يمثل كتاب الله تبارك وتعالى من خلال المنظومة المتكاملة التي يحملها في العقائد والفقه والسيرة والأخلاق واحدة من الضمانات الكبرى للحفاظ على إسلام هذه الأمة شريطة التمسك بهدي هذا الكتاب والاستنان بسننه والعض بالنواجذ على ما جاء به وما جاءت به العترة الشريفة بعد النبي (ص)، فهذا هو السبيل العاصم من الضلال بنص حديث الثقلين الذي روي في مصادر المدرستين بطرق عديدة مع تباين يسير في بعض ألفاظه لا يضر بمضمونه العام بعد إمكان حمل لفظة (وسنتي) المروية عند الجمهور على سنة الحجة المنصوب على الخلق في كل زمان من الأزمنة.
وقد وصفت الروايات الشريفة كتاب الله بالعديد من الأوصاف العظيمة، فعن الإمام الحسن المجتبى (ع): "إن هذا القرآن فيه مصابيح النور وشفاء الصدور"[1]، وعن الإمام جعفر الصادق (ع): "إن درجات الجنة على قدر عدد آيات القرآن، فيقال لقارئ القرآن: اقرأ وارقَ"[2]، إلى غيرها من الروايات في هذا الصدد.
ولاشك في أن الدفاع عن كتاب الله هو أحد أعظم التكاليف الشرعية خصوصا في زماننا هذا الذي كثرت فيه الشبهات وظهرت إلى العلن وأخذت تُحدث تأثيرها، ومن الكتب الصادرة حديثا في مقام الطعن في القرآن الكريم كتاب (القرآن البَعْدِيِّ)، وهو لأحد الكتاب العراقيين من ذوي النزعة الحداثوية، إذ وصف كتابه بعبارة: (بحوث تنويرية جادة تحمل أسئلة مقلقة حول أصل اهتمام السماء بكتابة القرآن ودستوريته الدائمة)، وقد تضمن الكتاب العديد من الدعاوى التي تمثل خروجا عن مسلمات المسلمين جميعا وإجماعاتهم في شأن كتاب الله، وسوف نتطرق هنا إلى اثنتين من تلك الدعاوى ونرد عليها بشكل مختصر:
الدعوى الأولى: أن القرآن الموجود بيد المسلمين يتعبدون به الله ليس مطابقا مطابقة كلية مع ما نزل على رسول الله (ص)، بل إن فيه تصحيفا وتحريفا في اللفظ والمعنى في عدة مواضع، وبالتالي لا يمكن نسبة جميع ما فيه إلى الله تعالى.
والجواب عن هذه الدعوى أنها مبتنية على روايات كيفية جمع القرآن بعد النبي (ص)، وأن هذه الكيفية مستلزمة في العادة لوقوع التحريف، إلا أن هذه الروايات مروية في كتب الجمهور ولم تُرْوَ عن أئمة أهل البيت (ع) ومن طرق الإمامية، كما أنها متعارضة فيما بينها[3]، فلا يمكن الركون إليها والحال أن مضامين بعضها يُكذب وينفي مضامين البعض الآخر بصورة غير قابلة للجمع، وفي قبال هذه الروايات يذهب محققو الإمامية وفي طليعتهم أستاذ الفقهاء والمجتهدين آية الله العظمى الإمام الخوئي (رض) في كتابه (البيان) إلى أن القرآن كان مجموعا منذ حياة النبي (ص)، وأن سوره وآياته كانت محددة مشخصة حتى عند المشركين فضلا عن المسلمين، ودليل ذلك أن النبي (ص) تحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن، أو بعشر سور مثله، أو بسورة[4]، ومعنى هذا أن القرآن كان مجموعا، وإلا فلا معنى لأن يتحداهم أن يأتوا بمثله كاملا أو بمثل بعضه إن عجزوا عن الإتيان بالكل، ويدل بوضوح على كونه مجموعا منذ زمان النبي (ص) حديث الثقلين، إذ قال (ص): "إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي"[5]، حيث أنه لا يصح أن يطلق على القرآن (كتاب) وهو لا يزال في الصدور والعسب واللخاف والأكتاف.
الدعوى الثانية: أن السماء لم يكن عندها اهتمام أصلا بأن يكون القرآن دستورا دائمة للأمة، فلا ضرورة لذلك أساسا في نظر السماء حسب زعم مؤلف كتاب (القرآن البَعْدِيِّ)، وهذه الدعوى أكثر غرابة من سابقتها!
وفي مقام الرد نقول:
أولا: إن دعوى عدم اهتمام السماء بجعل القرآن دستورا دائما للأمة -فضلا عن أنها لا يدعمها دليل، بل الدليل قائم وبوضوح على خلافها- تلازم أن السماء لم تجعل للأمة فيصلا ترجع إليه ليفصل بينها حينما تفترق إلى فرق ومسالك بعد رحلة النبي (ص)، فيذهب بعضها إلى القول بأنه (ص) نصب إماما بعده والبعض إلى نفي ذلك، واللازم باطل فالملزوم مثله.
ثانيا: روى علماء المدرستين في أصح كتب الحديث عندهما روايات كثيرة بلغت حد التواتر أو الاستفاضة عن النبي (ص) والأئمة (ع) تأمر بعرض الروايات على القرآن، فما وافقه يؤخذ به وما خالفه يضرب به عرض الجدار، وروايات العرض هذه تدل بوضوح يدحض دعوى الكاتب على دستورية القرآن ومرجعيته في الفصل.
ثالثا: إن حديث الثقلين الذين أمرنا بالتمسك بهما هو من الأحاديث التي قيل بتواترها بالنظر إلى عدد الطرق التي روي الحديث من خلالها في مصادر المدرستين، وأحد الثقلين هو كتاب الله، فنقول: إذا لم تكن السماء مهتمة بجعل القرآن دستورا دائما كما هي دعوى الكاتب فما معنى التمسك به الوارد في الحديث إذن؟ إنه لا معنى للتمسك إلا حاكمية القرآن في الأمة.
صادق القطان
١ يوليو ٢٠٢٢٤م
........................................
[1] - (بحار الأنوار) للعلَّامة المجلسي – باب مواعظ الإمام الحسن (عليه السَّلام)
[2] - (الأمالي) للشيخ الصدوق – المجلس السابع والخمسون
[3] - (البيان في تفسير القرآن) للسيد أبي القاسم الخوئي
[4] المصدر السابق
[5] - (وسائل الشيعة) للحر العاملي – الحديث التاسع من أحاديث باب (تحريم الحكم بغير الكتاب والسنة)