الكتب الأربعة وتنويع الأحاديث
سماحة الشيخ أحمد القيدوم الماحوزي (دام جهده العلمي)[1]
ذكر بعض الاعلام المعاصرين - أدام الله بقاؤه - أنه لا دليل على اعتبار روايات الكافي الشريف بصورة عامة، بل الدليل على عدمه، فكون الرواية موجودة في الكافي الشريف لا يكفي في اعتبارها من دون ملاحظة سندها، والتحقق من توفر شروط الاعتبار فيها من كل الجوانب.
قال: "وقد لوحظ اصرار البعض على أن كل ما ورد في الكافي الشريف معتبر لمجرد وروده فيه، ولو كان من روايات أشخاص قد نُصّ في كتب الرجال على الطعن فيهم وتضعيفهم بأشد العبارات، وهذا بداية لمسار فكري غير ناضج في التعامل مع تراثنا الروائي، إذ يصل نهايته إلى القول باعتبار كل ما ورد منسوباً إليهم عليهم السلام؛ حتى ما اشتمل عليه تفسير الإمام العسكري عليه السلام، وتفسير فرات، وكتاب الاستغاثة، وكتاب التنزيل والتحريف، وكتاب الهداية الكبرى، وأضرابها من الكتب غير المعتبرة ...).
فهل يكفي في اعتبار الرواية عندكم ورودها في الكافي الشريف وإن كان في سندها ممن نص علماء الرجال على ضعفه، بحيث يلزم من ذلك صحة كل ما نسب إلى أهل البيت عليهم السلام، أو أن الأمر كما قاله المعاصر -أدام الله أيامه- من ضرورة أن تكون الرواية الموجودة في الكافي الشريف صحيحة السند أيضا؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
أولاً: من الواضح جداً أن دعوى حجية وصحة روايات الكتب الأربعة لا يلازم - بداهةً - الحكم باعتبار روايات الكتب غير المعتبرة، ولا يكون نهاية وعاقبة هذه الدعوة اعتبار كل ما ورد منسوباً إليهم عليهم السلام، إذ الكلام في روايات الكتب المعتبرة، أما غيرها كالتي ذُكرت فأجنبي عن الموضوع، وهذا أمر في غاية الجلاء.
وثانياً: دعوى أن كل ما في الكتب الأربعة معتبر ليس بالضرورة الحكم بوجوب العمل بكل حديث ورد فيها، إذ أن فيها أحاديث وروايات متعارضة، وعامة وخاصة، ومطلقة ومقيدة، وحاكمة ومحكومة، ومجملة ومبينة، ومحكمة ومتشابه، فغاية هذا القول أن الأصل الأولي هو الاعتبار والحجيّة، وخروج بعضها عن الاعتبار من حيث الصدور أو جهته يحتاج إلى دليل، على غرار-من باب المثال- أن الأصل في دلالة الألفاظ على المعاني هو الحمل على الحقيقة، والحمل على المجاز يحتاج إلى قرينة.
فالاعتبار في هذه الكتب الشريفة أي بلحاظ الصدور، أما سائر الجهات - كجهة الصدور وكونه تقية أو غير ذلك - فثمة عدة قواعد مطبقة للوصول للأحكام الشرعية الفعلية المنجزة.
وثالثاً: دعوى اعتبار الكتب الأربعة - بالمعنى المتقدم - هو المشهور بين الطائفة قديماً وحديثاً، على ما سيأتي بيانه في الأمر اللّاحق، لا أنه بداية لمسار غير صحيح أو غير ناضج - بحسب التعبير المتقدم -.
رابعاً: قَسَّمَ الشيخ الطوسي رحمه الله في مقدمة الاستبصار الأخبار إلى:
1/ خبر متواتر، وهو ما أوجب العلم فيجب العلم به.
2/ خبر آحاد قامت القرائن على صحته، فهو كالعلم يجب العمل به.
3/ خبر آحاد خلى من القرائن وليس له معارض، فيجب العمل به.
4/ خبر آحاد وثمة معارض له، فيعمل على أعدل الرواة في الطريقين.
ثم قال: والأخبار كلها لا تخلوا من قسم من هذه الأقسام، ووجدتَ أيضاً ما عملنا عليه في هذا الكتاب وفي غيره من كتبنا في الفتاوى في الحلال والحرام لا يخلو من واحد من هذه الأقسام.
إذا عرفت ذلك فنقول:
المشهور - الذي كاد أن يكون اجماعاً - لدى الأصحاب وفقهاء الطائفة العمل والافتاء بالكتب الأربعة بلا لحاظ السند، وإنما يلاحظون السند في ظرف التعارض، فيقدمون حديثاً على حديث آخر بإعمال نتاجات علم الرجال التقليدي.
