نادر الملاح
9 يوليو 2024 – ليلة الثالث من محرم الحرام 1446هـ
مظهر آخر من مظاهر انحراف البوصلة يتمثل في مواكب العزاء التي طالما كانت تمتاز بالهيبة وإعلان الموقف والتأكيد على مبادئ الثورة الحسينية الخالدة، لكنها بكل أسف تحولت اليوم إلى ما يشبه الفرق الاستعراضية التي تجوب الشوارع، أو موكب جنائزي لا حياة فيه.
لقد تحول موكب اللطم، الذي كان كل ما مر بزقاق أو منزل يثير الحزن والأسى في نفوس من اجتمعوا على جانبي الطريق لخدمة المعزين أو حتى لتسجيل الحضور من خلال المشاهدة، أو النسوة اللاتي كن يجتمعن في بعض المنازل التي تقع في طريق الموكب فتسيل دموعهن ويلطمن رؤوسهن لشدة ما يترك الموكب في نفوسهن من تأثير، بما فيه من وقار، وما يكسو المعزين فيه من لوعة وحزن وأسى، وما يطلقونه من صرخات ممزوجة بالألم، وما يلقيه الرادود من كلمات تأخذ طريقها إلى القلب دون استئذان، تحول كل ذلك إلى مشهد فولكلوري، يقوده مطربٌ يستعرض طبقات صوته، وراقصون يبتكرون من حركات الرقص ما يناسب إيقاع المايسترو الذي يمسك بالميكروفون، ويتوزعون في مجموعات يشجع فيها كلٌّ منهم الآخر للإبقاء على حماس الرقص متقداً.. ومع هذا المشهد، تحول المعزون المجتمعون على جانبي طريق الموكب إلى متفرجين يتسلون بمشاهدة تلك الاستعراضات، وكلٌّ يرفع هاتفه ليحظى بفرصة تصوير مقطع راقص من هنا أو هناك، ناهيك عن الأحاديث الجانبية والضحك البادي على الوجوه.. ولا غرابة، فهم هنا من أجل التسلية ومشاهدة الكرنفال الاحتفالي ليس إلا..
كان دافع المعزين في السابق المشاركة في عزاء الحسين وتعزية صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، ومواساة أهل البيت عليهم السلام بالدمعة والحزن والأسى.. أما اليوم فصارت المشاركة في الموكب لأن الرادود الفلاني سيشارك فيه.
كان التفاخر بين المواكب في أكثرها إظهاراً للحزن والألم، أما اليوم فصار في أكثرها طولاً وعدداً من المشاركين، وفي أكثرها حماسةً تُهيج النفس للقفز وابتكار الحركات الراقصة.
وعلى النقيض من هذا المشهد، نجد مواكب أخرى أشبه ما تكون بالموكب الجنائزي الصامت.. رادودٌ يفرض على الموكب الحركة البطيئة لدرجة تبعث الملل والسأم من مشاهدة الموكب فضلاً عن المشاركة فيه، فقط لأن هذا النمط هو ما يناسب حنجرته الذهبية حسب ما يرى.
هذا فضلاً عن ما يسمى بمواكب الموسيقى، وهي فرقة موسيقية استعراضية بكل ما تحمل الكلمة من معاني، تجوب الشوارع بذلك الزي الأنيق الموحد، والطبول وأدوات النفخ وغيرها، تعزف مقطوعات من أفلام أجنبية أو حتى أغاني تتصرف في بعض أجزاء ألحانها.. ولا ندري حقيقةً ما وجه التعزية في مثل هذه المواكب!!
