه القاعدة يجب أن نتّجه بها في كلّ الأمور لنصنع من أنفسنا أفرادًا ناضجين لمجتمعٍ ناضجٍ يستجيب لنداء الحقّ ويلتزم بقيم العدل ويرفض الجهل والذلّ والهوان.
وهذا على عكس المجتمع الجاهل، إذ مهما تقرأ عليه حديث القيم لن يستجيب إلا إذا استجاب لك الموتى!!
وعلى هذه القاعدة يفرِّع الإمام (ع) هنا أربعة مبادئ علميّة لنعيش بالفعل أناسًا استدلاليّين في تعاملنا مع الأمور حولنا:
- المبدء الأول.. يقول فيه (ع):
"ودليلُ العقل التفكّر"
لابدّ من تفعيل نعمة (العقل). وتدلّ عليه حالة التفكّر في الشخص. ويعني -بالمفهوم المخالف- أنّ غياب التفكّر يدلّ على تعطيل نعمة العقل لديه.
- المبدء الثاني.. يقول فيه (ع):
"ودليلُ التفكّر الصّمت"
(التفكّر) الذي هو دليل فاعليّة العقل إنما تدلّ عليه حالة الصمت لدى الشخص.. ولكن ليس كلّ صمت، بل الصمت الملازم للتأمّلات الخلّاقة، والتي تتقدّمها إرادة البحث الممنهج وغايتها الكشف عن المزيد من الحقائق البنّاءة.
ومفهومه المخالف يكون في ثرثرة الخوض في ما لا يعنيه الشخص، فكثرة الكلام هنا تدلّ على انعدام حالة التفكّر لدى الشخص. ولذا ورد عن الإمام علي (ع) قوله: "إذا كَمُلَ العقلُ قَلَّ الكلام".
- المبدء الثالث.. يقول فيه (ع):
"ولكلّ شيءٍ مطيّة، ومطيّة العقل التواضع"
المطيّة هي ما يمتطيه الإنسان ويركب عليه لينتقل به من مكان إلى مكان (كالحصان والناقة والسيارة مثلًا). والإنسان كلما كان مركبه طوع يده كان تنقّله بحالةٍ أيسر وأفضل. تصوّر لو كانت سيارتك معطوبة.. أو ناقتك متمرّدة.. أو حصانك غير طيِّع فإنك لا تستطيع حينئذ قضاء حوائجك بيسر وسهولة. وكذلك إذا كانت زوجتك شرسة أو العكس سوف لن تنتقل حياتك من يُسرٍ إلى يُسر.. بل تخرج من عُسرٍ لتدخل في عُسرٍ آخر!!
قد شَبَّهَ الإمام الكاظم (ع) صفة التواضع بأفضل مركوب يركبه العقل لكي يقوم بأداء دوره الطبيعي في الحياة. بمعنى أنّ الإنسان إن لم يتخذ التواضع مركبًا له فسوف لن تتيسر له أهدافه وفق خريطة العقل الحقيقي. لذلك يتخبّط المتكبّر في الأزمات دائمًا مع نفسه ومع غيره.
- المبدء الرابع.. يقول فيه (ع):
"وكفى بِكَ جهلًا أن تَركَبَ ما نُهيتَ عنه"
بهذه الكلمة الأخيرة يريدك الإمام أن تكتشف نفسك عمليًّا.. فإن كنتَ بالفعل عاقلًا لم ترتكب ما نهاك الله عنه، وإن ارتكبتَه فقد عرفتَ نفسك مَن أنت وكم هي قوّة عقلك!!
بهذا المقياس العملي لا تقيس قوّة عقلك وضعفه فقط بل وتعرف موقعك من واجباتك الدينية ومستواك في الورع والتقوى وكم هي درجة إرادتك.
نعم.. وبهذا المبدء التطبيقي ستكتشف نفسك في المبادئ الثلاثة السابقة:
هل أنت قد فعّلتَ عقلك بالتفكُّر…
هل أنت تُفكِّر بالصّمت الخلّاق…
هل أنت متواضعٌ لما يرشدك إليه عقلُك…
بعد هذا البيان يؤسّس الإمام الكاظم (ع) موضع العقل من الشرع وحدود فعّاليّاته، حيث يقول لصاحبه هشام:
"يا هشام ما بَعَثَ اللهُ أنبياءَه ورُسُلَه إلى عبادِه إلا لِيَعقِلوا عن الله".