ومنه نعرف أن ما قام به السيد أحمد بن طاووس والعلامة الحلي قدس سرهما من تَنْوِيع أسانيد الروايات إلى أربعة: (صحيح وحسن وموثق وضعيف)، إنما هو ناجع ومفيد في خصوص الروايات المتعارضة في الكتب الأربعة، وهي القسم الرابع المتقدم، أما الأقسام الثلاثة الأول فلا يشملها هذا التنويع لدى مشهور الطائفة، هذا هو العمل في الكتب الاربعة أما غيرها من الكتب المعتبرة فلربما هذا التنويع نافع في الجملة.
نعم: ذهب جماعة قليلة من الأعاظم من متأخري الأعصار؛ كسيد الفقهاء الخوئي قدس سره وعدة من تلامذته، إلى خضوع كل التراث الروائي الموجود في الكتب المعتبرة للتنويع الذي أحدثه ابن طاووس وأكد عليه العلامة الحلي قدس سرهما، وأنه لا فرق في هذا المضمار بين الكتب الأربعة وسائر الكتب المعتبرة.
وكلامنا ليس في ما هو المنشأ والدليل على ذهاب المشهور لهذا النمط، وإنما إقامة الشواهد على أن طريقتهم ما ذكرنا، وأن القول باعتبار روايات الكتب الأربعة في الجملة ليس بمسار جديد، بل العكس هو الصحيح، فنذكر عدة من الأمثلة الدالة على ذلك.
المثال الأوَّل: نبدأ بشيخ الطائفة الطوسي رحمه الله، وقد تقدم كلامه الناص على ذلك بوضوح: من العمل بأخبار الآحاد الموجودة في الكتب المعتبرة إن لم يكن لها معارض، وإن كان لها معارض فيستعان بعلم الرجال لمعرفة ما يجب العمل به، وما يجب ترك العمل به.
كما أنه في كتابيه الشريفين (تهذيب الأحكام والاستبصار) عمل بالروايات التي ذكرها بلا أن يلاحظ أسانيدها، مع أن كثير منها لو عرضت على علم الرجال التقليدي لكانت ضعيفة سنداً، نعم في ظرف التعارض يقدم - من حيث العمل والإفتاء - ما كان رواته ثقات أو لم يُقدح فيهم على من قُدح فيه، فتفعيل علم الرجال بالنسبة للكتب المعتبرة كان في ظرف التعارض فحسب.
فقد نقل روايات كثيرة عن السكوني ووهب بن وهب البختري وعلي بن حديد وسهل بن زياد ومحمد سنان ومحمد بن عيسى اليقطيني، واعتمد وأفتى بمضمون روايات هؤلاء التي لا معارض لها وعمل بها ولم يشر إلى ضعفهم والقدح فيهم، بينما أشار إلى ضعفهم في بعض الموارد التي فيها روايات متعارضة.
فهو يعمل - بوضوح - ويفتي بروايات من تقدم ذكرهم، إلا ما كان له معارض، أو بتعبيره: ما انفردوا بروايته، فتضعيفه لهؤلاء إنما هو في ظرف التعارض مع روايات أصح وأقوى في نظره، وأما إذا لم يكن ثمة معارض لرواية هؤلاء فإنه يعمل برواياتهم ويفتي بها، وهذا أمر واضح وجلي للغاية، فلا نجد في كتبه الفقهية أنه ضعف حديثاً ابتداءً، بل في ظرف التعارض.
ومثال آخر: نجد أن العلامة الحلي قدس سره يفتي ويعمل بما هو مودع في الكتب الأربعة بلا لحاظ السند وأقسامه، مع أنه هو الذي أقرّ بتنويع الأحاديث إلى أربعة أقسام: الصحيح والحسن والموثق والضعيف، فسيره وطريقته في كتبه الفقهية كسير شيخ الطائفة رحمهما الله، من العمل والافتاء بالروايات الموجودة في الكتب المعتبرة وعدم النظر إلى أسانيدها إلا في ظرف التعارض.
ففي كتابه (مختلف الشيعة ومنتهى المطلب وغيرهما) قد عمل برواية سماعة وعلي بن أسباط وعمار الساباطي وعثمان بن عيسى وابن بكير وزرعة والحسن بن محمد بن سماعة والمفضل بن عمر وسهل بن زياد وعلي بن حديد والسكوني ووهب بن وهب وغياث بن إبراهيم ويزيد بن خليفة ومصادف والمعلى بن خنيس ومحمد بن الفضيل والبطائني ومحمد بن سنان والديلمي، ولم يضعف هؤلاء إلا في ظرف التعارض.
