﴿وَلَقَد هَمَّت بِهِ وَهَمَّ بِها لَولا أَن رَأى بُرهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصرِفَ عَنهُ السّوءَ وَالفَحشاءَ إِنَّهُ مِن عِبادِنَا المُخلَصينَ﴾
من القصص الملفتة في القرآن الكريم قصة نبي الله يوسف إذ دعته امرأة العزيز إلى نفسها وكان ثمن امتناعه أن قضى سنوات سجينًا!
لم يكن يوسف (ع) من الملائكة، بل نبي من أنبياء الله قد رأى برهان ربه فكان موقف الكرامة.
وقفة تأمل مع الآية الكريمة ومعانيها العالية:
تفسير العامَّة:
أغلب كتب التفسير عند العامة يزعمون أن نبي الله يوسف لم يهُم بالفعل في قوله تعالى (وَلَقَد هَمَّت بِهِ وَهَمَّ بِها)، ولكنهم اختلفوا في معنى قوله (لَولا أَن رَأى بُرهانَ رَبِّهِ).
قال قتادة وأكثر المفسرين: إنه رأى صورة يعقوب وهو يقول له: يا يوسف تعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في الأنبياء؟ (تفسير البغوي).
وقال ابن عباس: بدت كف مكتوب عليها (وإن عليكم لحافظين)، وقال قوم: تذكر عهد الله وميثاقه. (تفسير القرطبي).
وجائز أن يكون ما رآه مكتوبا من الزجر عن ذلك، أي جائز أن نبي الله يوسف شاهد كتابة تزجره عن الفعل (تفسير ابن كثير ج2 ص492).
صورة يعقوب قائما في البيت قد عض على أصبعه يقول: يا يوسف تواقعها فإنما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير في جو السماء لا يطاق، ومثلك إذا واقعتها مثله إذا مات ووقع إلى الأرض لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ومثلك ما لم تواقعها مثل الثور. (جامع البيان ج12 ص239).
لا شك أن التأمل في تفسير (برهان ربه) عند مفسري العامة يوضح لنا أن نبي الله يوسف همّ بالفعل وليس كما يقولون في كتبهم أنه لم يهم، والدليل على ذلك توجيههم إلى أنَّه (عليه السلام) شاهد مرة آية في الجدار تزجره عن الفعل، وتارة شاهد أباه يعضّ أصابعه، والخ.. وهذا يدلُ على أن يوسف (عليه السلام) في تفسيرهم أراد الفعل، ولكنَّ عارِضًا منعه.
نسأل: كيف لنبي أن يهم بذنب من الكبائر التي وعد الله مرتكبها عذابا أليما؟
قال تعالى: ﴿الزّانِيَةُ وَالزّاني فَاجلِدوا كُلَّ واحِدٍ مِنهُما مِائَةَ جَلدَةٍ وَلا تَأخُذكُم بِهِما رَأفَةٌ في دينِ اللَّهِ إِن كُنتُم تُؤمِنونَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَليَشهَد عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ المُؤمِنينَ﴾. [النور: ٢]
وقال في بيان آخر: ﴿الزّاني لا يَنكِحُ إِلّا زانِيَةً أَو مُشرِكَةً وَالزّانِيَةُ لا يَنكِحُها إِلّا زانٍ أَو مُشرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى المُؤمِنينَ﴾. [النور: ٣]
وهذا الأمر يسلب العصمة من الأنبياء، في حين أن الآيات أثبتتها لهم (عليهم السلام)، فقد قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّار﴾. (سورة ص 45)
ومن جانب آخر: إن الأنبياء كما أنهم مكلّفون بإبلاغ محتوى الوحي والرسالة للناس، وهدايتهم للطريق المستقيم، كذلك هم مكلفون بالقيام بتزكية الناس وتربيتهم وإصلاحهم، فكيف لمن يقوم بالرذيلة و يرتكبها أن ينهى الناس عنها...!
إن التأمل في الآية وما بعدها يوضح براءة يوسف مما ورد في بعض تفاسير العامة. وإليك البيان:
المراد من برهان ربه:
(البرهان) في الأصل مصدر "بَرِهَ" ومعناه "صيرورة الشيء أبيضاً" ثمّ اُطلق هذا اللفظ على كلّ دليل محكم قوي يوجب وضوح المقصود، فعلى هذا يكون برهان الله الذي نجّى يوسف نوعاً من الأدلّة الإلهيّة الواضحة، وقد احتمل فيه المفسّرون احتمالات كثيرة، من جملتها:
1 - العلم والإيمان والتربية الإنسانية والصفات البارزة
2 - معرفته بحكم تحريم الزنا.
3 - مقام النبوّة وعصمته من الذنب.
4 - نوع من الإمداد الإلهي الذي تداركه في هذه اللحظة الحسّاسة بسبب أعماله الصالحة.
(تفسير الأمثل)
إضافة لتنزيه نبي الله يوسف كما ذكرته الآيات من سورة يوسف (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء}.. وقال: {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوء}، ولم يقل: نصرف يوسف عن السوء.
والسوء هو الذي يُصرف عن يوسف ولم يرتكبه والفحشاء هي التي تُصرف عن يوسف، بمعنى أن الله أبعد السوء عن نبي الله يوسف.
وكذلك مما يُعضّد براءة يوسف: (إِنَّهُ ُمِن عِبادِنَا المُخلَصينَ﴾ وليس المُخلِصين فهناك اختلاف بين اللفظتين؛ فالأولى والمُخلَصينِ هُم الذينَ أخلصَهُم اللهُ لنفسِه، وليس للشيطان سلطة أو القدرة على إغوائهم، ﴿قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغوِيَنَّهُم أَجمَعينَ إِلّا عِبادَكَ مِنهُمُ المُخلَصينَ﴾. وكان يوسف قد بلغ هذه المرحلة بحيث إنه وقف كالجبل في ذلك الابتلاء والامتحان الإلهي وبشهادة امرأة العزيز إذ قالت كما في سورة يوسف: ﴿وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ﴾ (يوسف ٣٢)، أي أنا راودته، ولكنه أمتنع. وفي آخر المطاف اعترفت بفعلتها ونزّهت نبي الله يوسف؛ إذ ﴿قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصّادِقينَ﴾ (يوسف ٥١)، أي الآن ظهر وبان الحق.
رواية شريفة في تفسير الآية الكريمة:
قال المأمونُ للإمام الرضا (عليه السلام): أخبرني عن قول الله عز وجل: ﴿ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه﴾.
فقال الرضا (عليه السلام): "لقد همَّت به و لولا أن رأى برهان ربه لهَمَّ بها كما همَّت لكنه كان معصوما والمعصوم لا يهمُّ بذنب ولا يأتيه، ولقد حدثني أبي عن أبيه الصادق (عليه السلام) أنه قال: همَّت بأن تفعل، وهمَّ بأن لا يفعل". (عيون اخبار الرضا ج٢ ص١٧٩).