أن يعقل الإنسان عن الله دينَه وما أراده منه، هذا هو الهدف من مجيء الأنبياء والرسل، وليس ليعقل في ذات الله والغيبيّات وهو المستحيل. ذلك لأنّ المؤمن الحقيقي يعرف جيّدًا أنّ العقل مهما شعّ نوره فهو محدود بمحيطه المسموح له في شرع الله.
لذا جاء تعبير الإمام هنا دقيقًا جدًّا (ليعقلوا عن الله) وليس (في الله). لأنّ الإنسان إذا أجاز لنفسه التفكير في الله أجاز بعده التفكير لنفسه في كل حكمٍ يصدر عن الله. وهنا تبدأ معه فتنة القبول والرفض التي يتقلّب فيها المنحرفون.. كلٌّ بطريقته ومستواه ومجاله. فالفتاة ترفض الحجاب لأنها غير مقتنعة مثلًا. والشابّ يبرّر علاقاته المحرّمة لأنه لم يقتنع بالتحريم. والمثقف ينتقد الشعائر الحسينية مثلًا لأنه لا يستوعبها ذهنه الذي يسمّيه العقل. والمعمّم يتصوّر أنّ القرآن لم يتكلّم عن الخمس إلا في غنائم الحرب ويستنتج عدم تعميم وجوبه. والحاكم يبرّر ظلمه بأنه ظلّ الله في الأرض، والظلّ يجب بقاؤه بكلّ ثمن. والناس العاديّون يمارسون كلّ خطأ وخطيئة بذريعة أنّ الله غفور رجيم!!
وهكذا يُداس العقل والشرع معًا من منطلق الحرّية الفكريّة وقيمة العقل الحُرّ.
بينما العقل الحقيقي يعترف بحدوده الشرعيّة ولا يتعدّاها حينما يتمّ تفعيله في المناخ الشرعي.. (ليعقلوا عن الله) وليس (في الله).
وأخيرًا.. إذا تمّت الخطوات وفق هذه الخريطة الإسلامية في تحرير العقل سنصل بها إلى الكمال العقلي الذي تحدّث عنه الإمام (ع) بثلاث مدارج:
1/ علميًّا ومَعرَفيًّا: "فأحسَنُهُم استجابةً أحسَنُهُم معرفة".
2/ فقهيًّا وفكريًّا: "وأعلَمُهُم بأمرِ الله أحسَنُهُم عقلًا".
3/ عمليًّا وأخرويًّا: "وأكمَلُهُم عقلًا أرفَعُهُم درجةً في الدّنيا والآخرة".
بهذا البيان يفتح الإمام علينا نوافذ المعرفة الصحيحة لنُحلِّق بها في آفاق التكامل من خلال إيجادنا بداخلنا حالةً من التفاعل الإيجابي بين العقل والشرع، التي تنتج في سلوكنا حالة الاستجابة السريعة لمعرفة الحقّ والانضمام مع أهله. وإلا فالإناء المقلوب على وجهه مهما هطلت عليه الأمطار ونزل عليه الغيث لن تدخله قطرةٌ واحدة!!
كلّ ما سبق بيانه قد انطوت عليه الآية المباركة التالية لو تدبّرناها بقلبٍ جادٍّ في حُبّ التقدّم نحو كلّ جديدٍ يُحيِينا إسلاميًّا وينعشنا إنسانيًّا.. قال الله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
فما لنا أن لا نحرّر عقولنا من قيود الهوى ثم نسمو إلى كلّ القُلَل الرفيعة في الخير لتهنأ حياتنا الدنيا ونختمها بدخول الجنّة حقيقةً لا وهمًا؟!
الرسالة (11)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
لسنا في صدد التعريف الفلسفي لمعنى الحُجّة، ولا التعريف المنطقي، ولا التعريف الأصولي.. وهو كلّه بعد المرور في دهاليز تلك العلوم التي تعبّر عنها بـ(البرهان والأمارة والدليل والأصل والطريق) يرجع أصله إلى التعريف اللُّغوي الذي يقول (الحُجّة: هي ما يَحتَجّ به المولى على عبده، أو يَحتَجّ به العبدُ على مولاه، أو النظيرُ على نظيره).
