بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
مَسْعَدَةَ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) إِيَّاكُمْ ونِكَاحَ الزِّنْجِ فَإِنَّه خَلْقٌ مُشَوَّه"[1].
زعم البعضُ أنَّ الرواية تنهى عن التزوُّج من ذوي البشرة السوداء وهو ما يدلُّ على عنصريَّة الشيعة بزعمه، فما هو ردُّكم؟
الجواب:
هذه الرواية كما وردت في طرقنا كذلك ورد ما يقربُ منها في طرق العامَّة كما في سنن الدارقطني بسنده عن عائشة قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أنكحوا إلى الأكفاء، وأنكحوهم، واختاروا لنطفكم، وإياكم والزنج، فإنَّه خلقٌ مشوَّه"[2] هذا أولاً.
وثانياً: إنَّ الرواية -على فرض صدورها -ليست ظاهرةً في أنَّ منشأ الإرشاد بعدم مناكحة الزنج هو سوادُ بشرتِهم، بل المُحرَز أنَّ ذلك ليس هو المنشأ بقرينة أنَّ سواد البشرة لا يختصُّ بالزنج، فثمة الكثيرُ من الشعوب -كالنوبة والأحباش والزط وغيرهم كثير- يتَّسمون بسواد البشرة، فلو كان سوادُ البشرة هو ما نشأ عنه النهي عن مناكحة الزنج لكان المناسب هو التعبير بمثل إيَّاكم ومناكحة السودان أو ذوي البشرةِ السوداء.
وثالثا: إنَّ معنى ما ورد في الرواية من أنَّ الزنج خلقٌ مشوَّه لا يتعيَّن في إرادة الدمامة وقبح الصورة، فقد يكون المراد منه اختلال في الطبيعة والسليقة، فليس من المُحرَز أنَّ كلمة "خلق" مفتوحة الخاء فلعلَّها مضمومة، إذ لم تصل الروايةُ إلينا مضبوطةَ الحركات، فلو كانت الخاء مضمومة فإنَّ مدلول الكلمة يكون متَّصلاً بالصفات النفسانية، فالخُلق من الخليقة وهي الطبيعة والسليقة والسجيَّة كما يذكر اللغويُّون[3] ويُؤيِّد هذه القراءة تخصيص النهي بأهل الزنج رغم أنَّ الكثير من الشعوب يشتركون معهم في الصورة وسواد البشرة.
وكذلك يمكن تأييد أنَّ المراد من كلمة "خلق مشوَّه" هو الخلقية والطبيعة غير السويَّة ما ورد عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: لَا تُنَاكِحُوا الزِّنْجَ والْخَزَرَ -الخوز- فَإِنَّ لَهُمْ أَرْحَاماً تَدُلُّ عَلَى غَيْرِ الْوَفَاءِ"[4].
فإنَّ تعليل النهي -الوارد في الرواية عن مناكحة الزنج- يتَّصل بصفة من صفات النفس، على أنَّ عطف الخزر -الخوز- على الزنج يؤكِّد عدم إرادة الصورة فإنَّ الخزر والخوز ليسوا من ذوي البشرة السوداء كما أنَّ صورهم وقيافتهم لا تختلف في الحسن عن صور وقيافة العرب.
قرينة عامة:
على أنَّ ثمة قرينةً عامَّة تقتضي حمل رواية الخلق المشوَّه على عدم إرادة النهي عن المناكحة بسبب سواد البشرة أو قبح الصورة، هذه القرينة هو ما ثبت في السنَّة القطعيَّة من أنَّ المؤمن كفؤ المؤمنة[5] بقطع النظر عن لونه وعِرقه وصورته، فمِن ذلك ما أورده الكليني بسندٍ صحيح عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ الباقر (ع) إِذِ اسْتَأْذَنَ عَلَيْه رَجُلٌ فَأَذِنَ لَه فَدَخَلَ عَلَيْه فَسَلَّمَ فَرَحَّبَ بِه أَبُو جَعْفَرٍ (ع) وأَدْنَاه وسَائَلَه فَقَالَ الرَّجُلُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنِّي خَطَبْتُ إِلَى مَوْلَاكَ فُلَانِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ ابْنَتَه فُلَانَةَ فَرَدَّنِي ورَغِبَ عَنِّي وازْدَرَأَنِي لِدَمَامَتِي وحَاجَتِي وغُرْبَتِي، وقَدْ دَخَلَنِي مِنْ ذَلِكَ غَضَاضَةٌ هَجْمَةٌ غُضَّ لَهَا قَلْبِي تَمَنَّيْتُ عِنْدَهَا الْمَوْتَ، فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (ع): اذْهَبْ فَأَنْتَ رَسُولِي إِلَيْه وقُلْ لَه يَقُولُ لَكَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (ع): زَوِّجْ مُنْجِحَ بْنَ رَبَاحٍ مَوْلَايَ ابْنَتَكَ فُلَانَةَ ولَا تَرُدَّه.
