بسم الله الرّحمن الرّحيم
قصيدة (أحرم الحجاج).. الشِّعرُ المعصوم
لابدّ لكلّ شاعر من مخزونٍ أدبيّ ليصيغ فكرة شعره في قوالب لفظيّة معيّنة، وفي الوقت ذاته يحتاج لكمٍّ من المعارف ترتّب أفكاره ذهنيًّا كلّ بحسب الشأن الّذي ينحاه في شعره، فصاحب الغزل لا يخلو من معلومات في معايير الجمال وما يُشبّه به المحبوب ولولا الكلمات المتنوّعة التي تلامس تلك الصّفات لما استطاع أن يُخرج مشاعره في قوالب شعريّة ولكانت كالنّثر الذي لا يقاس بمقياس الأدب، وهكذا شاعر السلطان فلا يمكنه توصيف مقام السّلطان إن لم يعلم تفصيلًا بمحلّه من الرّعيّة وما أسداه لهم من خدمات وعظم خطره في تصريف الأمور، وهكذا في بقيّة أنواع الشّعر.
هذا الجهد الذي يبذله أي شاعر وإن لم يلتفت إليه يتضاعف في الشّعر المتعلّق بأهل البيت عليهم السّلام، وفيهم لابدّ من مراعاة ما يجب عليك وعدم الاعتماد على مخزون ضحل من جهة أو غير معروف المصدر من جهة أخرى؛ إذ أنّك في أيّ تعامل مع الأئمة المعصومين محكومٌ بجهات متعدّدة منها أخلاقيّة أدبيّة، ومنها احتياطيّة في النّسبة، ومنها عدم الغلو أو التّقصير في حقّهم، فلا يصلح أن يأتي شاعر بأوصاف لمولاتنا الزّهراء -صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها- تصفها كما يصف المحبوب عشيقته؛ فإن ذلك يخالف خُلُقَ التعامل مع هذا المقام المقدّس، ولا يصح كذلك أن يُتقوّل على الإمام بأمور خارجة عن السّيرة المرويّة، أو توصيف حاله المعصوميّ فيقع الشّاعر في شبهة الكذب على المعصوم من حيث يعلم أو لا يعلم، وفي الجانب الثّالث فإنّ إرادة تعظيم شاعر ما للمعصوم قد تحدي به إلى القول بمقامات لا يرتضي الأئمة عليهم السّلام وصفهم بها وتكون من باب الغلو، أو تستهين -والعياذ بالله- به في مقام تعداد مصائب أو ما شاكل، لذلك فإنّ الشّاعر المحتاط في هذا الأمر الخطير المقدّس يبذل قصارى جهده في تكوين صورةٍ لا تخلّ بالشّعر من جهة كونه خطابًا عاطفيًّا يعتمد على أركان أدبيّة قررت في محلها وبين كون المتناول في الشعر جهة لا يليق بها أيّ شيء، فأكثر ما تجده من جهابذ الشّعراء المؤمنين تحميل النّظم شيئا من الشّعر، فترى السيّد الحميريّ رضوان الله تعالى عليه ينطلق من المرويّ في مصاب الحسين عليه السّلام ووطئ الخيل صدره الشّريف فيرتّل خالدته: "أمرر على جدثِ الحسين" وتجد دعبل يحكي ما روي في ثأر الإمام القائم أرواحنا فداه في أبيات لم تخرج عن كونها شعرا فيقول:
إذا وتــروا مــدوا إلــى واتـريـهم
أكـفـا عــن الاوتــار مـنقبضاتِ
فـلولا الذي أرجوه في اليوم أو غد
تـقـطع نـفـسي إثـرهـم حـسراتِ
خــروج إمــام لا مـحـالة خـارج
يـقـوم عـلـى اســم الله والـبركاتِ
وهكذا شاعرنا الفقيه الفذ الشّيخ حسن الدّمستاني رحمه الله صاحب القصائد المشجيّة، وعلى رأسها وأشهرها (أحرم الحجاج) فقد استوقفني غير مرّة عدم تطرّقه لنزول الحسين عليه السّلام في مكّة، بل جعل ركب الحسين صلوات الله عليه يقصد العراق في طريقه إلى مكة فقال:
"وَسَرَى بالأهلِ والصَّحبِ بِمَلحوبِ الطّريقْ
يقطَعُ البِيدَ مُجِدّا قاصِدَ البيتِ العَتيقْ
فَأَتَتْهُ كُتُبُ الكُوفَةِ بالعَهدِ الوَثيقْ
نَحنُ أنْصارُكَ فاقدِمْ سَتَرى قُرّةَ عيّن"