ولا يتحمل الرادود وحده مسؤولية هذا التغير في صورة الموكب ومدى تأثيره، وإنما يشاركه في ذلك المنظمون للموكب من جهة والمعزون من الجهة الأخرى. فللأسف هي دائرة متكاملة من تكريس هذا الوضع المزري، حيث صار منظمو الموكب يسعون لاجتذاب أكبر عدد ممكن من المشاركين، لاسيما من خارج المنطقة، وصار هذا الاجتذاب موضع افتخار بالفعل، والسبيل إلى ذلك طبعاً، الاتفاق مع أحد الأسماء الرنانة القادرة على اجتذاب الجماهير، دون أدنى اكتراث لا بمحتوى اللطمية ولا بمتانتها ورصانتها، ولا بمضامينها، ولا بإيقاعها، وإنما فقط (الرادود الفلاني)، والذي ما أن يتم الاتفاق معه حتى يبدأ العمل الحثيث في ابتكار التصاميم الفنية للإعلانات التي تُبرز صورة الرادود واسمه بالخط العريض. وعلى الجهة المقابلة يتهافت المشاركون في الليلة الموعودة، من كل حدب وصوب للمشاركة في الموكب الذي يقوده هذا الرادود. فبالله عليك، ما الذي يختلف في هذا المشهد عن حفلات الطرب والمهرجانات، حيث تسعى الجهة المنظمة لاجتذاب أكبر عدد من الجماهير فتختار مطرباً ذا شعبية كبيرة، ويزدحم الجمهور في موعد العرض، يتراقصون ويتمايلون ومعظمهم إن لم يكن جميعهم لا يعير اهتماماً بما يتقيؤ به ذلك المطرب من هراء وتهريج، والمطرب بطبيعة الحال في غاية الأنس لمشاهدة تلك الجماهير الغفيرة التي اجتمعت (من أجله)..
ربما يرى بعض القراء الكرام أن هذا الحديث فيه تحاملٌ على الرواديد أو المعزين أو المنظمين، ويرى آخرون أنه وإن كان فيه صواب إلا أنه لا يخلو من المبالغة، إلا أنه بكل أسف وصفٌ للواقع، كل ما في الأمر أنه يخلو من المجاملة وتجميل المشهد. فلا مبالغة ولا تحامل، بل هي دعوةٌ لتصحيح المسار، حيث يجب على إدارات المآتم والمواكب أن تعي مسؤوليتها في مراجعة ومراقبة المضمون والمحتوى والإيقاع أكثر من اهتمامها باسم الرادود، بل ويجب على هذه الإدارات أن تميز بين الرادود والمطرب، فتحتضن الأول وتُقصي الأخير حتى يعود إلى رشده. ويجب على المشاركين (وكم هو مؤلمٌ أن نضطر لاستخدام تعبير "المشاركين" بدل "المعزين") أن يعوا مسؤوليتهم في الحفاظ على هوية موكب العزاء وهيبته، وأن يدركوا أن تهافتهم هذا هو ما يشجع المنظمين ويشجع الرادود على الاستمرار في هذا المسلك، يقيناً منهم بأن استراتيجيتهم التسويقية باتت ناجحة بالفعل، فيستمر، كلٌ في مجاله، في رفع سقف أهدافهم والتي يتربع على قمتها اكتساب المزيد من المتابعين والمريدين. كذلك يجب على الرواديد الجادين أن لا ينزلقوا في مسار إرضاء الجمهور، وما يسميه البعض للتبرير "ذوق الجيل"، فيجدوا أنفسهم قد انتقلوا من جانب التشرف بخدمة أهل البيت عليهم السلام، إلى خدمة الأنا والذات، البعيدة كل البعد عن رضا الله تعالى. فالمسألة لا تحتمل العبث.
هي دعوة للجميع لكي لا نغتر بحضورنا وحرصنا على المشاركة في عزاء الحسين عليه السلام، فنتوهم أننا بهذه اللهفة والحرص نساهم في إحياء ذكر العترة الطاهرة، بينما يكون في سلوكنا ما لا ترضاه العترة صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين. هي دعوةٌ لأن لا تكون نظرتنا لإحياء الشعائر نظرةً سطحية تنبثق من روح العادة والتكرار الموسمي، لا من اليقين بوجوب الحفاظ على الرسالة، فنستوحش إذا لم نشارك في التعزية أكثر مما نشعر بالتقصير لعدم المشاركة!! هي دعوةٌ لأن نحذر أن نكون مصداقاً من مصاديق قول الإمام الصادق عليه السلام: "لا تغتروا بصلاتهم ولا بصيامهم، فإن الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتى لو تركه استوحش، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة".
اللهم ثبتنا على ولاية الطاهرين، واهدنا سواء السبيل، وأحسن خواتيم أعمالنا إلى خير ما تحب وترضى، إنك أنت السميع المجيب، وصلي يا رب وزد وبارك على محمد وآله الطاهرين وارزقنا في الدنيا ولايتهم، وفي الآخرة شفاعتهم وتوفنا على هذا العهد برحمتك يا أرحم الراحمين.