نعم.. لسنا في صدد ذلك بل نريد التعريف القرآني للكلمة لاندماجه في تعريفها الرّوائي حيث نروم إليه من شرحنا لقول الإمام الكاظم (ع) لهشام:
"يا هشام.. إنّ لله على النّاس حُجّتَين، حُجّةً ظاهرة وحُجّةً باطنة.. فأمّا الظاهرة فالرّسل والأنبياء والأئمة عليهم السلام.. وأما الباطنة فالعقول".
فنلتقي هنا (قرآنيًّا) مع كلمة (الحُجّة) في تفسير هذه الآية الكريمة: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) بما قاله الإمام الصادق (ع): "إنّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة، عبدي أكنتَ عالمًا؟ فإن قال نعم، قال له: أفلا عَمَلتَ بما عَلِمتَ؟! وإن كان جاهلًا قال له: أفلا تَعلَّمتَ حتى تعمل. فيَخصِمُه بتلك الحُجّة البالغة".
وهنا نتّجه نحو تعريفها روائيًّا بالرّجوع إلى رواية الإمام الكاظم المذكورة والتي تفيد أنّ الحجّة هي ما أقامه الله على الناس في الدنيا لطاعتهم له، وما يسلبهم بها في الآخرة كلّ عذرٍ إذا ما قَصَّروا في الطاعة على ضوء تلك الحجّة.
ونستفيد من هذه الرواية الشريفة أيضًا بأنّ هاتَين الحجّتَين متفقتان في رسالتهما الإلهيّة بلا أدنى تضارُب، وإلا تساقطتا عن الحُجّية. فما يقوله الرّسول والإمام ويفعلانه ويُقرّانه بالصّمت في مقام التعبير عن الرأي يكون مطابقًا مع المرتكزات العقلية. والعكس صحيح. بمعنى أنّ هذا العقل -وليس شبيهه- يستحيل عليه أن ينكر على أقوال الرّسول والإمام وأفعالهما وتقريرهما.
بناءً عليه فإنّ العقل أفضل لاقطة مضمونة الجودة قد نَصَبَها اللهُ فينا لدعم حُجَجِه الظاهرة وللكشف عن زيف ما يُلصَق بهم عبر المتاجرين بالدّين في مختلف الأزمنة.
لأنّ هاتين الحجّتين تتبادلان الشرعية لبعضهما البعض على طريقٍ واحد هو طريق الطاعة لربٍّ واحد. فلا الحجّة الظاهرة لوحدها تستطيع هداية الناس إن لم يُنشِّطوا عقولهم جيّدًا، ولا الحجّة الباطنة لوحدها تستطيع هدايتهم إن لم يستمعوا للرسول والإمام. فالذي يترك إحداهما رغبةً في الثانية كمَن يركب طائرةً قد عَطَبَ أحدُ جناحَيها أو كمن يستخدم أدويةً من دون إشراف الطبيب الحاذق!!
من هنا لن يكتشف الحقيقةَ الكاملة مَن يعتمد عقله فقط.. وكذلك لن يكتشفها مَن يلغي عقله بذريعة التمسّك بالنصوص الشرعية فقط.
لذا تبقى الحاجةُ إلى العقل قائمةً لتفسير الشرع به تفسيرًا صحيحًا، مثل الحاجة إلى الشرع كي نطبّقه في صورةٍ ناصعةٍ من جاذبيّة الحكمة والعقلانيّة. وبهذَين الجناحَين نطير في آفاق المعرفة الواجبة في ممارسة التكليف الشرعي.
من هذا المنطلق فقد اهتمّ الوحيُ القرآني والرّسول الأعظم وأئمة أهل البيت
بتعريف العقل وحدود أدائه المشروع، ذلك لكي لا يأتي أناسٌ وبدعوى العقلانيّة يعبثون في ثوابت الشرع وأحكام الدّين. وكذلك لا يأتي أناسٌ يدوسون العقل ويفسّرون الدّين بحماقاتهم. ففي كلتا الحالتين إما تبتلي الأمّة بالعلمانيّة المغلّفة بالدّين فتشتغل في الحفر تحت قواعده حتى تهدمه، أو تبتلي بالقشريّة والتحجُّر والتعصُّب المؤدِّية إلى مسلك التكفيريين والخوارج والمتطرّفين.
