الحَجُّ: قِيَمٌ وقِيٰام
مكتب العلّامة المهتدي في البحرين يعيد نشر بيان سماحته (دام ظلّه) للعام الماضي حول المعاني التي يحتوي عليها حجّ بيت الله الحرام:
- بيّناتٌ في الإمامة.
- وحِكَمٌ في الشعائر.
- وإصلاحٌ للنّفس.
- وبناءٌ للأمّة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
أمّا بعد:
فهنا أربعة محاور ثمّ خاتمة...
المحور الأوّل:
[بيّناتٌ في الإمامة]
حينما استجاب النبيُّ إبراهيم -على نبيّنا وآله وعليه السلام- لأمر الله تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) أسّس بذلك للأنبياء والأوصياءٍ من ذرّيته الطاهرة مسيرةَ حجٍّ سنويّةً متواصلةً إلى يوم القيامة: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).
هلّا سألنا أنفسنا: مَن هو المؤذِّن الإبراهيميّ للحجّ في زماننا؟
إنّه حفيدُ إبراهيم الخليل الإمام المهديّ.. الحاضر بيننا ونحن لا نراه بأعيننا التي أذنبنا بها.. هذا الإمام هو لا غيره أميرُ الحُجّاج مُذ غاب عن أعيننا وسَكَنَ قلوبَنا، وقد أبَتْ حكمةُ الله وعدلُه إلا أن يجعل لحجّ اللاحقين إمامًا كما جعل لحجّ السابقين إمامًا، لذلك قال: (وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). فكان أئمتُنا الإثنا عشر وجدُّهم خاتم الأنبياء محمّد (عليه وعليهم السلام) من الذرّية الإبراهيميّة الطاهرة التي استجاب الله فيها دعاءَ النبيّ إبراهيم هذا: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ثم قال عمّن يخالفهم: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ).
هذه البصيرة بالإضافة إلى كونها واحدةً من أدلّة وجود الإمام المهدي (أرواحنا فداه) فإنّها تدلّ على حضوره (عليه السلام) في حجّ كلّ عام أميرًا للحجّاج في مكانة أجداده الممتدّة صعودًا إلى إبراهيم الخليل.. وهذا ثابت لمن يفقه الآية نظرًا لضمير (الكاف) في كلمة (يَأْتُوكَ).. إذ لم تَقُل الآيةُ: يأتوا الكعبة أو يأتوا الحجّ.. كضمير (إلَيْهِم) في الآية: (فَاجْعَلْ أفئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إلَيْهِم) العائد إلى أمراء الحجّ من ذرّية النبيّ إبراهيم إلى حفيده النبيّ الأكرم وأوصيائه أهل بيته (عليه وعليهم السلام) ومن هنا نعتقد أنّ أجدادهم كانوا موحِّدين.. لأن الضمير (إلَيْهِم) يعود إلى ذوي الأرواح (العاقلة) وليس إلى الجمادات (غير العاقلة).
من هنا ورد أنّ الإمام الباقر (عليه السلام) نظر إلى النّاس يطوفون حول الكعبة، فقال: "هكَذا كَانُوا يَطُوفُونَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، إنَّما أُمِرُوا أنْ يَطُوفُوا بِها، ثُمَّ يَنفِرُوا إلَيْنا فَيُعْلِمُونا وَلايَتَهُم ومَوَدَّتَهُم، ويَعْرِضُوا عَلَيْنا نُصْرَتَهُم. ثُمَّ قَرَأَ هذِهِ الآيَةَ: (فَاجْعَلْ أفئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إلَيْهِم)".
فالإمامةُ لأهمّيتها الرُّكْـنـيّة حاضرةٌ في الحجّ.. ومعرفةُ الإمام فيه شرطُ كمالِه.. والحاجّ متى ما كان عميقًا في وعيه لهذه العقيدة قلبًا وعملًا فقد صار أقرب إلى ما قاله الإمام الباقر (عليه السلام): {تَمامُ الحَجّ فِي لِقَاءِ الإمَام}.. لقاءٌ بالبصر والبصيرة وهو المستوى الأعلى من كمال الحجّ وتمامه.. أو لقاءٌ بالبصيرة فقط...
المحور الثاني:
[حِكَمٌ في الشعائر]
تختزن الأحكامُ في الإسلام حِكَمًا ساميةً في بواطنها.. فكانت منها شعائرُ الله في الحجّ حيث تُشعِرُ الحاج الواعي لها بوجود أسرارٍ هي الأهداف منها ومقاصدها الإلهيّة.
