بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
ما هو المراد من الضلال في قوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾[1].
الجواب:
ذُكرتْ احتمالاتٌ عديدة لمعنى الآية المباركة إلا أنَّ أكثرها لا يخلو من تكلُّف، وأقربُ هذه الاحتمالات لظاهر الآيةِ وسياقِها ثلاثة:
الاحتمال الأول: أنَّ المراد من الضلال هو المُقابل للهداية -في أعلى مراتبِها- لصراطِ الله القويم، وعليه فمفادُ الآية -بناءً على هذا الاحتمال- هو أنَّ الهداية التي أنتَ عليها ليست ذاتيَّة بل هي متلقَّاة من الله جلَّ وعلا ومُفاضةٌ عليك من عند الله تعالى، فالإنسانُ في نفسِه وبقطع النظر عن هداية الله جلَّ وعلا يكون فاقداً للهداية وهو معنى الضلال.
فحين لا يكون الإنسانُ واجداً للهداية فهو ضالٌّ أي مفتقرٌ للهداية، وإنَّما يُصبح مهديَّاً حين يمنحُه اللهُ جلَّ وعلا الهداية، فإسناد الضلال في الآية الشريفة إلى الرسول الكريم (ص) إنَّما هو باعتبار افتقاره للهداية في نفسِه بقطع النظر عن تأييد الله تعالى وتسديده وتعليمه، فهو دون هداية الله تعالى وتأييدِه وتسديده وتعليمه وتفهيمه ضالٌّ، فانتفاء واقع الضلال عنه صلَّى الله عليه وآله إنَّما كان بفضل الله تعالى وفيضه وعطائه. لكنَّ ذلك لا يعني أنَّه (ص) كان فاقداً للهداية قبل البعثة كما توهَّم البعض أو كان فاقداً لها حين كان صغيراً، فإنَّ ذلك ممَّا لا يقتضيه مفاد الآية، فأقصى ما تدلُّ عليه الآيةُ أنَّه لم يكن واجداً للهداية في نفسه وأنَّ اللهَ تعالى هو مَن منحَه إيَّاها، وذلك يصدقُ حتى لو كان منْحُه للهداية قد وقع قبل هذه النشأة أي قبل صيرورته في عالَم الدنيا، فيصحُّ أنْ يخاطبه اللهُ بقوله: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ حتى لو كانت هدايته له قد وقعت قبل هذه النشأة، فهو (ص) قد وُجِد في تلك النشأة مفتقراً للهداية ثم منحَه الله تعالى إيَّاها.
والمتحصَّل ممَّا ذكرناه: هو أنَّ مفاد الآية -بناءً على هذا الاحتمال- أنَّ النبيَّ الكريم (ص) لم يكن واجداً للهداية فمنَّ اللهُ عليه بها، أمَّا أنَّه متى وقع ذلك فإنَّ الآية المباركة غير متصدِّية لبيانِه، فلعلَّه وقع في العوالم التي سبقت هذه النشأة، وعليه لا يصحُّ التمسُّك بهذه الآية لإثبات أنَّ النبيَّ (ص) لم يكن واجداً للهداية قبل البعثة بل لا يصحُّ التمسُّك بها لإثبات أنَّه (ص) لم يكن واجداً للهداية حين كان في مُقتبل العمر، وبهذا لا تكون الآيةُ منافيةً للنصوص المستفيضة التي دلَّت على أنَّ النبيَّ الكريم (ص) كان نبيَّاً وآدم بين الماء والطين أو بين الروح والجسد[2].
وهنا احتمال آخر يقعُ في صراط هذا الاحتمال وهو أنَّ المراد من الضلال المُسند في الآيةِ للنبيِّ الكريم (ص) هو الضلال بالإضافة إلى الأمور التي لم يكن يعلمُ بها قبل البعثة النبوية، فهو صلَّى الله عليه وآله بالإضافة إليها ضالٌّ أي غير عالمٍ بها ثم علِم بها من طريق الوحي، وبناءً على هذا الاحتمال يكون مفادُ الآية من سورة الضحى مساوقٌ لمفاد قوله تعالى في سورة النساء: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾[3].
الاحتمال الثاني: أنَّ المراد من الضلال في الآية هو الحيرة بمعنى أنَّ الآية كانت بصدد بيان أنَّ النبيَّ (ص) كان حائراً في شأنِ قومه يتفكَّر كثيراً فيما هو السبيل لهدايتهم واستنقاذهم ممَّا هم عليه من فسادٍ في عقائدهم وانحرافٍ في سلوكهم وأخلاقهم وما هم عليه من ضياعٍ وشتاتٍ وتناحرٍ وفتنٍ وتظالمٍ فيما بينهم وما يسودُ في أوساطهم من خرافات وعادات مشينة ومستهجنة، فالضلالُ الذي عنته الآية هو حيرة النبيِّ الكريم (ص) في تحديد ما هو السبيل المُفضي لاستنقاذ الناس ممَّا هم غارقون فيه من جهالاتٍ وآفات.
