بسم الله الرَّحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
في وصيّةٍ كتبها الإمام الحسين بن علي (عليه السَّلام) إلى أخيه محمَّد بن الحنفيّة، يقول فيها: "وأني لم أخرج أشِراً ولا بطِراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنَّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدِّي (صلَّى الله عليه وآله)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسيرُ بسيرة جدّي وأبي علي ابن أبي طالب (عليه السَّلام) فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحـقّ، ومن ردَّ عليَّ هذا أصبر حتى يقضـي الله بيني وبين القـوم بالحقّ، وهو خير الحاكمين".
مقدِّمة: في بيان بعض مفردات النَّص
المتأمِّل في النُّصوص الصَّادرة عن أبي عبد الله الحسين بن علي (عليه السَّلام) تلوح له مبادئ وملامح ودوافع نهضته المباركة، فمن بين مجموع النُّصوص الصَّادرة عنه (عليه السَّلام) نصّ الكتاب الذي كتبه موصياً إلى محمَّد بن الحنفية (رضي الله عنه)، والذي بيَّن فيه الدوافع والملامح والأهداف، وقبل بيان الملامح والدوافع لنهضته المباركة، علينا أن نقف على بعض مفردات النَّص والتي قد تكون مبهمة وغير واضحة لبعض من يقرأها أو يستمعها.
قوله (عليه السَّلام): "وإنّي لم أخرج أشِراً ولا بطِراً":
المراد بالأَشَرَ: في اللغة الحدَّة، والأشِر اسم الفاعل منه، وهو المتسـرِّع وذو الحدَّة. وقد أورد اللغويون عدَّة معانٍ أخرى للأشر، فقد جاء في لسان العرب أنَّ الأشَر هو المرح، والأشَر هو البطر.
وقوله (عليه السَّلام): (بطراً)، فإنَّ البطر لغة هو الطغيان عند النعمة، وفي الحديث: "الكِبْرُ بَطَرُ الحقِّ"، وقيل إنَّ معناه: الدَّهشة والحيرة.
وقد أورد البعض أنَّ من الخطأ أن يقول القائل: (وأنّي لم أخرج أشِراً ولا بطِراً) إذ من الصحيح أن يقال: "وأني لم أخرج أشَراً ولا بطَراً"، وهو وإن كان له وجه، إلا أنَّه لا ضير على من يتلفَّظها (أشِراً) باسم الفاعل، وكذلك (بطِراً).
وعليه؛ فالمعنى الذي أراده الحسين (عليه السَّلام) من كلماته هو بيان أنَّه (عليه السَّلام) لم يخرج بثورته في كربلاء حماقةً وحدّةً وطغياناً، بل إنَّ قيامه كان لأجل أهداف وملامح ودوافع سامية، حدَّدها في كلماته ووصاياه.
وتأتي هذه القراءة لتبيِّن أهمَّ الملامح في محورها الأوَّل والدوافع للنهضة الحسينيّة في محورها الثاني التي ألقت بظلالها الخيّرة على البشـرية بلا تمييز منذ إراقة أوَّل قطرة من دماء الحسين (عليه السَّلام) لتسقي الأرض الحريةَ والإباءَ والشهامةَ والفداءَ نصـرةً للحق وإماتةً للباطل.
المحور الأوَّل: ملامح النَّهضة الحسينيّة
هناك ملامح واضحة للنهضة الحسينيّة التي قام بها أبو عبد الله (عليه السَّلام) في أرض كربلاء، ويمكن اقتناص ذلك من خلال بعض النصوص التي وردت عن الحسين (عليه السَّلام)، ويمكن بيان هذه الملامح في نقاط:
أوَّلاً: إحقاق نظام الحقِّ
إنَّ الملمح الأساس لقيام الحسين (عليه السَّلام) بنهضته هو إحقاق الحقِّ، فقد نقل الطبري في تاريخه أنَّ الحسين (عليه السَّلام) عندما حوصر في أرض كربلاء خطب خطبة وقال فيها: "ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم والسائرين فيكم بالجور والعدوان"، وهذا بيان صريح من الإمام (عليه السَّلام) بأنَّ الخلافة أمرها في أيدي أهل البيت (عليه السَّلام) لا في أيدي غيرهم، وعليه فإنّ من الملامح العامَّة لواقعة الطفِّ هي إحقاق الحقّ لا أقل بإظهاره لمعتنقيه، ومن الطبيعي أنَّ الإمام (عليه السَّلام) يملك خطّة واضحة لأجل إقامة الحقّ الذي أراده الله سبحانه وتعالى.