لتوضيح هذا الأمر نتأمّل في مثاليْن:
الأوّل.. حُرْمة (الكعبة):
رُوِيَ أنّ النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) نظر إلى الكعبة فقال: {مَرْحَباً بِكِ مِنْ بَيْتٍ مَا أَعْظَمَكِ وَ مَا أَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَ اللَّهِ إِنَّ الْمُؤْمِنَ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ مِنْكِ وَاحِدَةً، وَ حَرَّمَ مِنَ الْمُؤْمِنِ ثَلَاثاً: دَمَهُ وَ مَالَهُ وَ أَنْ يُظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْء}.
فالغاية من الكعبة الحَجَريّة هي بلوغ درجة الالتزام بكرامة المؤمن وحقوقه في الحياة.
فواجب الحاج أن يستذكر هذا الهدف الكبير في تعامله مع المؤمنين على طول مسيرته.
الثاني.. شعيرة (الهَدْي):
ملايين الذبائح في عيد الأضحى يقدّمها الحجّاج وغير الحجّاج في بلدانهم.. ولكنْ أكثرُهم لا يفقهون المغزى منها وهو العبور بها إلى التقوى.. حيث الآية تقول: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنْكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ).
وهكذا كلّ الشعائر الإلهيّة إنّما هي الإطار الحقيقي لحقيقة التقوى الساكن في داخل القلب: (ذَٰلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ).
من هنا كان لابدّ للحاج أن يُشعِر نفسَه عند قطع رقبة الذبيحة (الهَدْي) أنّه سيقطع رقبة الطمع في نفسه باعتباره من الرذائل التي تدفع نحو رذائل أخرى والأخطر إذا كان الطمع في ظاهر التقوى!!
المحور الثالث:
[إصلاحٌ للنّفس]
عند هذا المعنى العميق لعلاقة الحجّ بالإمام والإمامة.. وعند فِقْه البصائر في العمل بالشعائر سيكون الحاجّ أقرب من غيره إلى هذه الآية: (ذلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيرٌ لَهُ عِندَ رَبِّه وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ).
هنا سيهتم الحاجُّ بإصلاح نفسه عبر تعظيمه حُرُمات الله واجتنابه الرّجس وقول الزّور.. تراه يتنقّل مِن مَنسَكٍ إلى منسك وهو عارفٌ بروح المناسك التي تبدأ من:
لبس الإحرام في الميقات...
ثم دخول مكّة إلى المسجد الحرام والطواف حول الكعبة والصلاة عند مقام إبراهيم...
ثم السّعي بين الصّفا والمروة والتقصير أو الحلق...
ثم الخروج إلى صحراء عرفات في يوم عرفة...
ثم المبيت في المشعر الحرام ليلًا وجَمْعِ الحصى هناك لرمي الجمرات ضُحىً...
ثم الزّحف صباحًا إلى أرض مِنىٰ للرّمي وذبْح الأضحية والحلق أو التقصير...
ثم الرجوع إلى مكّة للطواف...
ثم الرّجوع للرّمي في مِنىٰ والمبيت هناك...
ثم الرجوع إلى المسجد الحرام لطواف النّساء وصلاة الطواف.
فإذا تداخل أداءُ هذه المنظومة المَنْسَكيّة ممزوجًا مع وَعْي الحاج لمحور الإمامة ومحور البصائر ومحور إصلاح نفسه مستعينًا بالتفكّر في مضامين الأدعية الخاصّة بالمناسك وإشاراتِها المرتبطة بحِكَمِها الباطنيّة.. وأخذ يتفكّر أيضًا في الحكمة من المحرّمات الثمانية والعشرين التي حرّمها على نفسه عندما لبس الإحرام.. عندئذ سيكون قد مارس دورتَه المركَّزة في حجّ العارفين ممارسةً هادفة تجعله مؤهلًا لِلَـقَـب الحاجّ الحقيقي.
فمناسكُ الحجّ القوليّة منها والفعليّة محطّاتٌ هامّة لتقوية الإرادة في الانضباط والإصلاحِ ذهابًا إلى خَلْقِ واقعٍ جديد في حياته الفكريّة والسلوكيّة.
المحور الرابع:
[بناءٌ للأمّة]
وهو المقصد من هذه العبادة الجماعيّة ويتحقّق بإذن الله ولو نسبيًّا عندما يتخذ كلّ حاجّ من ملايين الحجّاج قرارَه في القيام بواجبات الإصلاح الذاتي المقرون بوعي شعائر الحجّ ومعرفة الإمام لأن الحاجّ يكون مُلزَمًا بهذه الآية أيضًا: (فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَاب).
