حَدَّثنا محمَّد بن الحسن بن أحمدَ بن الوليد (رضي الله عنه)، قال: حَدَّثنا محمَّد بن الحسن الصفار، عن أحمدَ بن محمَّد بن عيسى، عن الحسن بن علي بن فضَّال، عن عاصم بن حميد، عن أبي عُبيدة الحذَّاء، عن أبي جعفرٍ (عليه السلام)، قال: إنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يقول: بجلالي وجمالي وبهائي وعُلائي وارتفاعي لا يُؤثِر عبدٌ هوايَ على هواهُ إلا جعلتُ غِناهُ في نفسه، وَهَمَّهُ في آخِرَتِه، وكَفَفْتُ عنه ضَيعَته، وضَمَّنتُ السماواتِ والأرضَ رزقَه، وكنتُ له من وراءِ تجارةِ كلِّ تاجر. [الصدوق، الخصال، باب الواحد، ح5].
تتحدثُ هذه الرواية الشريفة عن خمسة أمورٍ يجازي الله تعالى بها عبده في مقابل خصلةٍ واحدةٍ يؤديها له، أما الخصلةُ المطلوبة فهي أنْ يؤثرَ العبدُ هوى الله على هواه، وحيثُ إنَّه لا هوى له سبحانه كما هو للمخلوقين فالمُراد هنا إرادته، فالمطلوب أنْ يقدمَ العبدُ إرادةَ الله تعالى على هوى نفسه، واستعمال لفظ الهوى هنا من باب المُشاكَلَةِ بحسب الظاهر، وهو من قبيل قوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ واللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]. أما الخِصال الخمس التي يتحصَّل عليها العبدُ فيأتي الحديث عنها بشيءٍ من التفصيل.
يُلاحَظُ أنَّه تعالى أكَّد الخبرَ بسَبقِهِ بعدَّةِ أقسامٍ ببعضِ صفاته العظيمة، وهو الكمال المطلق الذي لا نقص فيه، حيث قال: "بجلالي وجمالي وبهائي وعلائي وارتفاعي"، والتأكيد إنَّما يُستعملُ عادةً لأجلِ رفعِ أيِّ تشكيكٍ قد يَعلَقُ بنفسِ المتلقي، وليتَ شعري كيفَ يحصلُ الشكُّ بعدَ هذه الأقسام العظيمة، بل كيفَ يشكُّ عاقلٌ بكلامٍ صادرٍ عن ربِّ العزَّةِ والجلال سواء أَقسَمَ أو لم يُقسِم؟!
بيان الرواية:
مع تأمُّل الخصلة المطلوبة من العبد نجد أنَّها كافيةٌ وافيةٌ لمنعِ المُلتزِمِ بها عن مخالفةِ أوامر الله تعالى ونواهيه، بضمِّ العِلمِ بإرادتِهِ ومشيئتِهِ تعالى إليها، حيثُ إنَّ العبدَ كلَّما أقبلَ على شيءٍ نظرَ فيه وعلمَ ما يوافق هواه وما يوافق إرادة الله عزَّ وجلَّ، فلو التزم حينها بتقديم إرادة الله على هواه فإنَّه ينجو لا محالةَ من الوقوع في المعصية. إذًا هذه الخصلة من الخصال الجامعة التي تغني العبدَ وتحقِّقُ له الطُمأنينة عندما يكون عالمًا بما يريدُ الله سبحانه وتعالى منه ويلتزم بها.
الجزاء بخمس خصال:
الأولى: (جعلتُ غناهُ في نفسه): من القضايا التي تشغلُ الإنسانَ وتُقلِقُهُ وتَقضُّ مضجَعَهُ قضيةُ الرزق المادي وما شاكله، فتراه يسعى للفرار من الفقر طلبًا للغنى، الأمر الذي يستهلكُ تفكيره وتركيزه وجهده ووقته، لكنَّه لو استغنتْ نفسُهُ لما عاشَ هذه الحالة ولاكتفى في الأعمِّ الأغلبِّ بما يرفع حاجته ويؤدي به للكفاف، لذلك كانت القناعةُ كنزًا لا يفنى، والخصلة الأولى التي يمنحها الله تعالى لعبده المُؤثِرِ لهواهُ هي هذه الخصلة، إذ يجعلُ الله سبحانه غنى هذا العبد في نفسه، والجعل مُشعرٌ لا أقلَّ بأنَّها مسألةٌ تكوينية، وبالتالي يرتفعُ القلقُ والاضطرابُ من نفس هذا العبد وتحلُّ الطُمأنينة والاستقرار فيها.