ومن يلاحظ كتب العلامة قدس سره الفقهية يرى أنه لا أثر لعلم الرجال التقليدي فيها، ولا لتنويع الأسانيد إلى أربعة أقسام، إلا في ظرف التعارض، وفي بعض الموارد لا كلها، إذ في ظرف التعارض يقدم أولاً ما كان موافقاً للقرآن، ثم ما كان مخالفاً للعامة، ثم ما كان رواته أوثق من الحديث الآخر، وهذا تطبيق لما قاله شيخ الطائفة في كلامه المتقدم، كما أن تقديمه حديثاً على آخر لا ربط له بصدورهما معاً، وإنما هو العمل والافتاء بأحدهما دون الآخر.
ومثال ثالث: أن المحقق الحلي قدس سره يعمل بروايات الكتب المعتبرة بلا أن يلاحظ ويقيّم سندها، وإنما يلاحظ السند في ظرف التعارض، فَيُعْمِل قوانين التعارض.
فمثلا نجده يقول في مكان: (السكوني عامي ثقة ولا معارض لروايته)، وفي مكان آخر من نفس الكتاب - كتاب المعتبر في شرح المختصر -: السكوني ضعيف، وحينما نلاحظ نجد بأنه قال ثقة في مورد لا تعارض فيما رواه السكوني، وقال ضعيف في موارد التعارض، والمنشأ في ذلك ما سطره شيخ الطائفة في كلامه المتقدم.
والأمر نفسه في غياث بن إبراهيم فإنه ضعفه في ظرف التعارض، وقال: (غياث بتري ضعيف السند)، ووثقه في مكان آخر فقال: (غياث بتري لكنه ثقة)، وفي مورد ثالث اعتمد على رواياته الموجودة في الكتب المعتبرة التي لا معارض لها.
هذا وقد ذكر كلام الشيخ الطوسي المتقدم واختاره وأقره في كتابه المعروف معارج الأصول: 147، ونقل عن الشيخ إجماع الأصحاب على العمل بهذه الأخبار حتى وإن رواها غير الإمامي وكان الخبر سليماً عن المعارض واشتهر نقله في هذه الكتب الدائرة بين الأصحاب، ثم نقل وجه ذلك.
ومثال رابع: إن ابن إدريس الحلي وهو من كبار الفقهاء لا يرى العمل بأخبار الآحاد، ومع ذلك فإنه افتى وعمل في كتابه الشريف (السرائر) بروايات الكتب الأربعة لأنها في نظره ليست أخبار آحاد فحسب، بل هي أخبار آحاد قامت القرائن على صحتها واعتبارها، وضرورة العمل بها.
وربما يختلف مع شيخ الطائفة أنه يرى أن ما في الكتب المعتبرة ليست بأخبار آحاد، بل هي آحاد قامت القرائن على صحتها، فالنتيجة أنه يعمل بما هو مودع في الكتب الأربعة، ويزعم – كما هو الحق - بأنها محفوفة بالقرائن، إلا ما كان في ظرف التعارض فَيُعْمل نتائج علم الرجال.
ومثال خامس: إن الرسائل العملية للفقهاء - كالمقنعة للشيخ المفيد، والكافي للحلبي، والمراسم لسلار، وجواهر الفقه لابن البراج، والوسيلة لابن حمزة الطوسي، وغنية النزوع لابن زهرة، وإشارة السبق لأبي المجد الحلبي، والشرائع والمختصر النافع للمحقق الحلي، وكتب العلامة الحلي الفتوائية، والدروس واللمعة الدمشقية للشهيد الأول، وغيرها أحكامها مأخوذة من روايات الكتب المعتبرة، مع أنه على بعض المذاقات كثير من تلكم الروايات ضعيفة السند، ومنشأ الحكم والافتاء بها هو ما سطره الشيخ الطوسي رحمه الله في كلامه المتقدم، ولكون أكثر روايات هذه الكتب المعتبرة قامت القرائن على صحتها وصدورها واعتبارها.
وكذا الأمر نفسه في الكتب الفقهية الاستدلالية، فلا نجدهم يتوقفوا بالعمل بروايات الكتب المعتبرة وإن كانت ضعيفة السند على بعض المذاقات، إلا إذا كان ثمة تعارض فيجرون قوانين التعارض، من تقديم حديث الثقة ومن لم يقدح فيه على غيره.
ومثال سادس: كتاب (من لا يحضره الفقيه) وهو أحد الكتب الأربعة الشريفة للصدوق رضي الله عنه وقدّس الله روحه، و ماذكره فيه من روايات بلا تعليق يفتي بها ويحكم بصحتها ويعتمد عليها وأنها حجة بينه وبين الله تعالى.