فكان يخطر في البال كثيرًا أنّه اعتمد مصدرًا لم يذكر تلك المرحلة من مسير الحسين عليه السّلام؛ إذ أنّ ما ذكرناه في مقدّمة الكلام وجلالة شيخنا الدّمستاني لا يتّسق مع عدم وجود ما يستند إليه في المقام، إلى أن وقفتُ على المقتل الّذي ذكره الشّيخ الصّدوق رحمه الله في أماليه[1] فلاحظتُ عدم ذكره لنزول الحسين صلوات الله عليه مكّة بل جاء في الرواية المذكورة بعد أن ذكر الإمام السجّاد (راوي المقتل) قضيّة الكتاب الذي من يزيد إلى والي المدينة: "فبلغ ذلك الحسين، فَهَمَّ بالخروج من أرض الحجاز إلى أرض العراق" ثم قال بعد أن ذكر خروج الحسين من المدينة: "وسمع عبد الله بن عمر بخروجه فقدّم راحلته وخرج خلفه مسرعا، فأدركه في بعض المنازل فقال: أين تريد يا ابن رسول الله؟ قال: العراق" ومن هذه الالتفاتة قارنتُ مع بعض الإخوان القصيدة مع رواية الأمالي فوجدنا مطابقةً في كثير من الأبيات مع الخبر المروي عن الأئمة عليهم السّلام حتّى في بعض الألفاظ، ولا ينفي ذلك رجوعه إلى مصدر آخر، بل كان من بعضِ ما يُستفاد منه أنّه ناظر للزّيارة المروية عن النّاحية المقدّسة أرواحنا فداها، ولكن ما يتّضح جليًّا أنّه اعتمد بشكل أساسيّ على مقتل الصّدوق فلا عجب لو قال قائل أنّ القصيدة نظمٌ لذلك الخبر.
ونحاول هنا أن نرصد تلك المشابهات سائلين الله التّوفيق[2]:
أ| جاء في الخبر: "فَلَمَّا وَرَدَ اَلْكِتَابُ عَلَى يَزِيدَ لَعَنَهُ اَللَّهُ كَتَبَ اَلْجَوَابَ إِلَى عُتْبَةَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا فَعَجِّلْ عَلَيَّ بِجَوَابِهِ، وَبَيِّنْ لِي فِي كِتَابِكَ كُلَّ مَنْ فِي طَاعَتِي أَوْ مَن خَرَجَ عَنْهَا، وَلْيَكُنْ مَعَ اَلْجَوَابِ رَأْسُ اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ. فَبَلَغَ ذَلِكَ اَلْحُسَيْنَ فَهَمَّ بِالْخُرُوجِ مِنْ أَرْضِ اَلْحِجَازِ إِلَى أَرْضِ اَلْعِرَاقِ، فَلَمَّا أَقْبَلَ اَللَّيْلُ رَاحَ إِلَى مَسْجِدِ اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ لِيُوَدِّعَ اَلْقَبْرَ فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى اَلْقَبْرِ سَطَعَ لَهُ نُورٌ مِنَ اَلْقَبْرِ فَعَادَ إِلَى مَوْضِعِهِ، فَلَمَّا كَانَتِ اَللَّيْلَةُ اَلثَّانِيَةُ رَاحَ لِيُوَدِّعَ اَلْقَبْرَ فَقَامَ يُصَلِّي فَأَطَالَ فَنَعَسَ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَجَاءَهُ اَلنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَهُوَ فِي مَنَامِهِ فَأَخَذَ اَلْحُسَيْنَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَضَمَّهُ إِلَى صَدْرِهِ وَجَعَلَ يُقَبِّلُ عَيْنَيْهِ وَيَقُولُ: بِأَبِي أَنْتَ، كَأَنِّي أَرَاكَ مُرَمَّلاً بِدَمِكَ بَيْنَ عِصَابَةٍ مِنْ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ يَرْجُونَ شَفَاعَتِي مَا لَهُمْ عِنْدَ اَللَّهِ مِنْ خَلاَقٍ، يَا بُنَيَّ إِنَّكَ قَادِمٌ عَلَى أَبِيكَ وَأُمِّكَ وَأَخِيكَ وَهُمْ مُشْتَاقُونَ إِلَيْكَ، وَإِنَّ لَكَ فِي اَلْجَنَّةِ دَرَجَاتٍ لاَ تَنَالُهَا إِلاَّ بِالشَّهَادَةِ، فَانْتَبَهَ اَلْحُسَيْنُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مِنْ نَوْمِهِ، فَأَتَى أَهْلَ بَيْتِهِ فَأَخْبَرَهُمْ بِالرُّؤْيَا ووَدَّعَهُمْ، وَحَمَلَ أَخَوَاتِهِ عَلَى اَلْمَحَامِلِ وَاِبْنَتَهُ وَاِبْنَ أَخِيهِ اَلْقَاسِمَ بْنَ اَلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ثُمَّ سَارَ فِي أَحَدٍ وَعِشْرِينَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ".