قَالَ أَبُو حَمْزَةَ: فَوَثَبَ الرَّجُلُ فَرِحاً مُسْرِعاً بِرِسَالَةِ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) فَلَمَّا أَنْ تَوَارَى الرَّجُلُ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (ع): إِنَّ رَجُلاً كَانَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَامَةِ يُقَالُ لَه جُوَيْبِرٌ أَتَى رَسُولَ اللَّه (ص) مُنْتَجِعاً لِلإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ وحَسُنَ إِسْلَامُه وكَانَ رَجُلاً قَصِيراً دَمِيماً مُحْتَاجاً عَارِياً، وكَانَ مِنْ قِبَاحِ السُّودَانِ فَضَمَّه رَسُولُ اللَّه (ص) لِحَالِ غُرْبَتِه وعَرَاه .. فَإِنَّ رَسُولَ اللَّه (ص) نَظَرَ إِلَى جُوَيْبِرٍ ذَاتَ يَوْمٍ بِرَحْمَةٍ مِنْه لَه ورِقَّةٍ عَلَيْه فَقَالَ لَه: يَا جُوَيْبِرُ لَوْ تَزَوَّجْتَ امْرَأَةً فَعَفَفْتَ بِهَا فَرْجَكَ وأَعَانَتْكَ عَلَى دُنْيَاكَ وآخِرَتِكَ فَقَالَ لَه جُوَيْبِرٌ: يَا رَسُولَ اللَّه بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي مَنْ يَرْغَبُ فِيَّ فَوَاللَّه مَا مِنْ حَسَبٍ ولَا نَسَبٍ ولَا مَالٍ ولَا جَمَالٍ فَأَيَّةُ امْرَأَةٍ تَرْغَبُ فِيَّ؟!
فَقَالَ لَه رَسُولُ اللَّه (ص): يَا جُوَيْبِرُ إِنَّ اللَّه قَدْ وَضَعَ بِالإِسْلَامِ مَنْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ شَرِيفاً وشَرَّفَ بِالإِسْلَامِ مَنْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَضِيعاً وأَعَزَّ بِالإِسْلَامِ مَنْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ذَلِيلاً وأَذْهَبَ بِالإِسْلَامِ مَا كَانَ مِنْ نَخْوَةِ الْجَاهِلِيَّةِ وتَفَاخُرِهَا بِعَشَائِرِهَا وبَاسِقِ أَنْسَابِهَا فَالنَّاسُ الْيَوْمَ كُلُّهُمْ أَبْيَضُهُمْ وأَسْوَدُهُمْ وقُرَشِيُّهُمْ وعَرَبِيُّهُمْ وعَجَمِيُّهُمْ مِنْ آدَمَ وإِنَّ آدَمَ خَلَقَه اللَّه مِنْ طِينٍ وإِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ - يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَطْوَعُهُمْ لَه وأَتْقَاهُمْ ومَا أَعْلَمُ يَا جُوَيْبِرُ لأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ فَضْلاً إِلَّا لِمَنْ كَانَ أَتْقَى لِلَّه مِنْكَ وأَطْوَعَ
ثُمَّ قَالَ لَه: انْطَلِقْ يَا جُوَيْبِرُ إِلَى زِيَادِ بْنِ لَبِيدٍ فَإِنَّه مِنْ أَشْرَفِ بَنِي بَيَاضَةَ حَسَباً فِيهِمْ فَقُلْ لَه: إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّه إِلَيْكَ وهُوَ يَقُولُ لَكَ زَوِّجْ جُوَيْبِراً ابْنَتَكَ الذَّلْفَاءَ.
قَالَ: فَانْطَلَقَ جُوَيْبِرٌ بِرِسَالَةِ رَسُولِ اللَّه (ص) إِلَى زِيَادِ بْنِ لَبِيدٍ .. ثُمَّ قَالَ: يَا زِيَادَ بْنَ لَبِيدٍ إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّه إِلَيْكَ فِي حَاجَةٍ لِي .. فَقَالَ لَه زِيَادٌ أرَسُولُ اللَّه أَرْسَلَكَ إِلَيَّ بِهَذَا.
ثُمَّ انْطَلَقَ زِيَادٌ إِلَى رَسُولِ اللَّه [6](ص) فَقَالَ لَه: بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي إِنَّ جُوَيْبِراً أَتَانِي بِرِسَالَتِكَ وقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّه (ص) يَقُولُ لَكَ: زَوِّجْ جُوَيْبِراً ابْنَتَكَ الذَّلْفَاءَ فَلَمْ أَلِنْ لَه بِالْقَوْلِ ورَأَيْتُ لِقَاءَكَ ونَحْنُ لَا نَتَزَوَّجُ إِلَّا أَكْفَاءَنَا مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ لَه رَسُولُ اللَّه (ص): يَا زِيَادُ - جُوَيْبِرٌ مُؤْمِنٌ والْمُؤْمِنُ كُفْوٌ لِلْمُؤْمِنَةِ والْمُسْلِمُ كُفْوٌ لِلْمُسْلِمَةِ فَزَوِّجْه يَا زِيَادُ ولَا تَرْغَبْ عَنْه قَالَ: فَرَجَعَ زِيَادٌ .. فَخَرَجَ زِيَادٌ فَأَخَذَ بِيَدِ جُوَيْبِرٍ ثُمَّ أَخْرَجَه إِلَى قَوْمِه فَزَوَّجَه عَلَى سُنَّةِ اللَّه وسُنَّةِ رَسُولِه (ص) ..".