ثانيا: إحياء الدِّين وقيمه وتحقيق الصَّلاح
ومن الملامح التي تظهر من نهضة الطفِّ إحياء الدين والقيم وتحقيق الصلاح، وكان يبيِّن الإمام الحسين (عليه السَّلام) هذا الملمح حتى قبل قيامه إلى كربلاء، ففي النصّ -صدر البحث- يقول (عليه السَّلام): ".. إنَّما خرجت لطلب الاصلاح في أمَّة جدِّي (صلَّى الله عليه وآله)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسيرُ بسيرة جدّي وأبي علي ابن أبي طالب (عليه السَّلام)، فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحـقّ، ومن ردَّ عليَّ هذا أصبر حتى يقضـي الله بيني وبين القـوم بالحقّ، وهو خير الحاكمين".
وإحياء الدّين قيمه وتحقيق الصلاح يثبت بإجراء الأحكام الإلهية وإرساء دعائم الحقِّ، ودحر الهمم الشيطانيّة، ورفض خطّ الشيطان في مقابل خطّ الرحمن.
ومن الواضح أنَّ الفساد الأموي قد تفشَّى آنذاك في زمانه، ممَّا جعل الإمام ينهض ثائراً لأجل الإصلاح الذي يعدُّ ركيزة أساسية أوليّة في ثورته وفلسفتها، هادفاً إلى تسيير شؤون المجتمع وأن يسود النظام فيه على جميع الأصعدة، المجتمعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة والأخلاقيّة وغيرها في المجتمع الإسلامي.
وقد واصل إمامنا زين العابدين (عليه السَّلام) بعد كربلاء في تحقيق بعض الأهداف التي ثار من أجلها الحسين (عليه السَّلام)، والتي من أهمُّها التربيّة الأخلاقيّة الصحيحة للإنسان في المجتمع الإسلامي، فقد فجَّر لنا تلك الأدعية الضخمة التي متى ما قرأها الإنسان بتوجّهه الكامل استشعر الرحمة الإلهيّة والقوّة الإلهيّة التي تجعله يخرّ باكياً أمام جبار السماوات والأرض، محقّقاً في ذلك جانب الرجاء والخوف تجاه ربّه، فيستقيم ويصلح أمر حياته وآخرته.
ثالثاً: إحياء السُّنَّة النَّبويَّة وبثُّ روح الشَّهادة
وقد كان للنبي محمَّد (صلَّى الله عليه وآله) سنّة واضحة في قيادة الأمّة وتبليغ الدّين والرسالة، إلا أنَّ هذه السنّة قد اعتراها النسيان بشكلٍ تدريجي بعد رحيله عن الدنيا، حتى بات المستنكرُ يستنكر أعمال بعض من ينسب نفسه للإسلام باعتباره رأس المجتمع، فكان المجتمع بحاجة إلى صعقة تنبيه وتوجيه كبيرة نحو الحقّ والاتجاه الصحيح، وقد بذل الحسين (عليه السَّلام) في ذلك جهداً واسعاً كلّفه نفسه وعياله وأسرته في سبيل إحياء تلك السنّة وتطبيق سيرة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وبات هذا الأمر عنصـراً واضحاً من عناصر ثورة الحسين (عليه السَّلام)، خصوصاً وأنّه ابن النبي (صلَّى الله عليه وآله) والذي ورث منه العلم والحكمة وإقامة الحقّ والحجّة.
