بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
روايةٌ ورؤية.. عنوان بعثنا إليه أحد أساتذتنا (حفظه الله) منذ سنوات، وسعينا - من حينها - بتفعيله تفعيلاً يندغمُ وقراءاتِنا لحديث أهل البيت (عليهم السَّلام)، وما دوَّنتُه - هنا - بين أيديكم هي من أواخر رشحات هذا النَّهج، فأسأل الله سبحانه لي ولكم المنفعة والبصيرة في استكناه حديثهم (عليهم السَّلام)، فإنَّ حديثهم نور، وأمرهم رشد.
بدءًا أذكر الحديث الشَّريف، وأعقِّبُه ببعض الرُّؤى والتأمُّلات التي خلصت معي فترة مناجاتي ومناغاتي له في وقتٍ من الأوقات، ذاكرًا لها بنحوٍ لا توسَّع كثير فيه، ولا إطناب في تعابيره إلاَّ بما يوافق مقتضى المقام، وبالله النَّجاح والتَّوفيق.
يروي ثقةُ الإسلام الكليني (رضي الله عنه) عن عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ: أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَاشْتِقَاقِهَا: اللَّهُ مِمَّا هُوَ مُشْتَقٌّ؟
قَالَ: فَقَالَ لِي: «يَا هِشَامُ، اللَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ إِلهٍ، وَالْإِلهُ يَقْتَضِي مَأْلُوهاً، وَالِاسْمُ غَيْرُ الْمُسَمّى، فَمَنْ عَبَدَ الِاسْمَ دُونَ المَعْنى، فَقَدْ كَفَرَ وَلَمْ يَعْبُدْ شَيْئًا؛ وَمَنْ عَبَدَ الِاسْمَ وَالْمَعْنى، فَقَدْ كَفَرَ وَعَبَدَ اثْنَيْنِ؛ وَمَنْ عَبَدَ الْمَعْنى دُونَ الِاسْمِ، فَذَاكَ التَّوْحِيدُ، أَفَهِمْتَ يَا هِشَامُ؟».
قَالَ: فَقُلْتُ: زِدْنِي، قَالَ: «لِلّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْماً، فَلَوْ كَانَ الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى، لَكَانَ كُلُّ اسْمٍ مِنْهَا إِلهاً، وَلكِنَّ اللَّهَ مَعْنىً يُدَلُّ عَلَيْهِ بِهذِهِ الْأَسْمَاءِ وَكُلُّهَا غَيْرُهُ؛ يَا هِشَامُ، الْخُبْزُ اسْمٌ لِلْمَأْكُولِ، وَالْمَاءُ اسْمٌ لِلْمَشْرُوبِ، وَالثَّوْبُ اسْمٌ لِلْمَلْبُوسِ، وَالنَّارُ اسْمٌ لِلْمُحْرِقِ، أَفَهِمْتَ يَا هِشَامُ، فَهْماً تَدْفَعُ بِهِ وَتُنَاضِلُ بِهِ أَعْدَاءَنَا وَالْمُتَّخِذِينَ مَعَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - غَيْرَهُ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَقَالَ: «نَفَعَكَ اللَّهُ بِهِ، وَثَبَّتَكَ يَا هِشَامُ».
قَالَ هِشَامٌ: فَوَاللَّهِ، مَا قَهَرَنِي أَحَدٌ فِي التَّوْحِيدِ حَتّى قُمْتُ مَقَامِي هذَا.[1]
الرُّؤية الأولى: ضرورة السُّؤال في العقيدة، بل إكثار الاستيضاح
طلبُ العلم -بوجهٍ عامٍّ- له عِدَّةُ سُبُل، ومن أجلاها طلبُه من الشَّيخ العالِم، ومن السُّبُل: طلبُه في الكُتُب والصُّحُف، ولكنَّ هذه الطَّريقة كانت سُبَّةً عند العرب، ومن هنا قيل قديمًا: "لا تأخذِ القرآنَ من مُصحفيّ، ولا العلمَ من صُحُفِيّ"، وقيل كذلك: "مَن كان شيخُه كتابَه، كان خطأُه أكثرَ من صوابِه". بل ورد على صعيد الأحاديث الشَّريفة كذلك؛ ففي الكافي الشَّريف يروي الكُلينيُّ حديثًا يُتَّهم فيه الإمام الصَّادقُ (عليه السَّلام) بكونه صُحُفِيًّا[2].
