نادر الملاح
7 يوليو 2024 – ليلة الحادي من محرم الحرام 1446هـ
لم يترك أئمة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فرصة إلا واستثمروها في التأكيد على أهمية إحياء ذكر أهل البيت عليهم ونبينا الكريم أفضل الصلاة وأزكى التحية والسلام. فهذا الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام يسأل الفضيل بن يسار: "يا فضيل، أتجلسون وتتحدثون؟" قال: نعم جعلت فداك، فقال عليه السلام: "إن تلك المجالس أحبها، فأحيوا أمرنا، فرحم الله من أحيا أمرنا" (بحار الأنوار، ج44 ص282، ح14)، وقال الإمام الرضا عليه السلام: "رحم الله عبداً أحيا أمرنا" (بحار الأنوار، ج2 ص31، الحديث 13)، وقال عليه السلام: "إن يومَ الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذل عزيزنا بأرض كربٍ وبلاء، أورثتنا الكربَ والبلاء إلى يوم الانقضاء. فعلى مثل الحسين فليبكِ الباكون، فإن البكاء عليه يَحط الذنوب العظام.". وقال يصف حال أبيه الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليهم السلام: "كان أبي إذا دخل شهر المحرم لا يُرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر، كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول هو اليوم الذي قُتل فيه الحسين صلى الله عليه" (بحار الأنوار، ج44 ص283).
وقال الإمام الصادق يصف حال جده الإمام علي بن الحسين عليهم السلام بعد استشهاد سبط النبي الأكرم صلوات الله وسلامه عليه: "أما علي بن الحسين عليه السلام، فبكى على الحسين عليه السلام عشرين سنة أو أربعين سنة، ما وُضع بين يديه طعام إلا بكى، حتى قال له مولى له: جُعلتُ فداك إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين، فقال: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)، إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني لذلك عبرة" (وسائل الشيعة، ج3 ص280).
وروى عَلْقَمَة عَنْ أَبِي جعفر محمد بن علي الباقر عليهم السلام في حديث زيارة الحسين يوم عاشوراء من قربٍ وبُعد: "ثم ليندب الحسين عليه السلام ويبكيه ويأمر من في داره ممن لا يتقيه بالبكاء عليه، ويقيم في داره المصيبة بإظهار الجزع عليه، ويعزي بعضهم بعضاً بمصابهم بالحسين عليه السلام، وأنا ضامن لهم إذا فعلوا ذلك على الله عز وجل جميع ذلك، يعني ثواب ألفي حجة، وألفي عمرة، وألفي غزوة. قلتُ: أنت الضامن لهم ذلك والزعيم؟! قال: أنا الضامن والزعيم لمن فعل ذلك." (وسائل الشيعة، ج14 ص509).
هذه الأحاديث وغيرها الكثير مما امتلأت به بطون الكتب وتناقله العلماء الأجلاء جيلاً بعد جيل، تؤكد أن مسألة إحياء ذكر أهل بيت النبوة صلوات الله عليهم أجمعين، وعلى وجه الخصوص إحياء عاشوراء الحسين عليه السلام، ليست مسألة عابرة، ولا دعوة بَطَرٍ لا تحمل رسالةً هي في الواقع رسالة أهل البيت عليهم السلام، التي هي رسالة النبوة وامتدادها. وليس عبثاً ولا عاطفةً تأكيدهم عليهم السلام على كيفية هذا الإحياء المتمثلة في إظهار الحزن واللوعة والأسى، بل والجزع كما جاء في بعض الأحاديث الشريفة.
ورحم الله الماضين الذين رغم كل ما لاقوا من تعسفٍ ومضايقات للحيلولة دون قيامهم بحمل هذه الرسالة، لم يفرطوا فيها ولم يتخلوا عنها، حتى وصلت اليوم إلى أيدينا، ووصلت معها مسؤوليتنا الكاملة عن حملها إلى الأجيال القادمة. فإذا ما توقفت حيثُ بَلَغت، كنا آثمين ومقصرين في أداء حق النبي الأكرم صلى الله عليه وآله الذي فرضه الله سبحانه وتعالى ولم يختره النبي صلوات الله عليه وآله لنفسه، حيث قال عز من قائل مخاطباً رسوله الكريم: "قُل لّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى".
إلا أننا وبكل أسف، نشهد ومنذ سنوات، انحرافاً ظاهراً عن بوصلة الإحياء التي حدد وجهتها أئمة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم. انحرافاً لم يواجَه بكل أسف بالحزم الكافي الذي يَئده في مهده، فكان أن نمى وترعرع واشتد عوده، وصار الداعي لمجابهته منبوذاً شاذاً يعيش في زمن انقضى أوانه. والمؤسف حقاً، أن أذرع هذا الانحراف طالت كل مظهرٍ من مظاهر الإحياء، وكل شريحة من الناس، من خطباء ورواديد ومعزين وشعراء ومثقفين وغيرهم.
ولأن الحال قد بلغ مبلغاً خطيراً، انقلبت فيه الموازين، فصار الابتداع فيه هو المرتكز بدعوى التجديد ومجاراة العصر الحالي وأدواته، وصار المبتدع فيه رمزاً، وأصبح الداعون إلى محاربة هذه المظاهر المنحرفة في إحياء الشعائر جماعة متخلفة تعيش خارج الزمن، لا تعي معنى التجديد، وتحصر إحياء الشعائر في البكاء والندب واللطم وترفض كل جديد، وكأن الحسين – حسب تعبيرهم- قد أراق دمه ودم الطاهرين من أهل بيته وأصحابه فقط لكي يكون شعاراً للبكاء والحزن، مدركين أو غير مدركين أن ما هذه الدعوى إلا كلمة حقٍّ يُراد بها باطل، صار لزاماً على كل من يعي هذا الانحراف وما يحمله في طياته من خطر، أن يمارس دوره في محاربته. نعم، لم تُرَق تلك الدماء من أجل البكاء والحزن، بل كانت إراقتها من أجل رسالة عظيمة لا تضاهي عظمتَها أي رسالة عبر التاريخ، غير أن الله جل شأنه قد اختار بحكمته وجميل تدبيره أن تكون تلك الرسالة ممتزجة بالحزن والألم والدموع. وعليه، فإن محاولة فصل الحزن والأسى عن تلك الرسالة، هو في حقيقة الأمر تفريطٌ ما بعده تفريط، أياً كان الفاعل فيه، وكيف ما كان الفعل الذي أتى به.
تأسيساً على هذا التكليف، وسعياً يُضاف إلى مساعي الصادقين في الحفاظ على هوية مذهب العترة الطاهرة، والرسالة العظيمة التي حطت رحالها بين أيدينا اليوم، أمانةً يتوجب علينا نقلها للاحقين كما نقلها لنا الماضون، جاءت حلقات سلسلة "رسائل عاشوراء" لهذا العام، وهو عامها التاسع بتوفيق الله وتسديده، لتسلط الضوء على بعض هذه المظاهر المنحرفة، دون مجاملة أو محاباة، لعل تعيها بعض الآذان، وتتلقفها بعض الأيدي التي تعي حجم تلك الأمانة. ونسأل الله تعالى شأنه التوفيق والسداد، والهداية والرشاد.
اللهم ثبتنا على ولاية الطاهرين، واهدنا سواء السبيل، وأحسن خواتيم أعمالنا إلى خير ما تحب وترضى، إنك أنت السميع المجيب، وصلي يا رب وزد وبارك على محمد وآله الطاهرين وارزقنا في الدنيا ولايتهم، وفي الآخرة شفاعتهم وتوفنا على هذا العهد برحمتك يا أرحم الراحمين.