وقد بثَّ الحسين (عليه السَّلام) روح الجهاد والشهادة في المجتمع الإسلامي في سبيل إقامة الحقّ، وذلك لما أولاه الإسلام من أهميّة كبيرة لفريضة الجهاد، يقول أمير المؤمنين(عليه السَّلام): "الجهاد عماد الدين ومنهاج السعداء"، ويقول (عليه السَّلام): "إنَّ الجهاد أشرف الأعمال بعد الإسلام، وهو قوام الدين" ، وقد كان من خصوصيّات الزمن الذي عاشه الحسين (عليه السَّلام) تحليل الحرام وتحريم الحلال من جهة، وبثّ روح الانهزام والتثبيط من جهة أخرى، على عكس ما كان وعرف من حركات الجهاد في زمن فجر الإسلام وما تلاه، حيث قدّم المسلمون دماءهم وضحّوا بكلّ ما عندهم في سبيل إنجاح الرسالة الإسلاميّة.
ولقد سطّر لنا التاريخ مواقف عديدة ضربت أروع الأمثلة في التضحيّة والجهاد واستفراغ الوسع في مدافعة العدو، إذ الجهاد يعدّ من السنن الكونيّة في المجتمعات، ولو رجعت إلى أيّ مجتمع -إنسانيّاً كان أو غيره- فإنّك تلاحظ أنّ أفراده تمتلك غريزة حبّ البقاء، وغريزة الدفاع عن هذه الغريزة، كلّ ذلك حماية لوجوده.
وقد أصرَّ الإمام (عليه السَّلام) على مواجهة أسباب الفشل في المجتمع، فردَّ المفاسد والمنكرات ونشـر ثقافة الشهادة وكرّسها على أحسن وجه، ولم تكن المبايعة التي طُلبت منه آنذاك منسجمة مع أهدافه، ولذا رفضها صريحاً -كما ينقل المؤرخون- بقوله: "إنَّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيدُ رجلٌ شارب الخمر، وقاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله"، ولذا قوبل بالإطاحة به والشهادة في سبيل تلك الأهداف الإلهية.
المحور الثَّاني: دوافع النَّهضة الحسينيَّة
إنّ واقعة الطفّ هي الواقعة التي صار لها صدى واسع عند المفكّرين والكتّاب وغيرهم، وفي سبيل فهم الدوافع للنهضة الحسينيّة فإنّنا نجد مناهج عدَّة اعتمد عليها الكتَّاب في عمليّة بحثهم وتنقيحهم لملابسات وأحداث واقعة الطفِّ وما يدور مدارها، فأنتجت لنا عدَّة دوافع ونظريَّات لتفسير تلك الدوافع، وجميعها تشترك عندهم في أنَّ الحسين بن علي (عليه السَّلام) خرج على الأمويين -الذين هم أصحاب النفوذ والسلطة- ممَّا أدَّى إلى أن يجهَّز له الجيش الجرَّار فينتهي الأمر إلى مصرعه ومصرع أهل بيته (عليه السَّلام).
إلّا أنَّ هذا وإن كان صحيحاً على مستوى المادّة والميدان، إلا أنَّه مختلف تماماً لدرجة المقابلة على مستوى المعنى والهدف، فإنَّه وإن هزم ميدانيّاً وعسكرياً لقلّة العدّة والعدد إلّا أنّه انتصـر استراتيجيّاً على مستوى الأهداف بعيدة المدى.