فالآية بصدد الامتنان على النبيِّ (ص) بأنَّ الله تعالى هو من أرشده بالوحي إلى ما هي السُّبُل المُفضية لاستنقاذ قومه وهدايتهم إلى صراط الله القويم، فكان النبيُّ (ص) حائراً لا يهتدي لوسيلةٍ يستنقذُ بها قومَه من جهالاتهم فهداه اللهُ بالوحي إلى ما يفعله لهداية قومه.
الاحتمال الثالث: أنَّ معنى الآية هو أنَّه وجدك ضائعاً في وسط قومك مجهولاً قدرُك عندهم، لا يُقيمون لك وزناً ولا يقرُّون بنبوَّتك فهداهم اللهُ إليك حتى أقرُّوا بنبوَّتك، واعترفوا بصدقك، وأذعنوا للحق الذي جئتَ به من عند ربِّك.
وعليه فمعنى قوله: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ هو أنَّه وجدك مضلولاً عنك فهدى الناس إليك وإلى التصديق بك، فاسم الفاعل"ضالاً" أُريد منه اسم المفعول كما في مثل قوله تعالى: ﴿خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ﴾[4] أي من ماء مدفوق، وقوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ﴾[5] أي مردودون في المحفورة وهي القبر، فالقبر محفور وليس حافراً، وقوله تعالى: ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾[6] أي مرضيَّة، وهكذا فإنَّ استعمال اسم الفاعل وإرادة المفعول متعارف في كلام العرب فيقال مثلاً دمٌ نازف أي منزوف وسرٌّ كاتم أي مكتوم.
كذلك هو الشأن في معنى قوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ أي مضلولاً عنك، فهدى إليك، فيكون مفعول الفعل "هدى" هو الناس، وفاعل الهداية هو الله جلَّ وعلا، وهذا المعنى للآية نصَّت عليه بعض الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) وهي معتبرة زرارة عن أحدهما عليهما السلام في قول الله: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى﴾ فآوى إليك الناس ﴿ووَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى﴾ أي هدى إليك قوما لا يعرفونك حتى عرفوك .."[7].
وقريب من هذا المعنى ما ورد في عيون أخبار الرضا(ع) في باب ذكر مجلس الرضا عند المأمون في عصمة الأنبياء عليهم السلام حديث طويل يقول فيه عليه السلام للمأمون، وقد قال الله عزَّ وجلَّ لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وآله: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى﴾ يقول ألم يجدك وحيدا فآوى إليك الناس: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا﴾ يعنى عند قومك: ﴿فَهَدَى﴾ أي هداهم إلى معرفتك .."[8] وكذلك أورده الطبرسي في الاحتجاج[9].
فمفاد الرواية أنَّ المراد من قوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا﴾ يعني مجهولاً عند قومك أو وجدك منسوباً عند قومك إلى الضلال وإنَّما نسبوه للضلال لجهلهم بحقيقته فهو مضلولٌ عنه ثم قال تعالى: ﴿فَهَدَى﴾ أي فهداهم إلى معرفتك والتصديق بنبوَّتك.
وأورد الشيخ الصدوق في معاني الأخبار بسنده عن ابن عباس، قال: سُئل عن قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى﴾ قال: إنَّما سُمِّي يتيماً لأنَّه لم يكنْ له نظيرٌ على وجه الأرض من الأولين ولا من الآخرين، فقال الله عزَّ وجلَّ ممتنَّاً عليه بنعمته: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً﴾ أي وحيدا -أوحدا- لا نظير لك "فآوى" إليك الناس وعرَّفهم فضلك حتى عرفوك ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا﴾ يقول: منسوباً عند قومك إلى الضلالة فهداهم لمعرفتك .."[10].
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
20 / ذو الحجة / 1445ه
25 / يونيو / 2024م
........................................
[1] - سورة الضحى/7.
[2] - الاحتجاج -الطبرسي- ج2 / ص248، الأمالي -الطوسي- ص626، مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج4 / ص66، ج5 / ص59، سنن الترمذي -الترمذي- ج5 / ص245، المستدرك -الحاكم النيسابوري- ج2 / ص608-609، مجمع الزوائد -الهيثمي- ج8 / ص223.
[3] - سورة النساء/113.
[4] - سورة الطارق/6
[5] - سورة النازعات/10.
[6] - سورة القارعة/7
[7] - تفسير القمي -علي بن إبراهيم القمي- ج2 / ص427
[8] - عيون أخبار الرضا (ع) -الصدوق- ج1 / ص177
[9] - الاحتجاج -الطبرسي- ج2 / ص219
[10] - معاني الأخبار -الصدوق- ص53