قال الشّيخ:
لسْتُ أنساهُ طَريدًا عن جِوارِ المُصطَفى
لائِذًا بالقبّةِ النّوراءِ يَشكُو أسِفا
ثم قال:
ضُمّني عندَك يا جدّاه في هذا الضّريح
وقال:
سَتذوقُ المَوتَ ظُلمًا ظامِيًا في كربلا
وسَتَبقى فِي ثَراها عاثِرًا مُنْجَدلا
وكأنّي بِلَئيمِ الأصلِ شَمْرٍ قد عَلا
وقال:
فَبكَى قُرَةُ عينِ المُصطفى والمُرتضى
وقال:
حينَ نبّا آلَهُ الغُرَّ بِما قالَ النّبي
وقال:
وسرى بالأهلِ والصّحبِ بملحوبِ الطّريق
ب| جاء في الخبر: "ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلَ اَلْعُذَيْبَ فَقَالَ فِيهَا قَائِلَةَ اَلظَّهِيرَةِ، ثُمَّ اِنْتَبَهَ مِنْ نَوْمِهِ بَاكِياً فَقَالَ لَهُ اِبْنُهُ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَة؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، إِنَّهَا سَاعَةٌ لاَ تَكْذِبُ اَلرُّؤْيَا فِيهَا وَإِنَّهُ عَرَضَ لِي فِي مَنَامِي عَارِضٌ فَقَالَ: تُسْرِعُونَ اَلسَّيْرَ وَاَلْمَنَايَا تَسِيرُ بِكُمْ إِلَى اَلْجَنَّةِ".
قال الشّيخ:
بَيْنَما السّبطُ بأهليهِ مُجِدٌّ فِي المَسيرْ
وإذَا الهاتفُ ينعاهُم ويَدعو ويشيرْ
إنّ قُدّامَ مَطاياهُم مَناياهُم تَسيرْ
ج| جاء في الخبر: "ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلَ كَرْبَلاَءَ فَقَالَ أَيُّ مَوْضِعٍ هَذَا فَقِيلَ هَذَا كَرْبَلاَءُ يَا اِبْنَ رَسُولِ اَللَّهِ فَقَالَ هَذَا وَاَللَّهِ يَوْمُ كَرْبٍ وَبَلاَءٍ وَهَذَا اَلْمَوْضِعُ اَلَّذِي يُهَرَاقُ فِيهِ دِمَاؤُنَا وَيُبَاحُ فِيهِ حَرِيمُنَا فَأَقْبَلَ عُبَيْدُ اَللَّهِ بْنُ زِيَادٍ بِعَسْكَرِهِ حَتَّى عَسْكَرَ بِالنُّخَيْلَةِ وَبَعَثَ إِلَى اَلْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ رَجُلاً يُقَالُ لَهُ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ فِي أَرْبَعَةِ آلاَفِ فَارِسٍ وَأَقْبَلَ عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ اَلْحُصَيْنِ اَلتَّمِيمِيُّ فِي أَلْفِ فَارِسٍ يَتْبَعُهُ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ فِي أَلْفِ فَارِسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ اَلْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ اَلْكِنْدِيُّ أَيْضاً فِي أَلْفِ فَارِسٍ وَكَتَبَ لِعُمَرَ بْنِ سَعْدٍ عَلَى اَلنَّاسِ وَأمَرَهُمْ أَنْ يَسْمَعُوا لَهُ وَيُطِيعُوهُ فَبَلَغَ عُبَيْدَ اَللَّهِ بْنَ زِيَادٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ يُسَامِرُ اَلْحُسَيْنَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَيُحَدِّثُهُ وَيَكْرَهُ قِتَالَهُ فَوَجَّهَ إِلَيْهِ شِمْرَ بْنَ ذِي اَلْجَوْشَنِ فِي أَرْبَعَةِ آلاَفِ فَارِسٍ".