ولمّا يواصل سيره مع بقيّة الحجّاج على ضوء هذه الآية: (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) فإنّه وغيره معه سيجدون منافعَ حجِّهم قد عمّتْ حياتَهم في المعنويّات والمادّيات بدليل هذه الآية: (لِّیَشۡهَدُوا۟ مَنَـٰفِعَ لَهُمۡ) فيكون حجُّهم بعدئذ قد تَحوَّل بالفعل إلى مشروع جماهيريّ كبير في بناء الأمة الواعدة.. وهنا تتجسّد هذه الآية: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ).
وهكذا يكون الحجّ قِيَمًا ويكون قيامًا لإصلاح الفرد نفسه وبناء أمّةٍ صالحةٍ داعيةٍ إلى الصلاح والإصلاح وحاميةٍ للمصلحين تحت راية الإمام المعصوم من آل محمد (صلوات الله عليه وعليهم أجمعين) ونوّابه المراجع العدول العاملين برعايته في زمن غيبته.
وفي الخاتمة:
أذكِّر الحجّاجَ الكرام بأهمّية الهَدايا المعنويّة التي يحتاجون إليها ويحتاج إليها أقاربُهم وأصدقاؤهم.. وهي:
أن يحملوا معهم قيمةَ الأمن الفكري والأمن النفسي والأمن العائلي والأمن المالي والأمن السياسي والأمن الاجتماعي التي تعلّموها في الحجّ الآمِن.. حيث قال الله: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً).
فإنّ الأمّة التي تخسر أمنَها هذا ستخسر دينَها وأخلاقَها وثرواتِها ومكانتَها أيضًا إذ ليس بعد خسارة أمنها إلا حروبُ الأحقاد والعداوات والعنف والعصبيّات كما هو الحال!!
فلا تذهبنّ عنكم دروسُ الحجّ أيّها المؤمنون وقد علّمكم الله فيها أن لا تقتلوا حشرةً صغيرةً وأنتم حُرُم وأن لا تسبّوا ولا تغتابوا ولا تسعوا للفساد.. إنّما لتتخرّجوا من هذه المدرسة الربّانية وأنتم تتقون الله في أنفسكم وفي الآخرين حيث لا مكان لقتل البريء أو ممارسة المحرّمات عند خرّيجي هذه المدرسة العظيمة التي حرّمتْ في مناسك الحجّ حتى الشهوات المحلَّلة بين الزوجين لِيقوّيَ فيهما الإرادةَ عند مواجهة الشهوات المحرَّمة واغراءات الدنيا الفانية...
هذه الانضباطيّة الرساليّة ونحن في زمن العولمة الجاهليّة ستكون من أفضل هدايا الحجّاج التي يقدّمونها إلى الذين ينتظرونهم في أوطانهم من بعد دورتهم التعليميّة المركَّزة في حجّ العارفين.
بهذه الهَدايا بدلًا عن الإفراط في شراء الهَدايا المادّية سيُساهم الحاجّ الواعي في تعميم ثقافة السّلم والمحبّة والرّفق والرّحمة التي تدرّب عليها في الحجّ فيعود بها إلى وطنه مساهمًا في بناء أمّته.. وهذا كلّه إنْ تمّ ولو بنسبةٍ جيّدة ستَهابُ الأممُ الأخرى أمّتَنا الإسلاميّة وتقف لها بإجلال وإكبار واحترام.. والأمّة تعني أفرادها ...
إنّ الحجّ بهذا الوعي التطبيقي هو الحجّ القِيَمي الذي أراده الإسلام لنا للقيام بها وإلا فهو لا يعدو أن يكون كما قال الإمام الصادق (عليه السلام) لمّا نظر إلى الطائفين حول البيت الحرام: {مَا أكْثَرَ الضَّجِيجَ و أقَلَّ الحَجِيجَ}.
أسأل الله تعالى لكل حاجٍّ وحاجّة عودةً سالمةً إلى سالمين وهم قد شَمَلَهم قولُ الإمام زين العابدين (عليه السلام): {الحَاجّ مَغْفُورٌ لَه وَمَوْجُوبٌ لَه الجَنّة ومُسْتأنَفٌ لَه العَمَل ومَحْفُوظٌ فِي أهلِه ومَالِه}.
وأخيرًا.. لا أنسى هنا أن أوصي الحجّاج الكرام بالدعاء لتعجيل فَرَجِ الإمام المهدي (روحي فداه).. فبظهوره الميمون سيُظهِر اللهُ دينَه على الدّين كلّه.. فترتاح البشريّة من معاناتها على أيدي الظالمين في العالَم كلّه.
و(ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِی هَدَانَا لِهَـٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهۡتَدِیَ لَوۡلَاۤ أَنۡ هَدَانَا ٱللَّهُ).
داعيكم الملتمس منكم الدعاء:
عبد العظيم المهتدي البحراني
٤/ذي الحجة/١٤٤٥
2024/6/11