فهو في موارد كثيرة ذكر روايات وهب بن وهب أبو البختري، وعمل بها واعتمد عليها وافتى بها، وفي رواية واحدة - بحسب الظاهر - ضَعَّفَ أبا البختري وهب بن وهب لوجود التعارض بينه وبين غيره، فهو يعمل ويفتي ويحكم بمضمون رواياته إلا ما كان في ظرف التعارض.
قال في بعضها: هذا الحديث هكذا في رواية وهب بن وهب وهو ضعيف، والذي أفتي به واعتمده في هذا المعنى، ما رواه الحسن بن محبوب ... .
ومثال سابع: كتاب الكافي الشريف، فإن الكليني رضي الله عنه توخى فيه نقل الأحاديث الصحيحة عن الصادقين عليهم السلام، مع أن أكثر الأسانيد التي ساقها في هذا الكتاب الشريف ضعيفة سنداً بلحاظ علم الرجال التقليدي المدون.
نعم هي في الأعم الأغلب صحيحة وحسنة ومعتبرة ونظيفة سنداً بلحاظ علم الرجال التحقيقي، ولعله تكون لنا مقالة في التفرقة بين علم الرجال التقليدي الذي قوامه آلات ومواد إخبارية، وبين علم الرجال التحقيقي الذي يجمع فيه بين الآلات الاخبارية والاستنتاجية والتحليلية والاستقرائية، سواء كانت من مواد الأخبار أو غيرها، ما دامت مورثة للاطمئنان والوثوق.
ومثال ثامن: ما قاله ابن الشهيد الثاني في معالم الدين: 198، بعد أن ذكر كلام الشيخ وتأكيد المحقق الحلي: (هذا الذي تبين لي في كلامه ويدعي: إجماع الأصحاب على العمل بهذه الأخبار حتى لو رواها غير الإمامي وكان الخبر سليما عن المعارض، واشتهر نقله، في هذه الكتب الدائرة بين الأصحاب، عمل به... وما فهمه المحقق من كلام الشيخ هو الذي ينبغي أن يعتمد عليه، لا ما نسبه العلامة إليه).
قال: (وأما اهتمام القدماء بالبحث عن أحوال الرجال: فمن الجائز أن يكون طلباً لتكثير القرائن، وتسهيلاً لسبيل العلم بصدق الخبر).
نعم في روايات غير الكتب المعتبرة اشترط العدالة في الراوي، ثم علل بعمل الأصحاب بالكتب المعتبرة بقوله: (إنما يدل على قبول تلك الأخبار المخصوصة لا مطلقاً، ومن الجائز أن يكون العمل منوطاً بانضمام القرائن إليها لا مجرد الأخبار).
النسبة بين صحة السند والوثوق بالصدور:
هذا وقد ذهب عدة من الأعاظم في الأعصار المتأخرة منهم سيد الفقهاء الخوئي قدس سره وعدة من تلامذته إلى أن العبرة أولا بصحة السند، فأول مقدمة عند هؤلاء الأعاظم والأساطين هو تفعيل علم الرجال التقليدي ونتائجه، لا في خصوص التعارض، فمنشأ الوثوق بصدور الروايات الموجودة في الكتب الأربعة وعدة من الكتب المعتبرة هو صحة السند، وأهملوا قرائن كثيرة وأمارات متعددة مستلزمة للوثوق بالصدور.
ومع ذلك فقد عمل السيد الخوئي قدس سره احتياطاً بالروايات الضعيفة سنداً -بحسب مذاقه-، فيما إذا كان متعلق هذه الروايات أحكام إلزامية، وبذلك صرّح في كتابه الممتع مصباح الأصول: ج205/2.
وخلاصة الكلام: إن القول باعتبار روايات الكافي الشريف وبقية الكتب الأربعة هو المشهور بين الطائفة، فطريقتهم قائمة على أساس الافتاء والعمل بكل ما في الكتب الأربعة بلا لحاظ السند، وإنما يلاحظون السند في خصوص ظرف التعارض.
وأن تنويعها - من حيث العمل والافتاء - إلى الأقسام الأربعة الذي أبتكره ابن طاووس والعلامة الحلي قدس سرهما هو الأمر الحادث والجديد، الذي لم يمر عليه أكثر من مائة سنة، اذ كما تقدم نفس العلامة الحلي قدس سره وغيره من الاعلام في الكتب الفقهية لم يفعلوه إلا في ظرف التعارض.
والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.
[1] - موقع كتابات: هذا سؤال وجِّه إلى صحاب السَّماحة الشَّيخ أحمد الماحوزي، وأدناه جوابه. ولم نقف على اسم السائل.