قال الشّيخ في مربّعات تباعًا:
فَدَعا في قَومِهِ يا قَوْمِ ما هذي الفَلا
قيلَ هَذي كَرْبَلاءٌ قالَ كَرْبٌ وَبَلا
ثمّ قال:
هَا هُنا تُنْتَزَعُ الأرواحُ مِن أجسادِها
وبِهذه تُحملُ الأمجادُ في أصْفادِها
ثمّ قال:
وَأَطَلّتهُم جُنودٌ كالجَرَادِ المنتَشرْ
مَعَ شِمْرٍ وابنِ سعدٍ كُلُّ كَذّابٍ أشِر
د| حكى إمامنا زين العابدين عليه السّلام بعض خطابات الأنصار فقال: "فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: يَا اِبْنَ رَسُولِ اَللَّهِ مَاذَا يَقُولُ لَنَا اَلنَّاسُ إِنْ نَحْنُ خَذَلْنَا شَيْخَنَا وَكَبِيرَنَا وَسَيِّدَنَا وَاِبْنَ سَيِّدِ اَلْأَعْمَامِ وَاِبْنَ نَبِيِّنَا سَيِّدِ اَلْأَنْبِيَاءِ، لَمْ نَضْرِبْ مَعَهُ بِسَيْفٍ وَلَمْ نُقَاتِلْ مَعَهُ بِرُمْحٍ؟ لاَ وَاَللَّهِ أَوْ نَرِدَ مَوْرِدَكَ وَنَجْعَلَ أَنْفُسَنَا دُونَ نَفْسِكَ وَدِمَاءَنَا دُونَ دَمِكَ، فَإِذَا نَحْنُ فَعَلْنَا ذَلِكَ فَقَدْ قَضَيْنَا مَا عَلَيْنَا وَخَرَجْنَا مِمَّا لَزِمَنَا.
وَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ زُهَيْرُ بْنُ اَلْقَيْنِ اَلْبَجَلِيُّ فَقَالَ: يَا اِبْنَ رَسُولِ اَللَّهِ وَدِدْتُ أَنِّي قُتِلْتُ ثُمَّ نُشِرْتُ ثُمَّ قُتِلْتُ ثُمَّ نُشِرْتُ ثُمَّ قُتِلْتُ ثُمَّ نُشِرْتُ فِيكَ وَفِي اَلَّذِينَ مَعَكَ مِائَةَ قَتْلَةٍ وَإِنَّ اَللَّهَ دَفَعَ بِي عَنْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ".
وترجم ذلك الشّيخ الدمستاني قائلًا:
يَحسَبونَ البِيْضَ إذْ تَلْبَسَ فَيضَ القُلَلِ
بِيْضَ أُنسٍ يَتمايَلْنَ بحُمْرِ الحُلَلِ
فَيَذوقونَ المَنايا كَمذاقِ العسَلِ
وقال في ختام المربع اللاحق واصفًا الأنصار:
كَيْفَ لا تَسعَدُ في حالِ اقترانٍ بالحُسين
هـ| جاء في الخبر: "ثُمَّ بَرَزَ مِنْ عَسْكَرِ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ رَجُلٌ آخَرُ يُقَالُ لَهُ تَمِيمُ بْنُ اَلْحُصَيْنِ اَلْفَزَارِيُّ فَنَادَى: يَا حُسَيْنُ وَيَا أَصْحَابَ اَلْحُسَيْنِ، أَمَا تَرَوْنَ إِلَى مَاءِ اَلْفُرَاتِ يَلُوحُ كَأَنَّهُ بُطُونُ اَلْحَيَّاتِ؟ وَاَللَّهِ لاَ ذُقْتُمْ مِنْهُ قَطْرَةً حَتَّى تَذُوقُوا اَلْمَوْتَ جَزَعاً" وقال عليه السّلام: "وَبَلَغَ اَلْعَطَشُ مِنَ اَلْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَ أَصْحَابِهِ".