ووجه هذه السُّبَّة: أنَّ المقتصِرَ في عِلمِه وفهمه على رُسُوم الكلمات المنقوشة على الصُّحُف يقعُ في كثيرٍ من المتاهات، حتى لو كانت الكلماتُ المكتوبةُ من شأنها أن تقذفَ بالنُّور في قلبه، ولكنْ خلوُّها من العالِم الـمُعلِّم والموضِّح يُفقدها جوهَرَها في كثيرٍ من المواطن، ولذلك يُختلَف في فهم القرآن الكريم، مع الإقرار من الجميع بقرارة رَسمه وتنزيلِه، من ثمَّ نفهم حديثَ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) - ونظائره -: «إنَّ منكم من يقاتلُ على تأويل القرآن كما قاتلتُ على تنزيله»[3].
وعلمُ العقيدة -مضافًا لما يتفرَّعُ عنه من الكلامِ والفلسفة- يلزمُ أن يُؤخذَ من العالِم الثِّقة المأمون، فطبيعتُه تأبى أن تُقبل بمجرَّد الكلمات الـمُحبَّرة على القراطيس والصُّحُف.
وهذا ما نفيدُهُ -في خصوص هذه المسألة المِحوريَّة- أوَّلاً من لجوء هشام بن الحكم (عليه الرَّحمةُ والرِّضوان) إلى طلب علمِها من الإمام الصَّادق (عليه السَّلام).
وثانيًا: لـمَّا سأله الإمامُ (عليه السَّلام) قائلاً: «أَفَهِمْتَ يَا هِشَامُ؟»، لم يكابرْ أو يجامِل في مثل هذا الموطن، بل كان لابُدَّ من الوقوف التَّام على أطراف وحدود هذه المباحث، ففي الحديث الشَّريف عن أبي عبد الله الصَّادق (عليه السَّلام) أنَّه قال: «مَنْ رَقَّ وَجْهُهُ، رَقَّ عِلْمُهُ»[4]، ويذيِّلُ غوَّاص البحار في مرآته هذا الحديث قائلاً: "والمراد برقّة الوجه الاستحياءُ عن السُّؤالِ وطلبِ العلم، وهو مذمومٌ؛ فإنّه لا حياءَ في طلب العلم ولا في إظهار الحقّ، وإنّما الحياءُ عن الأمر القبيح؛ قال اللَّه تعالى: ﴿وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾[5]. ورِقَّةُ العلم كنايةٌ عن قلّته"[6]، من هنا نرى هشامًا يقولُ بملئ الفم: "زِدْنِي".
الرُّؤية الثَّانية: ضرورة وجود الخلفيَّة الكلاميَّة والفلسفيَّة والعلميَّة لمثل المورد
لا يخفى على ذي لُبٍّ -وخصوصًا في زماننا هذا- بأنَّ العِلم الذي بثَّه الإمامُ (عليه السَّلام) في قلب هشام، لو لم تتهيَّأ له التُّربة المناسبةُ له لما كان نافعًا، فالتَّجريدُ والتَّحليلُ[7] الذي ينتهجُه الإمامُ (عليه السَّلام) مع هشامٍ قد لا نجدُ عمقَه في كثيرٍ من روايات الأئمة (عليهم السَّلام)؛ وذلك لأنَّ هشامًا قد انطوى على كثيرٍ من المقدِّمات الفلسفيَّة والكلاميَّة التي تسوِّغُ له العبور من هذه الألفاظ المقتضبة إلى ما شاء الله من المباحث والقواعد العَقَديَّة، بحيثُ لو قرأها غيرُه من العوامِّ -وحتَّى بعض الأصحاب الذين لم يبلغوا لما بلغ له هشام- لَعدُّوا ذلك الحديثَ ضَرْبًا من الكناية والتَّلغيز!.