ولا بأس بأن نستعرض بعض تلك النظريَّات؛ لنقف على ما قُرِّر منها كدوافع للنهضة الحسينيّة، وإن عدَّت في بعضها ما هي إلا إشكالات أوردها أصحابها على النَّهضة الحسينيّة:
النَّظريَّة الأولى: اختلاف الطَّبائع والمهن بين الهاشميِّين والأمويِّين
يقرّر بعض الباحثين في تناولهم لواقعة الطَّفِّ أنَّ الأسباب التي أدّت إلى نشوء الحرب والواقعة تعود إلى عداء عائلي قَبَلي بين بني هاشم وبني أميّة، وسبب ذلك العداء والخلاف هو اختلاف الطبائع بينهما، إذ لكلٍّ منهما خطٌّ اعتمده ومسيرة انتهجها في حياته، وبما أنّهما متغايران ومختلفان فإنّ التربيّة التي يربّي عليها كلٌّ من الفريقين أجيالَه وأولاده تختلف وتتغاير أيضاً، فتؤدّي بذلك إلى اختلاف الأمزجة، والعوامل التربويّة، وغيرها. وبهذا يفسّر البعضُ الخلافَ على أنّه خلاف بين الطبائع والأمزجة، فإنَّ الطبع الأموي قائم على الوصول والانتهاز، وهو طبع مادّي بحت يأخذ الأمور بمقاييس الدنيا والمال والمادّة، في حين أنّ الهاشميين يتّسمون بالجانب المعنوي والديني والأخلاقي بشكل واضح وجلي، ومن الواضح أنّ الجانب المادي والدنيوي لا يجتمع مع الجانب المعنوي والأخروي إلّا أن يقدّم المعنوي على المادّي، والأخروي على الدنيوي. وقد يكون المؤثِّر لكلٍّ من الفريقين هو الجانب المهني، وقد اعتمد على هذا بعض من الكتَّاب كمحمود العقّاد في كتابه (أبو الشهداء)، وكذلك طه حسين، وغيرهما، إذ لو رجعنا إلى طبيعة المهن والأعمال التي كان يقوم بها الفريقان فإنّنا نجد المغايرة الواضحة في كون أحدهما تقوده وظيفته في التمسّك بالجانب الدنيوي والمادي، والآخر في الجانب الأخروي والمعنوي.
فالأمويّون كانت تجارتهم قائمة على المعاملات الربويّة، والمعاملة الربويّة قائمة على أساس استغلال الآخرين وظلمهم وسلب حقوقهم، فهي معاملة تجاريّة يشوبها الظلم والقهر والاستغلال وابتزاز أموال الناس. بالإضافة إلى أنّ قريش قد عهدت إلى بني أميّة وظيفة الحرب وسفك الدماء وإن كان بغيا؛ ذلك أنّها كانت تقوم على البغي والاعتداء. ولا ينبغي إغفال أنّ الحياة التي عاشها الأمويّون هي حياة الخمر والرقص والمجون والليالي الحمراء والمتاجرة بكلّ ما هو غير مشـروع وبأي شكل من الأشكال، فكلّ هذه العوامل جعلت من هذه العائلة أو القبيلة تعيش منغمسة بالانتهازيّة والوصول إلى الأهداف بأقصر الطرق وإن كانت غير مشروعة، بل ولم تكن تعتمد الطرق المشروعة أصلاً.
وأمّا الهاشميون فكان عملهم سقاية الحاجّ وإطعامه، وسدانة الكعبة، وعمارة المسجد الحرام، وتوفير سبل الراحة للحاجّ والزائر، وغيرها من الأعمال في ذات المجال. وكلّ هذه الأعمال والوظائف دينيّة غالباً؛ وقد كان الهاشميون يفتخرون على قريش بهذه الوظائف ويأنسون بها.
وقد جرت محاورة تفاخر بين العباس بن عبدالمطلب وطلحة بن أبي طلحة، وذلك أنَّ أمير المؤمنين (عليه السَّلام) دخل على العباس بن عبدالمطلب وطلحة بن شيبة، فقال طلحة: أنا صاحب البيت، بيدي مفاتحه، ولو أشاء بتُّ في المسجد؛ فأنا أفضل من علي. وقال العباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها، ولو أشاء بتُّ في المسجد؛ فأنا أفضل من علي، فقال (عليه السَّلام): "ما أدري ما تقولان، لقد صلَّيت ستّة أشهر قبل الناس، وأنا أحبّ الجهاد". وفي رواية أنَّه (عليه السَّلام) قال: "لكنَّني أسلمت وآمنت بالله ورسوله وجاهدت في سبيل الله قبلكما، فلي في ذلك الحظُّ ما ليس لكما، وقد ضربتكما بالسيف على خياشيمكما حتى دخلتما في دين الله"، فأنزل الله تعال قوله: ﴿۞ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ ۚ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ ۗ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (التوبة: 19).
فالوظائف التي كانت عند بني هاشم كانت وظائف روحيّة أخرويّة تحمل جانباً أخلاقيا، وهي على خلاف الوظائف التي يزاولها الأمويّون، والتي بنيت على أساس الاستغلال والماديّة والانتهازيّة والدنيويّة.