نستطيع وعي هذا التعاضد بين الحجّتَين بأن نحدِّد لعقولنا وهي الحجّة الباطنة مهمّة الإقرار بالكلّيات ولا شأن لها بالجزئيات.. فمثلًا العقل يؤيّد العفاف والهدف هو صَون شرف المرأة وسلامة الأسرة وتنزيه المجتمع من المفاسد الجنسيّة. ولكنّ الدّين يحدّد الطريق إليه.. فيقول: إنما يتحقّق ذلك بالحجاب ويعيّن حدوده على الجسم، وبعدم الإختلاط، وعدم الضحك مع الأجنبي، وترك التعطّر عنده، ونبذ الزينة المغرية له، وعدم لبس الضيِّق، وعدم الخلوة معه وتليين الصوت وترقيقه بالتمايُع.
هذه الجزئيات هي من أحكام الدّين وقد لا يدركه العقل بدون الاستماع للنبي والإمام ومَن ينطق عنهما في عصرنا كالفقهاء والعلماء.
وبعبارة أخرى.. هناك مرتكزات عقلية تُلقي موافقاتها الكلّية على ما تصدر عن الحجّة الظاهرة من جزئيّات في الأحكام وتفاصيل في الفقه العملي.
وبهذا نعالج الإجابة على أسئلة الذين يطلبون فلسفة الأحكام الشرعية كشرط لقبولها والاستجابة لها.
ولمزيد من تبيين هذه المسألة الهامّة في ركن الوعي الثقافي الأصيل نقول:
لعل الآية التالية تؤيّد ما ذكرناه: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ).
فاليقين الباطني (وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ) هو يقين العقل الحجّة.. ولكن التمرّد الظاهري (وَجَحَدُوا بِهَا) إنما هو الظلم على النفس والعدوان على الغير.
كما ولا نستبعد -والله العالم- أن يكون هذا العقل الحجّة هو نفسها الفطرة التي قالت عنها الآية: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
وذلك بدليل الأمر بالدّين الحنيف وهو الحجّة الظاهرة، إذ تنصّ الآية على كونه مدعومًا بالفطرة، وهي الحجّة الباطنة التي خَلَقَ الله جميع الناس على مبادئها الثابتة بالعقل التلقائي.. ثم تؤكّد الآية على أنّ هذه الفطرة هي الدّين القيِّم حيث يجهله أكثر الناس كما نرى ذلك على أرض الواقع.
أيّها القارئ العزيز:
عندما تستوعب جيّدًا هذه المفاهيم لا تتساهل في اتخاذ قرارك لنسف أيّة شبهةٍ أو عقيدةٍ باطلة ابتليتَ بها في حين غفلة -والعياذ بالله-.
قرّر كيلا تنحرف بك أهواؤك فتنكبّ عن الطريق إلى الله تعالى وتخسر فرصتك الوحيدة في الدنيا بخسارتك لحسن العاقبة.
إنّ هذه النصيحة والتي تحملها إليك سلسلة مقالاتنا في تحرير العقل إنما من أجل إنقاذك أوّلًا ولمشروع خلق شبابٍ يعيشون التوازن الديني والعقلاني، وهم أمل مجتمعاتنا لصناعة غدٍ خالٍ عن الصراعات التافهة والسلوكيات الذيليّة وما يُسخِط الله ويُخسِرنا الجنة.
دُمتَ واعيًا للقصد.. والله هو المستعان.
الرسالة (12)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
متى ينحرف عالمُ الدين باتجاه التحجُّر الفكري أو الانقلاب الحِداثويّ؟
ومتى ينحرف المثقف المسلم باتجاه التفسير الأهوائي للنصوص الدينية فيتجرّأ على الثوابت الشرعية وأخلاقيات الكلمة؟
حالتان مَرَضِيّتان نحاول هنا إلقاء الضوء عليهما ببعض الإشارات:
* الإشارة الأولى
يبدأ كلّ انحرافٍ فكريّ وعَقَدِيّ عند العلماء وعند المثقفين إذا تَصَوَّر أحدهم بأنّ الدّين شيءٌ والعقل شيءٌ وأنهما مملكتان مستقلّتان. وهو تصوُّرٌ يذكّرنا بركام الحرب بين الكنيسة وبين فلاسفة الغرب العلمانيّين!!