قال الشّيخ في أصحاب الحسين عليه وعليهم السّلام:
وَنُفوسًا مُنِعَت أنْ تَرِدَ الماءَ المُباحْ
جُرِّعَتْ كأْسَي أُوامٍ وحِمامٍ قاتلين
ووصف عطش الحسين ورضيعه صلوات الله عليهما قائلًا:
وَهُما مِنْ ظَمَإٍ قَلْبَاهُما كالْجَمْرَتين
و| جاء في الخبر: "وَنَظَرَ اَلْحُسَيْنُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَمِيناً وَشِمَالاً فَلَمْ يَرَ أَحَداً".
يصف الشّيخ هذه الالتفاتة قائلًا:
عِنْدَها ظَلّ حسينٌ مُفْرَدًا بَيْنَ الجُمُوعْ
يَنظرُ الأهلَ فيُذْري مِنْ أَماقيهِ الدّموعْ
ز| جاء في الخبر: "وَأَقْبَلَ فَرَسُ اَلْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حَتَّى لَطّخَ عُرْفَهُ وَنَاصِيَتَهُ بِدَمِ اَلْحُسَيْنِ، وَجَعَلَ يَرْكُضُ وَيَصْهَلُ، فَسَمِعَتْ بَنَاتُ اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ صَهِيلَهُ فَخَرَجْنَ فَإِذَا اَلْفَرَسُ بِلاَ رَاكِبٍ، فَعَرَفْنَ أَنَّ حُسَيْناً صَلَوَاتُ اَللَّهِ عَلَيْهِ قَدْ قُتِلَ، وَخَرَجَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ أختُ اَلْحُسَيْنِ وَاضِعَةً يَدَهَا عَلَى رَأْسِهَا تَنْدُبُ وَتَقُولُ: وَا مُحَمَّدَاهْ هَذَا اَلْحُسَيْنُ بِالْعَرَاءِ، قَدْ سُلِبَ اَلْعِمَامَةَ وَ اَلرِّدَاءَ".
يقول الشّيخ:
لَهْفَ نَفسي إذْ نَحَا نَحْوَ الفَساطيطِ الحِصانْ
ذَاهِلًا مُنْفَجِعًا يَصْهَلُ مَذْعورَ الجَنَانْ
مائلَ السَّرْجِ عَثورَ الخَطوِ فِيْ فضلِ العنانْ
خَاضِبَ المَفْرَقِ والخَدّينِ مِنْ نَحْرِ الحُسين
ثمّ يقول:
مَرَقَ المهرُ وَجيعًا عاليًا منهُ العَويلْ
يُخْبِرُ النِّسوانَ أنّ السّبْطَ في البَوغا جَديلْ
وَدمُ المَنْحَرِ جارٍ خاضبَ الوجهِ يسيلْ
نابعٌ من ثَغْرَةِ النّحرِ كما تَنبعُ عَيْن
ثم قال:
مُذ وَعَتُ ما لاحَ مِنْ حالِ الجوادِ الصّاهلِ
صَرَخَتْ مازِقةَ الجَيْبِ بِلُبٍّ ذاهلِ
وبَدَت مِنْ داخلِ الخَيْماتِ آلُ الفَاضلِ
مُحرقاتٍ بشُواظِ الحُزْنِ مِنْ فَقدِ الحُسين
وأمّا رجوع الشّيخ الدّمستاني لزيارة النّاحية فيتّضح في وصفه لقتال الحسين عليه السّلام وحلول الفاجعة، فإنّ رواية الأمالي أوعزت القتل لسنان لعنه الله، أمّا زيارة النّاحية فأسندته للشَّمر لعنه الله وقد اختار الدّمستاني ما في الزّيارة، ولم يذكر الإمامُ في خبر الصّدوق شيئا عن قتال الإمام لهم وشجاعته بينما ذُكر ذلك في الزّيارة ويتبيّن في ما ذكره الإمام صاحب الزّمان في زيارته اقتباس الشّيخ الدّمستاني له في صوره، مثلًا:
يقول روحي فداه في الزّيارة: "فَثَبَتَّ لِلطَّعْنِ وَالضَّرْبِ، وَطَحَنْتَ جُنُودَ الْفُجَّارِ، وَاقْتَحَمْتَ قَسْطَلَ الْغُبَارِ، مُجَالِداً بِذِي الْفَقَارِ، كَأَنَّكَ عَلِيٌّ الْمُخْتَارُ".
