نادر الملاح
8 يوليو 2024 – ليلة الثاني من محرم الحرام 1446هـ
اللطم في اللغة هو ضرب الوجه بباطن كف اليد، فيقال لطم وجهه إذا ضرب وجهه بيده، ولطم فلانٌ فلاناً، إذا ضربه بباطن كفه على وجهه. ومنه سُمي الضرب بباطن كف اليد على الصدر “لطم الصدر”، فأضيف الصدر إلى اللطم تمييزاً وتوضيحاً له، إذ لو اكتفى القائل بمفردة اللطم لكان المعنى المتبادر إلى الذهن هو ضرب الوجه بالكيفية المذكورة. وكلتا الحالين، لطم الإنسان وجهه وصدره، حالٌ طبيعية لا شعورية تُعبر عن الحزن والأسى. فالشخص الذي يفقد إنساناً عزيزاً مثلاً، لا يجد نفسه إلا لاطماً لوجهه أو صدره تعبيراً عن الحزن، دون أن يتكلف في ذلك الفعل.
ومع ظهور مجالس التعزية وخروج مواكب العزاء بمصاب الحسين عليه السلام للعلن، والتي يرى المؤرخون بداياتها تعود إلى الدولة البويهية، وهي إحدى الدويلات التي ظهرت في العصر العباسي الثاني، وأول دولة شيعية المذهب، كانت بدايتها سنة 334 للهجرة، واستمرت قرابة المائة وعشرين سنة فكانت نهايتها سنة 454 للهجرة، بدأ تعبير (اللطم) ينحصر في ذهن المتلقي في لطم الشيعة صدورهم في مجالس ومواكب التعزية الحسينية، وظل هذا المعنى ماثلاً حتى يومنا هذا، بل وصار اللطم شعاراً لأتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
ومن هذا المعنى، صار الندب في مواكب اللطم يُعرف باسم (اللطمية)، سواء كان الندب شعراً أو نثرا، حيث أن النادب من خلال ما يلقيه من كلمات الحزن والأسى، وما يصوره من مشاهد وصور، يستثير مشاعر المعزين فيلطمون صدورهم ووجوههم.
غرضنا من هذه المقدمة الموجزة هو بيان أمر مهم، وهو أن (اللطمية) إنما تكون بهذه الصفة إذا ما كانت تتسم بثلاث سمات مجتمعة، الأولى أن تكون ندباً في مصاب أهل البيت عليهم السلام، والثانية أن تتصف بالحزن والأسى وذكر المصاب، والثالثة أن تكون باعثة على الحزن واللوعة والأسى في نفوس المعزين فتدفعهم إلى اللطم بحرقة حزناً على عظيم مصاب عترة النبي الأكرم صلوات الله عليه وآله. وبهذا المعنى، لا يصحُّ وصفُ كلِّ ندبٍ بأنه لطمية، فإذا ندبت زوجة مثلاً زوجها المتوفى لا يكون ندبها لطميةً وإن أثار حزنها وحزن من حولها، لأن هذا الندب ليس في مصاب أهل البيت عليهم السلام. وإذا سرد خطيبٌ أحداثاً مؤلمة في غير مصاب أهل البيت عليهم السلام أثارت الحزن في نفوس المستمعين لا يكون سرده لطمية، وإذا كان القيلُ في مصيبة أهل البيت عليهم السلام لكنه ليس مما يثير الحزن في نفوس المستمعين، لا يكون ذلك القيلُ لطمية.
لقد شهدنا حتى عهدٍ قريب رواديد العزاء الحسيني قد حافظوا على هذا المعنى وجسدوه تجسيداً تاماً، حتى ليقشعر جلد المستمع إذا ما تمعن في ما يسمع من كلمات بتلك النبرة الحزينة، وذهبت به مخيلته لتصور المشهد وكأنه يعيش فيه، فلا يمتلك أن يحبس دموعه أو أن يمسك يديه عن (اللطم). إلا أننا في العقود الأخيرة، بدأنا نلمس انحراف المشهد تدريجياً، حتى وصل الحال اليوم إلى تفريغ مسمى (اللطمية) من سماتها الثلاث، وقد أسلفنا القول بأن انعدام سمةٍ واحدة من السمات الثلاث يُخرج الكلام عن مسمى اللطمية، فكيف والحال أن السمات الثلاث باتت مفقودة؟!
