نادر الملاح
10 يوليو 2024 – ليلة الرابع من محرم الحرام 1446هـ
معلومٌ أن الخطابة من أقدم الفنون الأدبية، وهي سابقة لكل الفنون بما فيها الشعر. وبحسب ما تشير بعض المصادر، فإن شُعيباً عليه السلام كان يلقب بشيخ الخطباء، وكانت الخطابة من بين الأدوات الرئيسة التي اعتمدها إبراهيم الخليل عليه السلام في تعليم الناس وهدايتهم، وكذا سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم. وبحسب المشهور، فإن أول منبر في الإسلام كان قد صنعه الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وآله في السنة السابعة للهجرة، حيث كان صلى الله عليه وآله يخطب في بداية الدعوة واقفاً، فلما أحس الصحابة أن ذلك قد يُتعبه، وضعوا له جذع نخلة يتكأ عليه، ثم صنعوا له منبراً يرتقيه ليخطب في الناس ويعلمهم دينهم ويرشدهم إلى ما فيه حياتهم وسعادة الدارين، ومن هنا جاء الارتباط في التعبير بين المنبر والخطابة. وقد نُقل عنه صلى الله عليه وآله قوله: "إن أتخذ منبراً فقد اتخذه أبي إبراهيم، وإن أتخذ عصا فقد اتخذها أبي إبراهيم". كما أن الله سبحانه وتعالى قد جعل الخطابة جزءًا من العبادة، كما في صلاة العيدين والجمعة، ما يدلل على اهتمام الشريعة السمحاء بما للخطابة من أهمية وأثر بالغين.
وقد برز المنبر الحسيني، بما هو منبرٌ مختص بمصاب أبي عبدالله الحسين عليه السلام، بعد أحداث ملحمة الطف الأليمة، وإن كان أساس مجالس التعزية الحسينية يعود إلى زمن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، غير أننا لسنا هنا بصدد مناقشة البعد التاريخي لنشأة المنبر، لاسيما وقد تناولنا بعض هذه الجوانب في مقالات سابقة في غير موضع.
كانت بداية هذا المنبر الشريف ما يَصطلح عليه أهل العلم بـ(المآتم العَرَضية)، وهي المآتم التي لم تكن قد أقيمت عن قصد مسبق وتهيئة، وإنما صاحبت واقعة كربلاء وما أعقبها من سبي للنساء والأطفال. فكان أول تلك المآتم في الكوفة، ثم تبعتها مآتم متعددة في مسير الركب الحسيني من الكوفة إلى الشام، ثم كان المأتم الأكبر في مجلس يزيد بن معاوية عليه وأبيه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ثم كان مأتم آخر بحسب ما تنقل بعض المصادر في يوم الأربعين عند وصول ركب السبايا إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. العامل المشترك بين كل تلك المآتم هو العَرَضية، ولذا استُعير هذا اللفظ لوصف تلك الحقبة من عمر المجلس الحسيني. وقد تميزت هذه المجالس بغلبة البعد المأساوي أو العاطفي، وإن كان قد تخلل بعضها خطباً في غاية البلاغة والإتقان.
وحيث أن عمل الأئمة عليهم ونبينا الكريم أفضل الصلاة وأزكى السلام بعد أحداث كربلاء، بدءًا بزين العابدين وسيد الساجدين الإمام علي بن الحسين عليهما السلام، كان يسير في خطين متوازيين، أولهما خط بيان الأطروحة الناصعة الصافية لروح العقيدة الإسلامية، وثانيهما خط الإذكاء العاطفي من خلال الإبقاء على وهج مأساة كربلاء متوقداً في النفوس، فقد بدأت تلك المجالس تأخذ هيئة مختلفة تجمع بين البيان والموعظة من جهة، والعاطفة من الجهة الأخرى. ولعله من المناسب أن نطلق على هذه الحقبة حقبة المنبر المبرمج أو المنبر الهادف.
ما يميز هذا المنبر أنه جعل على رأس الهرم مسألة البناء والتربية والإعداد وهداية الأمة إلى العقيدة الخالصة والفكر الإسلامي الناصع، فيما ارتكزت قاعدته على ركيزتين هما الفكرة والبيان في زاوية، والعاطفة المتأججة في الزاوية المقابلة. ذلك أن الفكرة المجردة من العاطفة ومن التفاعل القلبي تكون عرضةً للتزلزل ثم التلاشي، لاسيما مع كثرة ما يثيره أهل الباطل من شبهات حولها، وفي المقابل فإن العاطفة إذا تجردت عن الفكرة فإنها تكون عرضةً للانحراف والضياع أو الاستغراق العاطفي المجرد من المضمون والهدف. أي أن الخاصية الرئيسة في المنبر الحسيني هي تحقيق التكامل بين الفكرة والعاطفة، حيث جَعَل هذا المنبر العاطفة حاضنة للفكرة، وجعل الفكرة موجِّهةً للعاطفة، ليقود هذا التكامل بين الفكرة والعاطفة نحو تحقيق الهدف الأسمى في رأس الهرم، وهو ترويض النفس البشرية وتربيتها على الفضيلة، وهي رسالة جميع الأنبياء والمرسلين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وقد حافظ المنبر الحسيني، مع كل ما مر به من مراحل وأدوار على هذه الثلاثية التكاملية، وإن كانت بعض الحقب قد شهدت، بحكم الظروف المحيطة بالمنبر، تغليب جانبٍ على الآخر في قاعدة الهرم، إلا أن رأس الهرم ظل محفوظاً وماثلاً عبر السنوات.