تلك الحرب التي لا تعنينا في الإسلام أبدًا، ﻷن الإسلام لا مشكلة لديه مع العقل والعلم والتطور الصناعي.. بل هو الداعي إليه بشدّة حتى قال القرآن الكريم: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ).. نعم فقط أولو الألباب وذوو العقول وحدهم هم الذين يتذكّرون ما لأصحاب العلم من منزلة لا يساويهم فيها غيرُهم.
ولكن من أين نشأ ذلك التصوّر لدى بعض المسلمين بأنّ العقل والدّين يحقّ لهما التراشق.. وأنه ليس هناك حدود مقدّسة ولا مناطق محرَّمة على النقد والحذف؟
نرى ثلاثة أمور قد تعاونت بينها لإنتاج هذا التصوُّر الهدّام:
- الأمر الأول.. ظهور الحركة الماركسيّة في القرن التاسع عشر الميلادي بشعارها المعروف (الدين أفيون الشعوب)!
فولدت منها في أربعينيات القرن العشرين حركات شيوعية في بلاد المسلمين وما تبعها من التشكيك في الإسلام باعتباره أحد الأديان التي كما فسّرها كارل ماركس أنها كالأفيون تخدِّر الشعوب وتجعلها مستسلمة لاستغلال الرأسماليين.
فقد استطاع الشيوعيّون قرابة قرنٍ واحد أن يكسبوا بعض شباب المسلمين ويمدّوا عبرهم الجسور إلى بلداننا وفق خريطة الصراع بين (السوفييت، والصين) وبين (أمريكا) رأس النظام الإمبريالي، وهو صراع التنافس لبسط النفوذ السياسي والاقتصادي على بلدان العالم الثالث كما عبّروا عنه في قاموسهم الاستعماري.
هؤلاء الشباب بدأوا دعواتهم في الأربعينيات إلى تحرير العقل من الدّين ونقد المظاهر الدينية إذ لم يعرفوا العقل ولم يعرفوا الدّين معًا. وساهم في ذلك انفجار الشهوات عبر إلغاء الحواجز بين الفتيان والفتيات في الجامعات -إلا البعض-.. فكانت الحرّية الجنسية لأوّل مرّة في وسطهم أمضى سلاح بيد الشيوعيين لجرّهم إلى فكرهم الإلحادي وتأسيس التنظيمات اليساريّة والجرأة في نقد الموروث الديني…
- الأمر الثاني.. بروز العولمة الغربيّة بمساوئها التي تريدها الرأسمالية لشعوب العالم في بثّ الفوضى الخلّاقة بينها من أجل الربح التجاري الأكبر.
وهذا النوع الباطل من تحرير العقل يركّز على الانحلال الجنسي والذوبان في النفع المالي، وذلك بتثقيف المجتمع على ثقافة اللذّة وأصالة المال، ولا تمتلك الرأسمالية (الإمبريالية) فلسفةً علميّةً لمشروعها كما تمتلكها الشيوعيّة إلا ما ذهبت إليه الفلسفة الواقعية (رئاليسم).
- الأمر الثالث.. تخلُّف الفكر الديني وانتشار الجهل بحقيقة الإسلام. وهو ما أنتجه الواقع التاريخي للمسلمين تحت وطأة الحكّام الفاسدين منذ الأمويّين ثم العبّاسيّين ثم العثمانيّين ثم مَن ورثوا ذلك الإسلام المزيَّف، فإنّهم تركوا عن دين الإسلام صورة التخلّف ولم ينتجوا سوى تبعاته.
* الإشارة الثانية
لقد نهض علماء مذهب أهل البيت منذ بدء حركة الميرزا الشيرازي الكبير سنة 1891م والذي لُقِّب بالمجدِّد، ثم تلتها حركات تحرّرية أخرى أثمرت بداية الصحوة الإسلامية في الخمسينيات والستينيات ثم السبعينيات إلى أن انتصرت الثورة في إيران سنة 1979م ودخلت الشعوب مرحلة الزلزال في كلّ شيء.
اتسمت تلك النهضة قبل الثورة بالردّ العلمي على الفكر الشيوعي وبموقف الرّفض لسياسات الرأسمالية. فكتبوا في المطارحات الفكرية بحوثًا فنّدت دعوات تحرير العقل بالطريقة الماركسية بشِقّيها اللينينيّة (في السوفييت) والمائوئيّة (في الصين)، كما وقفوا بوجه التحرّر من النوع الغربي مقدار الوُسع.
