سماحة الشيخ أحمد القيدوم الماحوزي (دام جهده العلمي)
ذكر عدة من الأعلام أنه لم يثبت عقد أو زواج القاسم بن الحسن عليهما السلام بإحدى بنات الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء، كما نفى بعض المحاضرين قصة بكر بن غانم وتوسل ليلى أم علي الأكبر بعطش الحسين عليه السلام ودعاءها لولدها الوارد ذكره في معالي السبطين نقلاً عن العلامة الشيخ حسين آل عصفور رحمه الله، ومثل ذلك.. المشاهد والأحداث والمقاطع التاريخية التي نظمها شعراء الحسين عليه السلام -المؤيَّدون بروح القدس - فقد وقعت بين النفي والإثبات.
والسؤال:
على فرض أن هذه الحوادث لم تثبت، فهل يدل ذلك على عدم تحققها واقعًا، كما هل يجوز للخطباء الكرام -خَدَمَة أبي عبد الله الحسين عليه السلام- نقل هذه القصص والسير والحوادث إذا رأي بعض العلماء أو عدة منهم عدم ثبوتها، أو عدم تحققها؟
والجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
النفي تارة يتعلق بالتحقق، وأخرى بالإثبات، فتارة يقال: أن هذا الحدث لم يثبت، وأخرى يقال: أن هذا الحدث لم يتحقق، ولا ملازمة -بداهةً- بين عدم الإثبات وعدم التحقق، فإذا فُقِد الدليل على تحقق هذا الحدث أو ذلك، غاية ما يمكن أن يقال: أن هذا الحدث لم يثبت، ولا يصح مع غياب الدليل أن نقول: لم يتحقق، ومن عبّر مسامحة بعدم التحقق، فمقصوده -لامحالة- عدم إثبات التحقق والحدوث.
وعلى كلا الوجهين سواء تعلق نفي الحوادث والقصص والسير بأنها لم تتحقق أو لم تثبت، يجوز للخطباء الكرام نقلها على منابر الحسين عليه السلام بشروط، ولا يحق - بل يكون مذموماً في حالات كثيرة - لشرفاء المستمعين وعقلاء المنصتين الاعتراض على الخطباء حين نقلها وحكايتها.
وتوضيح ذلك:
من الشعائر العظيمة التي ورد الثواب الجزيل عليها شعيرتي البكاء والإبكاء، والشعيرة الثانية لا تقل من حيث الثواب والمنزلة عن الأولى، وقد وردت الروايات براجحية واستحبابية الإبكاء. ففي الروايات المستفيضة عن الصادق عليه السلام قال: "من أنشد في الحسين عليه السلام شعرًا فبكى وأبكى عشرًا كُتبت له الجنة، ومن أنشد في الحسين شعرًا فبكى وأبكى خمسة كُتب له الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فبكى وأبكى واحدًا كُتب لهما الجنة".
وفي الحديث الصحيح عن ابن فضال عن الرضا عليه السلام قال: "من تذكّر مصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون".
ووظيفة الخطباء الأساسية والمهمة والتي هي قوام المنبر الحسيني: شعيرة الإبكاء، وهي تحصل عن طريق النثر أو الشعر، وذلك بذكر السير والقصص والحكايات المؤلمة التي حلت على أهل البيت عليهم السلام؛ فمن الأهداف العظيمة للخطباء إبكاء الناس، ولا يجوز لهم الوصول لهذا الهدف عبر الوسائل المحرمة والمنهي عنها في الشريعة المقدّسة، بل لا بدَّ من توسّط الوسائل والأدوات والمقدمات السائغة والجائزة، وقد جوّز الفقهاء -قاطبة- نقل القصص والحوادث التي لم يثبت تحققها، أو ثبت عدم تحققها، بشرطين:
الشرط الأول: نسبة وحكاية هذه القصص عن بعض مصادرها، كأن يقول الخطيب الحسيني: روى الطريحي رضوان الله عليه في المنتخب، أو ذكر الدربندي رحمه الله في أسرار الشهادة، أو قال بعض كبار الخطباء، أو نظم شاعر أهل البيت عليهم السلام ملا عطية أو ملا ابن فائز أو ابن نصار ... ، ثم يذكر السيرة والقصة والحكاية، فإنه بذلك يجوز له حتى فيما لو كانت القصة لديه ولدى الكثير لا تحقق لها، أو عدم إمكان إثبات تحققها، فإن عهدة ذلك على المنقول عنه.