إذاً؛ بناء على هذه النظريّة فإنَّ النزاع والعداء بين الهاشميين والأمويين هو نزاع جاهلي مبني على التناقض بين الطبائع والأمزجة، ولا يعدو كونه نزاعاً عائلياً قبلياً عشائرياً.
النَّظريّة الثَّانية: نظريّة التَّوأم ودم الفصل
تنصّ هذه النظريّة على أنَّ دوافع معركة كربلاء تعود إلى النزاع المستحكم بين القبلتين منذ زمن الجاهليّة، وأصحاب هذه النظريّة يفترضون أنَّ العداء والحقد مبني على أسطورة أنَّ هاشماً وعبد شمس ولدا من بطن واحدة، وكانا ملتصقين مع بعضهما؛ فخرج هاشم وتلاه عبد شمس، إلا أنَّ عبد شمس ملتصق بهاشم، فلمَّا أرادوا تفريقهما لم يتمكّنوا؛ فعمدوا إلى سيف وقطعوهما من منطقة الالتصاق ويقال إنّها العقب أو الجبهة، وبهذا فرَّقوا بينهما، وكان هناك أعرابي واقف، فقال: إنَّ هذا السيف سيكون سمة لهما إلى النِّهاية، وأنَّه أوَّل دم سال بينهما، وليخرجن بين ولد هذين من التقاطع ما لم يكن بين أحد سواهم.
وكيف لك أن تطمئن لمن يسـرد مثل هذا الخرافة وإن ذكرتها كتب التاريخ، وليست هذه الخرافة الوحيدة التي ذكرت في التاريخ، فالأساطير والخرافات ذكرت في كتب التاريخ بما لا يدع لمن يقرأ كتب التاريخ أيّ مجال للشَّك في كونها خرافة وأسطورة من أساطير الزمن، والعجب ممَّن يعتقد بهكذا أساطير ويقيمها مقام الحقيقة الواقعية متغافلاً استصعاب واستنكار العقل البشري لها.
النَّظريَّة الثَّالثة: نظريّة الخلاف الشَّخصي بين الحسين (عليه السَّلام) ويزيد
تقرِّر هذه النظريَّة أنَّ سبب وقوع واقعة كربلاء هو خلاف شخصي بين الحسين بن علي (عليه السَّلام) ويزيد بن معاوية على امرأة يقال لها أُرينب، ذلك أنَّ معاوية بن أبي سفيان بلغه -عن طريق وصيف له- عشقَ يزيد وهيامه بأُرينب بنت إسحاق، وكانت مضـرب مثـل للجمـال فـي زمـانهـا -وكانت تحت عمّها عبدالله بن سلام القريشي وكان له منزلة عند معاوية وقد استعمله على العراق- امتلأ معاوية غمّاً وهمّاً بأمر يزيد، فأخذ يفكِّر في الحيلة والنظر فيما يجمع بينهما حتى يرضى يزيد، فاستدعى زوجها من العراق يبشِّره بأمر له فيه حظٌّ وافر وعظيم، وقد أنزله منزلاً حسناً طيّباً، فدعا أبا هريرة وأبا الدرداء -وكانا في الشام- فقال لهما: إنّي قد بلغت لي ابنة أريد نكاحها ليقتدى بي من بعدي، وإنّي أخاف أن يعضل الأمر بعدي نساءهم، وقد رضيت لها عبد الله بن سلام لدينه وفضله وأدبه فاذكرا ذلك عنِّي، وإنِّي كنت جعلت لها الشورى في نفسها غير أنّي أرجو ألا تخرج من رأيي.
فخرجا إلى عبدالله بن سلام وأعلماه بما قاله معاوية فسـرَّ به وفرح، وحمد الله ودعا لمعاوية، ثمَّ بعثهما إلى معاوية خاطبين له.