منذ كان عمري 16 سنة (1976) بدأتُ أقرء للفقيه الموسوعي السيد محمد الشيرازي، وقد صدرت له عدّة كتب في تفنيد الفكر الشيوعي، وقام بإعداد طلّاب لمواجهة الشيوعية في العراق. أبرزهم شقيقه الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي وابن شقيقته سماحة السيد هادي المدرسي مؤلّف كتاب (لا للماركسية، لا للرأسمالية، نعم للإسلام). وقرأتُ كذلك لآية الله الشهيد السيد محمد باقر الصدر كتبه الثلاثة (فلسفتنا) و(اقتصادنا) و(الأسس المنطقية للاستقراء). وقرأت في تلك الفترة للشهيد المطهّري وللشيخ ناصر مكارم الشيرازي وللسيد عبد الكريم هاشمي نزاد وللشيخ السُّبحاني وغيرهم. مضافًا لكتّاب من غير الشيعة الذين بذلوا مجهودًا فكريًّا جيًّدا في الردّ على الشيوعية. مثل عباس محمود العقاد في كتابه (الشيوعية والإنسانية وفي شريعة الإسلام).
* الإشارة الثالثة
لقد انتهت الشيوعيّة رسميًّا على يد (غورباتشوف) آخر رؤساء الجمهورية في الاتحاد السوفييتي الذي تفكّك بعده مباشرةً، وقد كتب في نقد نظريّاتها كتابه (البيروسترويكا) ثم أعلن بمواقفه العملية موت هذا الفكر الذي ساد بعض المجتمعات قرابة قرنٍ واحد وجرّعتها تجاربها الفاشلة.
ولكن بقيت لهذه المدرسة وتلك المدرسة تموّجاتهما الثقافية لدى بعض الشباب المنفتح بلا خلفيّات من وعي الدّين الصحيح. فصاروا يعيشون التبعيّة والتعصّب باسم التعقّل والتحرّر حتى تحوّلت إلى طابع لأكثر الجماعات الإسلامية على مدى العقود الأربعة الماضية.
نعتقد أنّ هذا التحدّي الجديد لمسيرة الصحوة الإسلامية -من بعد الألفَين- هو الأخطر من خطر الشيوعية وإفرازاتها، ومن خطر الإمبريالية وإسقاطاتها.
فعلى الإسلاميين -الشيعة والسنّة-.. سواءً منهم السياسيّين وغيرهم أن يراجعوا أنفسهم قبل أن يقضي تحجُّرهم الفكري وتطرّفهم السياسي على جهود المفكّرين المعتدلين السابقين ومَن بنوا صرح هذه الصحوة على قواعد العقل الدّيني والدّين العقلاني.
ولعل من ضرورات هذه المراجعة هو الخروج من ثقافة الانبهار المفرط بالرموز العلمائيّة وغير العلمائية حيث تقابلها حالة الانغلاق عن الغير وعدم محاولة فهمه ثم بناء جدار من الكراهية والعناد والضدّية، وهو ما جَلَبَ لهم واقع المنازعة من أجل المنازعة فأصبح الأغلب يعيش هوس البُغض في الآخر وهو لا يعلم عنه إلا من مصادر كيديّة لا ترقى مقام البيّنة الشرعية.
فما تمرّ به مجاميعُ الإسلاميين اليوم ليست حالة صحّية، بل هي انتكاسة كارثيّة للمكتسبات بعد أن اجتازت مراحل جيّدة في الأخلاق والآداب وتقوى القلوب.
على مَن تقع مسؤولية الإنقاذ؟
الجواب: إنّها تقع على كلّ مَن يساهم ومِن الآن في تحرير عقله.
الرسالة (13)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
إن كنتَ جادًّا في العمل على تحرير عقلك من الجهل والتصرّفات غير اللائقة بك كإنسانٍ له احترامه وكرامته وكإنسانٍ يطمح للسعادة فإنّ الواجب يفرض عليك أن تفتح قلبك لنور العلم النافع، وهو ما يقذفه الله في قلب من يريد إذا وجده قابلًا لهذه الإرادة الإلهيّة وذلك متى ما رآى استشعارك له عزّ وجل بالعبودية وأنّه يراك وإن كنتَ لا تراه وبالتالي أن تعيش الخشية الدائمة منه وصولًا إلى مستوى هذه الآية المباركة: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ).