أمّا الشّيخ الدّمستانيّ فيقول:
مَا لهُ في حَوْمَةِ الهَيجَاءِ في الكَرّ شبيهْ
غَيرُ مَولانا عَليٍّ والفَتَى سِرّ أبيهْ
وجاء عنه في الزّيارة عجّل الله فرجه: "حَتَّى نَكَسُوكَ عَنْ جَوَادِكَ، فَهَوَيْتَ إِلَى الْأَرْضِ جَرِيحاً".
فقال فيها الدّمستاني:
مَا دَرَوْا إذْ خَرَّ عَن ظَهرِ الجَوادِ السّابحِ
أحُسيْنٌ خَرَّ أمْ بُرجِ السّماكِ الرّامحِ
وقوله عليه السّلام في حال النّسوة المخدّرات حال خروجهن لمصرع الحسين عليه السّلام: "وَإِلَى مَصْرَعِكَ مُبَادِرَاتٍ".
يصوّره الدّمستاني قائلًا:
يَتَسَارعنَ إلى مَوْضِعِ مَا خَرَّ الحُسيْن
ثمّ يقول الإمام وهو المفجوع بجدّه المنتظر لأخذ ثأره: "وَالشِّمْرُ جَالِسٌ عَلَى صَدْرِكَ، مُولِغٌ سَيْفَهُ عَلَى نَحْرِكَ، قَابِضٌ عَلَى شَيْبَتِكَ بِيَدِهِ، ذَابِحٌ لَكَ بِمُهَنَّدِهِ".
فيضمّن الشّيخ قصيدته بما قال الإمام:
وَإذا بالشّمرِ جاثٍ فَوْقَ صَدْرِ الطّاهرِ
يَهبُرُ الأودَاجَ منهُ بالحُسامِ الباترِ
{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}
فلا غرو إن اشتهرت هذه القصيدة وغدت نشيد الصّغير والكبير فهي لم تخرج وإن كانت شعرًا عن حدود المنصوص عن الأئمة الأطهار فلا أقل تكون مكلّلة بالأنوار والبركات، وكم أشجت هذه القصيدة وأبكت بالرغم من اقتصارها على هذه المصادر المعصوميّة، فهنا دعوة لإكمال ما بدأ به الشّيخ الدّمستاني رحمه الله وتفصيل المصاب في الشعر والنّثر بما ورد عن الأئمة الميامين فكم في زيارات الحسين الواردة في كامل الزّيارات وغيره من تفاصيل يشيب من ذكرها الرّضيع لم يُلتفت لها في قصائدنا المشهورة التي تتلى فوق المنابر، فهي الأولى بالذّكر طالما قد ذكرها المعصوم، والله الهادي للخير والصّلاح، والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطّاهرين.
السَّيد علي بن السَّيد محمَّد العلوي
ليلة الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة ١٤٤٥هـ
ليلة الإثنين - عراد، قرية من قرى البحرين
...................................................
[1] المجلس الثّلاثون من كتاب الأمالي للشيخ الصّدوق، الأمالي ج١ (موسوعة الشّيخ الصّدوق) ص٢٤٠ وما بعدها.
[2] والشّكر موصول لشاعر أهل البيت عليهم السّلام الأستاذ حسين خلف، والأخ المسدّد الخطيب الحسيني السيّد هادي الغريفيّ، والصّديق الموفّق الخطيب الحسينيّ الملّا حسن الخنيزيّ حرسهم الله وآمنهم من حوادث الزّمن، فقد جهدوا في هذه المقارنات وكان بهم بدء هذا المكتوب.