هذه الكلمات القِصار يَصِفُها الإمام (عليه السَّلام) -من جهةِ أنَّ المتلقِّي هو هشامٌ- بأنَّها: «تَدْفَعُ بِهِ وَتُنَاضِلُ بِهِ أَعْدَاءَنَا وَالْمُتَّخِذِينَ مَعَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - غَيْرَهُ»، فهي إذن كافيةٌ شافية، ولكن ليست للجميع، بل لمثل هشامٍ.
الرُّؤية الثَّالثة: تخصيص واختصاص البعض بالمنهج الكلاميِّ دون آخَرين
مما نفيدُه من أفياء وأظلَّة هذا الحديث الشَّريف هو تخصيص الإمام (عليه السَّلام) لبعض أصحابه بانتهاج نهج الكلام العَقَديّ مع مختلف المِلل والنِّحَل، فليس الكُلُّ صالحًا لهذه الطَّريقة، فقد ورد عن أبي خالد الكابليّ أنَّه قال: "رَأَيتُ أبا جَعفَر صاحِبَ الطّاقِ، وهُوَ قاعِدٌ فِي الرَّوضَةِ قَد قَطَعَ أهلُ المَدينَةِ أزرارَهُ، وهُوَ دائِبٌ يُجيبُهُم ويَسأَلونَهُ، فَدَنَوتُ مِنهُ، فَقُلتُ: إنَّ أبا عَبدِ اللهِ (عليه السلام) نَهانا عَنِ الكَلامِ، فَقالَ: أمَرَكَ تَقولُ لي؟ فَقُلتُ: لا، ولكِنَّهُ أمَرَني ألاّ أُكَلِّمَ أحَداً، قالَ: فَاذهَب فَأَطِعهُ في ما أمَرَكَ.
فَدَخَلتُ عَلى أبي عَبدِ اللهِ (عليه السلام) فَأَخبَرتُهُ بِقِصَّةِ صاحِبِ الطّاقِ وما قُلتُ لَهُ وقَولِهِ لي: "اِذهَب وأطِعهُ في ما أمَرَكَ".
فَتَبَسَّمَ أبو عَبدِ اللهِ (عليه السلام) وقالَ: «يا أبا خالِد، إنَّ صاحِبَ الطّاقِ يُكَلِّمُ النّاسَ فَيَطيرُ ويَنقَضُّ، وأنتَ إن قَصّوكَ لَن تَطيرَ»[8]!.
ومثلُ هذه الرِّواية نظائر.
ويتبدَّى لنا هذا الأمرُ -في خصوص هذه الرِّواية- من تعدِّي الإمام (عليه السَّلام) من مرحلة الإجابة المقتضبة على حدود السؤال، إلى الحثِّ والدَّفع نحو تهيئة وصياغة عقليَّات -كهشامٍ- للمدافعة عن حريم الدِّين والعقيدة المُحِقَّة، فإنَّ هشامًا كان سؤاله يقتصر على: "اللَّهُ مِمَّا هُوَ مُشْتَقٌّ؟".