فإن لم يبلغ بك علمُك هذا المستوى فإن العلم الذي تحمله لا يتجاوز كونه معلومات فقط وأنت في هذه الحالة وجهاز الحاسوب (كمبيوتر) أو (فلاش ميموري) متساويان مع احترامي لك ولأمثالك من العلماء والمثقفين الذين ينطبق عليهم القسم الثاني من قول النبيّ الأكرم (ص): "العِلمُ عِلمانِ: عِلمٌ فِي القَلبِ فَذاكَ العِلمُ النّافِعُ، وعِلمٌ عَلَى اللِّسانِ فَتِلكَ حُجَّةُ اللهِ عَلى عِبادِهِ".
فالعلم الذي يحرّر عقلك إذن هو ما ينير قلبك وهو القسم الأوّل الذي يصعد بك نحو درجة الخاشعين والمتقين الذين تأسّوا بإمامهم أبي الأحرار الحسين (ع) في دعائه يوم عرفة:
"اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي أَخْشَاكَ كَأَنِّي أَرَاكَ، وَأَسْعِدْنِي بِتَقْوَاكَ، وَلا تُشْقِنِي بِمَعْصِيَتِكَ، وَخِرْ لِي فِي قَضَائِكَ، وَبَارِكْ لِي فِي قَدَرِكَ، حَتَّى لا أُحِبُّ تَعْجِيلَ مَا أَخَّرْتَ، وَلا تَأْخِيرَ مَا عَجَّلْتَ…".
وللعلم الذي هو نور -وليس معلومات- آثار تدلّ عليه، منها ما ورد في دعاء الإمام الحسين، ومنها ما ورد في الحديث النّبوي الشريف.. وهي ثلاثة:
* التّجافي عن دار الغرور (الزّهد في الدنيا).
* الرغبة في دار الخلود (النظرة إلى الآخرة).
* الاستعداد للموت قبل نزوله (مراقبة النّفس ومحاسبتها).
فالذي يكون كذلك سوف لن يتأثّر بالعلوم الباطلة والأفكار الضالّة لو قرأتها.. تمامًا كصاحب البُنية الصحّية الذي لو دخل بكمّامات مُعقَّمة في مكان مُلوَّث سوف لن يتأثر جسمه بالأمراض. وكالأب والأم إذا اهتمّا بإطعام أولادهما الغذاء الصحّي وبتنظيم أوقات نومهم قويت مناعة أبدانهم في مواجهة الأمراض، وكذلك لو زرعا فيهم -أو الإنسان زرع في نفسه- الفكر الصحيح والدّين السليم فإنّ الله سيقذف في قلوبهم نور العلم، وهنالك سوف لن يتأثروا بأيٍّ من سموم الفكر السقيم والدّين المزيّف.
قيادة هذه العمليّة -أعني أخذ العلم من منابعه المعرفيّة الصافية إلى أن يقذف الله النور في قلب صاحبه- إنّما تكون من إختصاص العقل السليم والعلم النافع.
نستدلّ على ذلك بثلاث آيات:
1/ قال تعالى: (شَهِدَ اللهُ أنَّهُ لا إلهَ إلّا هُوَ والمَلائِكَةُ واُولُوا العِلمِ قائِمًا بِالقِسطِ لا إلهَ إلّا هُوَ العَزيزُ الحَكيمُ).
توحيد الله (لا إلهَ إلّا هُوَ) هو الأساس المعرفيّ الأوّل. وذلك بشهادةٍ ثلاثيّة المصادر.. اللهُ نفسُه، وملائكتُه، وأولوا العلم. وتُكرِّر الآية (لا إلهَ إلّا هُوَ العَزيزُ الحَكيمُ) تأكيدًا على محوريّة العقيدة التوحيديّة لكلّ منطلقات الإنسان الفكريّة والسلوكيّة، بحيث لو خَلِيَ عنها لَضاع في فكره وتاه في سلوكه.
2/ قال تعالى: (ويَرَى الَّذينَ اُوتُوا العِلمَ الَّذي اُنزِلَ إلَيكَ مِن رَبِّكَ هُوَ الحَقَّ ويَهدي إلى صِراطِ العَزيزِ الحَميدِ).
وهذا هو حصيلة العلم النافع.. فصاحبه يفقه ما جاء به النبيّ الأكرم من قرآنٍ وبيانٍ وهُدى. وهو الرؤية التي يرى من خلالها (الَّذينَ اُوتُوا العِلمَ) صراط (العَزيزِ الحَميدِ) فيهتدون إليه.