فلما قدما قال لهما معاوية: إنَّكما تعلمان رضاي بذلك فادخلا عليها وأعرضا عليها ما رضيت لها. فدخلا وأعلماها بكلِّ ما جرى، وكان معاوية قد لقَّنها ما يريد أن تجيب به، فقالت: عبد الله بن سلام كفء كريم وقريب حميم، غير أنَّ تحته أُرينب بنت إسحاق، وأنا خائفة أن تعرض لي غيرة النساء فأتولى منه ما يسخط الله، ولست بفاعلة حتى يفارقها. فأخبرا عبد الله بن سلام بالأمر ففارق زوجته وأشهدهما على طلاقها، فأظهر معاوية كراهيته في طلاقها، وقال: لا أستحسنه ولو صبر ولم يعجل كان أمره إلى مصيره، فانصرفا في عافية ثمَّ عودا لتأخذا رضاها.
ثمَّ أخبر يزيد بما كان من طلاق أُرينب، ثمَّ عادا إلى معاوية فأمرهما بالدخول إليها ليسألاها فدخلا عليها وأعلماها بطلاق أُرينب؛ طلبا لمسـرَّتها.
فقالت: إنَّه في قريش لرفيع، وإنَّ الزواج هزله جدّ، والأناة في الأمور أوفق، وإنّي سائلة عنه حتى أعرف دخيلة خبره، ومستخبرة فيه ومعلمتكما بخيرة الله.
ثمَّ انصرفا وأعلما عبد الله بن سلام بالخبر. ثمَّ استحثَّهما عبد الله بن سلام، وسألهما الفراغ من أمره، فأتياها فقالت لهما: إنِّي سألت عن أمره فوجدته غير ملائم لي، ولا موافق لما أريد لنفسي.
فعلم عبد الله أنَّه قد خُدع، فقال معزيّاً: ليس لأمر الله رادّ. ولام الناسُ معاويةَ على خديعته وجرأته على الله، ولمَّا انقضت أقراؤها وجَّه معاوية أبا الدرداء إلى العراق خاطباً لها على ابنه يزيد، فخرج حتى قدمها وبها يومئذٍ الإمام الحسين (عليه السَّلام)، فقدّم أبو الدرداء زيارة الحسين (عليه السَّلام) والتسليم عليه على مهمَّته، فرحب (عليه السَّلام) به، وأخبر أبو الدرداء بمهمَّته، فقال (عليه السَّلام): "لقد ذكرت نكاحها فلم يمنعني إلا تخيّر مثلك، فاخطبها عليّ وعليه، وأعطها من المهر ما أعطاها معاوية عن ابنه".
فلمَّا دخل عليها أبو الدرداء قال لها: قد خطبك أمير هذه الأمَّة وابن الملك ووليّ عهده يزيد بن معاوية، وابن بنت رسول الله الحسين بن علي (عليه السَّلام)، فاختاري أيَّهما شئتِ.
فسكتت طويلاً ثمَّ فوّضت أمرها إليه، فقال: أي بنيّة، ابن بنت رسول الله أحبُّ إليَّ وأرضاهما عندي. فتزوَّجها الحسين (عليه السَّلام)، وساق لها مهراً عظيما.
وبلغ معاوية ما فعل أبو الدرداء فتعاظمه جدّاً، وقال: من يرسل ذا بلاهة وعمى يركب خلاف ما يهوى، ورأيي كان من رأيه أسوأ، ولقد كنَّا بالملامة أولى.
وكان عبد الله بن سلام قد استودعها قبل فراقه بدرات مملوءة درّاً هو أعظم ماله وأحبّه إليه، وكان معاوية قد جفاه وقطع جميع روافده لتهمته إياه بالخديعة، ولم يزل يقصيه حتى عيل صبره وقلَّ ما في يده، فخرج راجعاً إلى العراق يذكر ماله الذي استودعه عند أُرينب ولا يدري كيف يصنع، ويتوقَّع جحودها؛ لطلاقه إياها من غير شيء أنكره منها ونقمه عليها، فلمَّا قدم لقي الإمام الحسين (عليه السَّلام) وسلّم عليه، وقال: قد علمت جعلت فداك ما كان من قضاء الله في طلاق أُرينب، وكنت استودعتها مالاً عظيما درّاً، فذكّرها أمري، واحضضها على الردّ؛ فإنَّ الله تعالى يحسن إليك.