إن ما نسمعه اليوم في هذا السياق من هرج لا يصح إطلاقاً أن نسميه (لطمية). فمن حيث المحتوى، نجد اللطميات المزعومة تتناول مواضيع سياسية واقتصادية وسرد تاريخي ومقاربات وتشبيهات ومسائل خلافية في العقيدة، وكأن اللطمية ساحة للمناظرات العقائدية، بل واتجه بعض الرواديد والشعراء اتجاه الغلو فمنحوا أهل بيت العصمة صلوات الله وسلامه عليهم صفاتٍ من صفات الله عز وجل، متذرعين تارةً بذريعة التشبيه والتصوير الفني، وتارة بتأويلات غريبة عجيبة لبعض المعاني الواردة في بعض أحاديث أهل البيت عليهم السلام، وتارة أخرى بذرائع تافهة ركيكة لا تستند على دليل ولا تصمد أمام نقاش موضوعي.
ومن حيث النبرة أو اللحن كما يحلو للبعض أن يسميه، نرى تلاشي نبرة الحزن واللوعة والأسى، التي هي صفة أساسية في اللطمية، واستبدالها تارةً بنبرة الحماسة، وتارة بنبرة التفاخر والتفاضل، وثالثة بنبرة السخرية والاستهزاء والنيل من الآخر، وهكذا، لدرجة أن ابتكر مُريدو هذا الانحراف تصنيفات تتناسب وهذا الهرج والمرج، فقالوا هذه لطمية حماسية، وتلك لطمية عقائدية، وهذه لطمية ثورية، وغير ذلك من التصنيفات التي لا غرض منها سوى إضفاء حالةً من المقبولية على هذا الانحراف. وبقليلٍ من التمعن في هذه التصنيفات السمجة، نجد أن العامل المشترك بين كل تلك التصنيفات هو أن اللطمية قد انحرفت عن غرضها إلى غرض آخر هو استعراض القدرات الصوتية والأداء الغنائي للرادود، الذي للأسف ظل يحمل لقب الرادود جزافاً رغم أنه صار بكل معاني الكلمة مُطرباً وليس رادوداً، سواءً استخدم الموسيقى أم لم يستخدمها، ومن ثم تحقيق الانتشار وزيادة قاعدة المعجبين والمتابعين.
للأسف، إن معظم ما يسمى باللطميات اليوم، ولا نقول جميعها بل الأعم الغالب، أصبحت غناءً بامتياز، من مضمون هابط أو بعيد كل البعد عن فحوى اللطمية بما تقدم من معنى، وإيقاعات راقصة، وموسيقى تصويرية، ليكتمل المشهد في الغالب بفيديو كليب لتسويق هذه التفاهات التي لو جُردت من تلك المشاهد التصويرية والإيقاعات الموسيقية لما استساغ المطرب نفسه (الرادود المزعوم) أن يسمعها فضلاً عن أن يقدمها بين يدي أهل بيت العصمة عليهم الصلاة السلام.
ولأن لنا وقفة بإذن الله تعالى في الحلقات القادمة مع هذه الجزئيات، من المحتوى الشعري واللحن، نكتفي بهذا المقدار، ليكون مقدمةً للحديث.
اللهم ثبتنا على ولاية الطاهرين، واهدنا سواء السبيل، وأحسن خواتيم أعمالنا إلى خير ما تحب وترضى، إنك أنت السميع المجيب، وصلي يا رب وزد وبارك على محمد وآله الطاهرين وارزقنا في الدنيا ولايتهم، وفي الآخرة شفاعتهم وتوفنا على هذا العهد برحمتك يا أرحم الراحمين.