الثانية: وجعلتُ (هَمَّه في آخرته): تشغلُ بالَ الإنسان مجموعةٌ من الهموم، منها ما يتعلق بحاجاته المادية كما مر، ومنها ما يرتبط بعياله، وغير ذلك، مرة أخرى يتدخلُ الله عزَّ وجلَّ فيجعلُ همَّ هذا العبد في آخرته بدلًا عن الهموم الأخرى، وبالتالي يقربُ الله عبدَهُ منه ومن الصراط المستقيم، حيثُ إنَّ همَّه قد تحوَّل باتجاه الآخرة دون الدنيا ومتعلقاتها، ومن الواضح أنَّ هذه الخصلة من سِنخِ الخصلة التي يقدِّمُها العبد، فالذي يقدِّمُ هوى الله تعالى يُقرِّبُه الله ويجعل همَّهُ في الآخرة، أما الذي يقدِّم هوى نفسه فتجدُ همَّه غالبًا منصبًّا على دنياه، فيجري خلفَ ملذَّاتِها ومطامعها، من جمعِ مالٍ ووجاهةٍ ورئاسة، إلى أنْ تفترسَهُ هذه الدنيا الحقيرة.
الثالث: (وَكَفَفْتُ عنه ضَيعَتَه): الكفُّ في اللغة هو الجَمع، ولعلَّ المرادَ هنا هو أنَّ هذا الإنسان المعرَّض للضياعِ والشتاتِ -لا سِيَّما عن جادَّةِ الصوابِ في الدين- أنا أتكفَّلُ بجمعِ شتاته ولا أتركه للضياع. وقد يُقال إنَّه جمعٌ لمعيشته اجتماعيًا وماليًا على وجه الخصوص.
الرابع: (وضمَّنتُ السماواتِ والأرضَ رزقه): (ضمَّنت) قد تكون من الضمان، فيكون المعنى أنَّ اللهَ جعلَ السماواتِ والأرضَ ضامنةً لرزق العبد، وقد يكون بمعنى التضمين، أيْ جَعلِ شيءٍ في شيء، فيكون المعنى أنَّ الله جعلَ رزقَ العبدِ في السماوات والأرض، وقد يكون بهذا المعنى يُفيد تيسيرَ طريقِ تحصيلِ الرزق. وعلى كلا المعنيين يكون هذا نوعُ ضمانٍ من الله تعالى لرزق عبده، مما يُحقِّق الاطمئنان في نفسه ويرفع قلقَها تجاه تحصيل الرزق، فإنَّ من طبيعة الإنسان الخوفَ من عدم توفُّرِ رزقه مما يُقلقه ويجعله متوترًا، ولا يرتفع ذلك إلا بالطُمأنينة التي يبعثها الله تعالى في نفسه.
الخامس: (وكُنتُ له من وراءِ تجارةِ كلِّ تاجر): كلُّ مَن يُتاجرُ بأمواله يأملُ أنْ يحصلَ على أرباحٍ ماديةٍ -ومعنويةٍ أحيانًا- من خلال مُتاجَرَتِهِ بأمواله، فيصرفُ هذا التاجرُ رأسَ ماله في شراء بعض البضائع -مثلًا- ثم يبيعها طلبًا للربح، أما الذي يقدِّمُ هوى ربِّه فهو كالتاجرِ يطلبُ ربحًا من وراءِ تجارته، فيأتيه الجوابُ من ربِّه ليُطمئِنَهُ أنَّ ربحَهُ مضمون، إمَّا من خلال كونِ ربحِهِ هو الله تعالى، أو أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يكونُ له الضامنَ لربحِهِ من وراءِ هذه التجارة، وأيُّ ربحٍ أفضلُ وأجودُ وأعظمُ من نيلِ ثوابِ الله تعالى ورضاه؟!
قال الشيخ على أكبر الغفاري في حاشية تحقيقه لكتاب الخصال تعليقًا على هذه الكلمة: "أي كنتُ له عِوضًا من تجارة كلِّ تاجر، فإنَّ كلَّ تاجرٍ يتَّجِر لمنفعةٍ دنيويةٍ أو أُخرويةٍ ولمَّا أَعرَضَ عن جميع ذلك كنتُ أنا ربحُ تجارته، أو كنتُ له بعدَ حصولِ تجارةِ كلِّ تاجر".
ربَّما يَجمعُ الكلامَ أنَّ الله عزَّ وجلَّ يُكافئ مَن يُؤثِر هواه على هوى نفسه بأنْ يجعلَ له هذه الخصال التي تحقِّقُ له الطُمأنينة في نفسه، وتجعل همَّه وعزمه في الاتجاه الصحيح، فلا يعود قَلِقًا على رزقه وحالته الاجتماعية وتجارته وغير ذلك، وبالتالي لو تحقَّق كلُّ ذلك لعبدٍ لكانَ أقربَ ما يكونُ من الله سبحانه وتعالى، وأقربَ ما يكونُ من نيلِ رضاهُ وثوابه، والله العالم.
محمود سهلان العكراوي
الاثنين 10 ذو الحجة 1445هـ
الموافق 17 يونيو 2024م