فلمَّا انصـرف (عليه السَّلام) إليها قال لها: "قد قدم عبد الله بن سلام وهو يثني عليك، ويذكر أنَّه استودعك مالا، فأدِّ إليه ماله". فقالت: صدق، وإنَّه لمطبوع عليه بطابعه. ثمَّ لقي (عليه السَّلام) ابن سلام فقال: "ما أنكرَت، وزعمت أن لكَ ما دفعتها لها بطابعك". ثمَّ دخل (عليه السَّلام) وقال: "هذا عبد الله يطلب وديعته، فأدّيها إليه". فأخرجت البدرات فوضعتها بين يديه. ثمَّ قال الحسين (عليه السَّلام): "أُشهد الله أنها طالق، اللهمَّ إنَّك تعلم أنَّي لم أتزوَّجها لمال ولا لجمال، ولكن أردت حبسها لبعلها، وأرجو ثوابك على ذلك"، فتزوَّجها عبد الله بن سلام.
ولأجل ما ذكر في هذه القضيَّة فإنَّ يزيد بن معاوية أخذه الحقد على الإمام الحسين بن علي (عليه السَّلام) بما فعله بشأن أُرينب بنت إسحاق.
ومن الغريب استحسان مثل هذه الرواية وقبولها عن الإمام الحسين (عليه السَّلام)، إذ من غير المقبول أن يصدّق هذا الفعل على الإمام الحسين (عليه السَّلام) والذي عرف عنه أنّه بعيد كلّ البعد عن مثل هذه التصـرّفات وهو موضع تنزيه عنها، على أنّ معاوية في موقع كان بإمكانه إجبار عبد الله بن سلام بطلاق أُرينب من دون هذه المساجلة والمماطلة الطويلة والتحليق الممل، وليس هو بحاجة إلى أن يحتال على الرجل، وقد ذكر غير واحد من العلماء أنَّ معاوية قد أجبر أحد عماله على ترك زوجته لكي يزوجها من نفسه، فكان بمقدوره أن يفعل ذلك جبراً! ثمَّ إنَّه ليس من شأن هذه الحادثة أن تسبِّب العداوة التي تراق الدماء لأجلها، وأن تسبى نساء أو تقطع الرؤوس أو ما شابه، فالحسين (عليه السَّلام) أكبر من أن يريق دمه ودماء من معه ويعرّض أهله للتشريد والسبي من أجل خلاف حول امرأة أحبّها يزيد بن معاوية، فتأمَّل!
فلا نظريّة اختلاف الطبائع بين الهاشميين والأمويين، ولا نظريّة الدم المراق، ولا نظريّة الخلاف الشخصـي بين الحسين (عليه السَّلام) ويزيد تصلح أن تكون هي الدوافع التي دفعت لحدوث واقعة الطف، مع العلم بأنّ هناك نظريّات أخرى حول الدوافع التي من أجلها حدثت واقعة الطف، ولكلّ واحدة من هذه النظريات ردود ودفوعات، نعرض عنها منعاً للإطالة.
الدَّافع الحقيقي للنَّهضة الحسينيَّة
وأمَّا الدَّافع الواضح الذي كان سبب حدوث واقعة الطف وبروز النهضة الحسينيّة هو الانتصار لإحقاق الحقِّ وإحياء الدين وقيمه، والمراهنة على تحقيق الإصلاح والالتزام بالمواثيق الإلهيّة، والعودة إلى إحياء السنّة النبويّة في إدارة المجتمع والحياة الإنسانيّة، وقد مثل الحسين (عليه السَّلام) جانب الحق والفضيلة في ذلك مقابل الجانب الآخر المتمثّل للباطل والرذيلة.
وقد أظهر الحسين (عليه السَّلام) دوافعه في الوصيّة التي كتبها إلى أخيه محمّد بن الحنفية: "وأنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الاصلاح في أمّة جدي (صلَّى الله عليه وآله)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسيرُ بسيرة جدي وأبي علي ابن أبي طالب (عليه السَّلام) فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحـق، ومن ردَّ عليَّ هذا أصبر حتى يقضـي الله بيني وبين القـوم بالحق، وهو خير الحاكمين".
والحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ على محمَّد وآلِه الطَّيبين الطَّاهرين.