3/ قال تعالى: (ولِيَعلَمَ الَّذينَ اُوتُوا العِلمَ أنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّكَ فَيُؤمِنوا بِهِ فَتُخبِتَ لَهُ قُلوبُهُم وإنَّ اللهَ لَهادِ الَّذينَ آمَنوا إلى صِراطٍ مُستَقيمٍ).
وجود ذلك العلم والعقيدة في الإنسان يثمر له الإخبات القلبي والتوازن النفسي والتواضع المتسامي، وهذا ما يفتح عليه باب الهداية على مستوى الالتزام والتطبيق (إلى صِراطٍ مُستَقيمٍ).
فهذه المراحل الأساسية الثلاثة يقودها العقل كلّما فسح له صاحبه الطريق أمام دوره. وهو ما نعني به من تحرير العقل مما يؤدّي إلى توجيه نشاطه نحو الصّواب الديني والإبداع الشرعي والتطوير الملتزم بالأصل.
وفي المقام أيضًا ثلّة من الروايات الشريفة الداعمة لهذه المفاهيم، نختار منها ثلاثًا:
1 ـ يقول النبي الأكرم (ص): "قُسِّمَ العقلُ على ثلاثةِ أجزاء، فمَن كانت فيه كَمُلَ عقلُه، ومَن لم تكُن فيه فلا عَقلَ له: حُسن المعرفةِ بالله، وحُسن الطاعةِ له، وحُسن الصّبرِ على أمرِه".
2 – يقول الإمام علي (ع) في صفة مَن يَحفظ الله بهم حُجَجَه وبَيِّناته: "هَجَمَ بِهِمُ العِلمُ عَلى حَقيقَةِ البَصيرَةِ، وباشَروا روحَ اليَقينِ، واستَلانوا مَا استَعوَرَهُ المُترَفونَ، وأنِسوا بِمَا استَوحَشَ مِنهُ الجاهِلونَ، وصَحِبُوا الدُّنيا بِأَبدانٍ أرواحُها مُعَلَّقَةٌ بِالمَحَلِّ الأَعلى. اُولئِكَ خُلَفاءُ اللهِ في أرضِهِ، والدُّعاةُ إلى دينِهِ. آهٍ آهِ شَوقًا إلى رُؤيَتِهِم".
3 – يقول الإمام الصادق (ع): "لَيسَ العِلمُ بِكَثرَةِ التَّعَلُّمِ، إنَّما هُوَ نورٌ يَقَعُ في قَلبِ مَن يُريدُ اللهُ أن يَهدِيَهُ، فَإِذا أرَدتَ العِلمَ فَاطلُب أوَّلًا في نَفسِكَ حَقيقَةَ العُبودِيَّةِ، واطلُبِ العِلمَ بِاستِعمالِهِ واستَفهِمِ اللهَ يُفهِمكَ".
لا شك أنّ في غياب هذه المفاهيم التأصيليّة لا محالة أن يتأثّر الإنسان بالسّموم التي تبثّه وسائل الإعلام وتنتشر في مواقع التواصل الاجتماعي على نحوٍ مُخطَّط يستهدف عقول الناس والمسلمين خاصّة وبالأخصّ الشباب.. لذا عند تحليل شخصية المتوتّرين والمأزومين والمتصارعين والمتشاكسين تجدون الإشكاليّة الأولى فيهم ترتبط بضعف العقل لديهم وسطحيّة العلم وهشاشة الفكر وخللٍ في النفس…
وهذا كلّه يكفي دليلًا على ضرورة التفكير في الحلّ وفق المذكور من المفاهيم الإسلاميّة.. والتي خلاصتها:
<ألف> اكتساب نور العلم بالتعبُّد وليس اختزان معلومات.
<باء> فسح الطريق أمام دور العقل السليم، وهو ما يكون خاشعًا لله تعالى.
<جيم> الزّهد في الدنيا بمعنى الارتقاء في الطموح المعنوي البالغ حدّ الرغبة الشديدة لبلوغ نعيم الجنة في الآخرة.
<دال> المواظبة في حفظ التوازن النفسي بالتركيز على الغايات الطيّبة في الحياة واستذكارها في طول المسيرة.