الشرط الثاني: بأن لا تحتوي هذه القصص والسير المنقولة على إيحاءات أو تصوّرات سلبية على الدين والشريعة، وذلك بتضمنها بعض الأفكار المنحرفة والعقائد المندسة والأحكام الخاطئة، فإن نقل هذه القصص مع وجود ما تقدم تشعير للباطل ودعوة للضلالة وتشريع للابتداع.
فإذا توفر هذان الشرطان جاز للخطيب الحسيني نقل هذه القصص والسير وجعلها معبرًا للإبكاء والتفجّع والحزن على الرسول وآل الرسول صلى الله عليهم أجمعين، وكأن المسألة موضع وفاق بين الأعلام والفقهاء والأعاظم.
وخلاصة- وتفصيل هذه الأبحاث في درس الشعائر-: إذا حكى الخطيب الحسيني القصص والسير والأحداث التاريخية عن مصادرها، وليس ثمة لوازم خاطئة لفهم الدين والشريعة، وجعلها مقدمة لإبكاء الناس وتفجعهم على مصائب الحسين عليه السلام، مع ما تحويه هذه القصص -إضافة على ذلك- من تعميقٍ للمبادئ والقيم، وترسيخٍ لمظلومية العترة الطاهرة، كقصة عرس القاسم، ومبارزة علي الأكبر لبكر بن غانم، وحكاية العقيلية وابنها التي أنشأها شعرًا الملا عطية رحمه الله المؤيَّد بروح القدس في أشعاره في الحسين عليه السلام، الاعتراض على الخطيب بعد ذكرها مع توفرها لهذه الشروط والقيود أشبه بقلة التأمل والتعقل والتفكر؛ إذ مع جواز نقلها وخلوها من الموانع والحصول من خلالها على تعميق الولاء والصفات الحسنة واستحصال الكمالات، التصدي لمنعها ربما يقول عنه العاقل أنه بساطة في التفكير والتدبير، ولذلك أفتى مرجع الطائفة في عصره السيد محسن الحكيم فيما يرتبط بعرس القاسم بن الحسن صلوات الله عليهما وما تتضمنها من مراسيم الشموع والحناء بجواب نصه: لا مانع من ذلك وفيه تذكرة للمصاب الأليم والخطب الجسيم.
نعم؛ على الخطباء الكرام انتقاء القصص والحوادث والحكايات التي يمكن إقامة البرهان والدليل على تحققها وثبوتها، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، إلا أن أرجحية هذا العمل لا يحق ولا يسوِّغ ولا يُجوِّز لنا أن ننتقد أو نعترض على الخطباء في نقلهم للحوادث والحكايات التي توفرت على الشرطين المتقدمين، فضلًا عمّا إذا أحدث الاعتراض عليهم التشكيك والتقليل من مظلومية أهل البيت عليهم السلام، والتقليل من الحماس لهم، والتخفيف لظلم أعدائهم.
مضافًا إلى أن الخطباء في الأعم الأغلب لا يحكون الحوادث والسير والقصص المنقولة، بعنوان أنها وقعت، بل يجعلونها معبرًا للتفجع والإبكاء على مصائب العترة الطاهرة، فلا يصح وصف نقلهم بالصدق أو الكذب، إذ أن ذلك فرع الحكاية عن الواقع، ومن أراد التفصيل فعليه بدروس في الشعائر.
والحمد لله رب العالمين
8 شهر محرم الحرام لسنة 1445 هـ