فمثلُ هذه الرواية وغيرها كثير يقتضي حمل روايةِ الخلق المشوَّه على غير ما هو المستظهَر منها بدواً وإلا فالمتعيَّن طرحُها وردُّ علمِها إلى أهلها، وذلك لمخالفتها مع السنَّة القطعيَّة، فكلُّ روايةٍ مخالفة لكتاب الله تعالى أو السنَّة القطعيَّة فهي فاقدة للاعتبار وذلك لما ثبت في المستفيض أو المتواتر عن أهل البيت (ع) أنَّ كلَّ خبرٍ خالفَ كتاب الله وسنَّة نبيَّه (ص) فهو زخرف أو مردودٌ أو قائلُه أولى به أو يرمى به عَرض الجدار.
فمن ذلك: صحيحة أَيُّوبَ بْنِ الْحُرِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) يَقُولُ: "كُلُّ شَيْءٍ مَرْدُودٌ إِلَى الْكِتَابِ والسُّنَّةِ، وكُلُّ حَدِيثٍ لَا يُوَافِقُ كِتَابَ اللَّه فَهُوَ زُخْرُفٌ"[7].
ومنه: معتبرة عَبْدِ اللَّه بْنِ أَبِي يَعْفُورٍ قَالَ: وحَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ أَبِي الْعَلَاءِ أَنَّه حَضَرَ ابْنَ أَبِي يَعْفُورٍ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) - عَنِ اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ يَرْوِيه مَنْ نَثِقُ بِه ومِنْهُمْ مَنْ لَا نَثِقُ بِه قَالَ: إِذَا وَرَدَ عَلَيْكُمْ حَدِيثٌ فَوَجَدْتُمْ لَه شَاهِداً مِنْ كِتَابِ اللَّه أَوْ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّه (ص) وإِلَّا فَالَّذِي جَاءَكُمْ بِه أَوْلَى بِه"[8].
ومنه: معتبرة زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: "كُلُّ مَنْ تَعَدَّى السُّنَّةَ رُدَّ إِلَى السُّنَّةِ"[9].
ومنه: ما أورده محمد بن مسعود العياشي في (تفسيره) عن سدير قال: قال أبو جعفر وأبو عبد الله (عليهما السلام): "لا تصدِّق علينا إلا ما وافق كتابَ الله وسنَّةَ نبيِّه (صلى الله عليه وآله)"[10].
والمتحصَّل ممَّا ذكرناه هو أنَّه لا يصحُّ لمُنصِفٍ يخشى الله تعالى الاستناد إلى الرواية المذكورة لإثبات دعوى أنَّ الشيعة عنصريُّون يتنقَّصون من ذوي البشرة السوداء وينهون من التزوُّج منهم، فإنَّ من غير الإنصاف الاستناد إلى روايةٍ آحاد لا يُعلمُ صدورها في مقابل رواياتٍ مقطوعةِ الصدور، على أنَّ هذه الرواية ليست صريحةً في أنَّ منشأ النهي عن مناكحة الزنج هو سوادُ بشرتهم كما اتَّضح ذلك ممَّا تقدَّم، فلعلَّ المنشأ بل المتعيَّن أنَّ المنشأ هو ملاحظة ما عليه هذه الفئة في ذلك العصر من سلوكٍ سيء يُعبِّر عن اختلالٍ في بعض طبائعهم وسلائقهم وهو ما يقتضي انتقال هذه الطبائع للأولاد بالوراثة، فالنهي عن مناكحتِهم لا يتَّصل بسواد البشرة أو الصورة وإنَّما يتَّصل بالطبائع والأخلاق والسيرة.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
23 / ذو القعدة / 1445ه
1 / يونيو / 2024م
..............................................
[1] - الكافي -الكليني- ج5 / ص352.
[2] - سنن الدارقطني -الدارقطني- ج3 / ص207، أحكام القرآن -الجصاص- ج2 / ص214.
[3] - لاحظ: لسان العرب -ابن منظور-ج8 / ص232، ج10 / ص86، كتاب العين -الفراهيدي- ج4 / ص151، تاج العروس -الزبيدي- ج13 / ص124.
[4] - الكافي -الكليني- ج5 / ص353.
[5] - لاحظ مثلا: باب المؤمن كفو المؤمنة من كتاب الكافي ج5 / ص339، وباب 25 و26، 27، 28 من أبواب مقدمات النكاح وسائل الشيعة ج20 / ص27 وما بعدها.
[6] - الكافي -الكليني- ج5 / ص339.
[7] - الكافي -الكليني- ج1 / ص69.
[8] - الكافي -الكليني- ج1 / ص69.
[9] - الكافي -الكليني- ج1 / ص71.
[10] - وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص123.