الرُّؤية الرَّابعة: التَّأسيس العقليّ والعلميّ، والتَّمثيل المبيِّن تمامًا
في واقع الأمر، لو أنعمنا النَّظر في منطوق السُّؤال لرأيناه منكفئًا على الإجابة: «اللَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ إِلهٍ»، ولكنَّ الإمام (عليه السَّلام) حلَّق بذهنيَّة تلميذه إلى مسافةٍ أعلى، وهبه الأصل وشيئًا من فروعه، وتعدَّى من السُّؤال إلى ما هو أولى بالسَّائل، وهو ما يُعرَف عند أرباب البيان بالأسلوب الحكيم أو أسلوب الحكيم؛ فإنَّ الأجدر بهشام أن يوسِّع سؤاله؛ لأنَّه في مرحلةٍ صياغيَّةٍ للدِّفاع عن دين آل محمَّدٍ (عليهم السَّلام) بكلِّ وسيلةٍ مُحِقَّة، ومن هنا نرى الإمام (عليه السَّلام) يأتي بالتَّقسيمات العقليَّة الحاصرة، ويعدِّدُ الأمثلة لبيان جوهر المطلب، كلُّ ذلك في سبيل أن يفهِّم تلميذه فهمًا «تَدْفَعُ بِهِ وَتُنَاضِلُ بِهِ أَعْدَاءَنَا وَالْمُتَّخِذِينَ مَعَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - غَيْرَهُ».
اللَّهُمَّ اجعل النور في بصرنا، والبصيرة في ديننا، وارزقنا لذَّة تلاوة آياتك وفقه شرائعك وفهم حديث أوليائك في أرضك، والحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله على سيِّد الخلق محمَّدٍ وآله الطَّاهرين.
أحمد نصيف
19 من شهر ذي الحجة لعام 1441هـ
بني جمرة - البحرين.
...............................
[1]. الكافي (دار الحديث)، ج ١، الشيخ الكليني، ص ٤٦٠.
[2] فقد روى محمد بن يعقوب الكليني عن أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْكُوفِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ التَّيْمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَتِّبٌ أَوْ غَيْرُهُ، قَالَ:
بَعَثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ إِلى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): يَقُولُ لَكَ أَبُو مُحَمَّدٍ: أَنَا أَشْجَعُ مِنْكَ، وَأَنَا أَسْخى مِنْكَ، وَأَنَا أَعْلَمُ مِنْكَ. فَقَالَ لِرَسُولِهِ: «أَمَّا الشَّجَاعَةُ، فَوَ اللَّهِ مَا كَانَ لَكَ مَوْقِفٌ يُعْرَفُ فِيهِ جُبْنُكَ مِنْ شَجَاعَتِكَ؛ وَأَمَّا السَّخَاءُ، فَهُوَ الَّذِي يَأْخُذُ الشَّيْءَ مِنْ جِهَتِهِ، فَيَضَعُهُ فِي حَقِّهِ؛ وَأَمَّا الْعِلْمُ، فَقَدْ أَعْتَقَ أَبُوكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَلْفَ مَمْلُوكٍ، فَسَمِّ لَنَا خَمْسَةً مِنْهُمْ وَأَنْتَ عَالِمٌ». فَعَادَ إِلَيْهِ فَأَعْلَمَهُ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: يَقُولُ لَكَ: أَنْتَ رَجُلٌ صُحُفِيٌّ. فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): «قُلْ لَهُ: إِي وَاللَّهِ، صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى وَرِثْتُهَا عَنْ آبَائِي (عَلَيْهِمُ السَّلَامُ)». [الكافي (دار الحديث)، ج ١٥، الشيخ الكليني، ص 800-٨٠١]، والشَّاهد: كونه يستنقص قدر الإمام (عليه السَّلام) بهذا الوصف، لا بيان حسن الوصف في واقع الإمام (عليه السَّلام) من سوئه، فتأمَّل.
[3] بحار الأنوار، ج ٣٢، العلامة المجلسي، ص ٣٠٢.
[4] الكافي (دار الحديث)، ج ٣، الشيخ الكليني، ص ٢٧٥.
[5] الأحزاب: 53
[6] مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج ٨، العلامة المجلسي، ص ١٩٣.
[7] يحسن جعل الحديث الشَّريف نصب العين عند قراءة هذه الرُّؤى؛ فهو أدعى لإبصارها بالوجدان، ومن ثمَّ التَّصديق بها.
[8] اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي)، ج ٢، الشيخ الطوسي، ص ٨.