المؤسف، أننا خلال العقدين الأخيرين، قد بدأنا نشهد حالةً من الانحراف، ولا نعمم في هذا الشأن، وإنما نتحدث عن ظاهرة آخذة في التمدد، ما يوجب علينا الالتفات إليها قبل أن تبلغ حداً تتضاءل معه فرص العودة إلى المسار الصحيح. فكم من باطل صار حقاً، وكم من حقٍّ ضيعه باطل. وسبب تسميتنا لهذه الحالة بالانحراف، ونعني هنا الانحراف عن البوصلة الحسينية لا الانحراف بالمعنى المألوف، هو أن الخلل في المنبر قد بدأ يطال زاوية الرأس، حيث يقبع الهدف، بسبب الخلل في زاويتي القاعدة، المتمثلتين في الفكرة والعاطفة، وبطلان المدخلات يقود حتماً إلى بطلان النتائج.
ولا يمكننا بطبيعة الحال في هذا المقام حصر جميع أشكال الانحراف في المنبر، إلا أنه ونظراً لأهمية هذا الأمر، كان لابد لنا من طرحه بشيء من الجرأة والتجرد، وغرضنا من ذلك إيصال رسالة لا كما قد يتوهم البعض أو يُشبِه على السامع بدعاوى إضعاف المنبر أو النيل من العلماء والخطباء. لذا، نَقْصُر الحديث عن نماذج لأبرز تلك المظاهر، وليكن عليها القياس.
أول تلك النماذج هو نموذج (خطباء الأنا) حيث يلجأ بعض الخطباء، بكل أسف عن قصد ومعرفة، لسبر أغوار الكتب بحثاً عن رواية شاذة أو معلومةٍ مهملةٍ من قبل أهل الاختصاص، فيتبناها الخطيب ويطرحها على المنبر وكأنها الحقيقة المطلقة التي غفل عنها جميع العلماء والباحثين منذ غابر الزمن، فقط ليُشار إلى شخصه بالبنان وتتسع قاعدته الجماهيرية، حيث يتناقل الناس، لاسيما في زمن تكنولوجيا الاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي، هذا المقطع بين مؤيد ومعارض، فتنتشر شهرته بين الناس انتشار النار في الهشيم. ويُستدل على هذه الفئة من الخطباء بعبارات تكاد تكون موحدة رغم عدم التنسيق بينهم، مثل قولهم: هذه الرواية لأول مرة تُطرح على المنبر، أو هذا التفسير لم يسبق أن طرحه خطيب على المنبر، وما شابه ذلك.. والغريب، أن لا أحد يسأل هذا الخطيب أو حتى يتساءل في نفسه: إذا كانت هذه الرواية أو هذا المعنى موجوداً بالفعل في المصادر، وهو كذلك بالفعل، فلماذا لم يطرحه الآخرون؟! ولماذا تفرد هذا الخطيب بطرحه؟! هل عميت عيون العلماء والباحثين على مدى 1400 سنة عن هذا الأمر ليكتشفه هذا الخطيب الآن؟!
ومن صور النموذج الثاني (خطباء الاستحمار)، لجوء بعض الخطباء لقراءات واستنتاجات غريبة عجيبة، لا تستند على بينةٍ ولا برهان، يظهر الخطيب فيها وكأنها الحاوي الذي يخرج أرنباً أو طيراً من قبعة، فيقف المشاهدون مبهوتين، كيف فعل ذلك، لكنهم في نفس الوقت لا يمكنهم تكذيب أعينهم، فقد رأوا القبعة والأرنب أو الطائر بأم أعينهم ورأوا الحاوي وهو يخرج هذا من ذاك. هذا بالفعل ما تفعله تلك الفئة. وللتوضيح نورد هذا المثال، وهو مثال حقيقي من كلام أحد أولئك الخطباء بكل أسف، والذي استنتج أمراً في غاية السخف من رابطٍ منطقي بحسب عقله المريض حيث بنى معادلته على النحو الآتي: لقد أكد القرآن الكريم على أن الله سبحانه وتعالى قد خلق آدم من تراب. والقرآن الكريم نفسه أكد على أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطق عن الهوى وأن كلامه وحيٌ من الله. والرسول الأكرم (ص) الذي لا ينطق عن الهوى قد لقب أمير المؤمنين عليه السلام بـ"أبي تراب"، فالنتيجة إذن هي أن آدم عليه السلام هو الأب الظاهري للبشر، أما الأب الحقيقي في عالم الباطن فهو أمير المؤمنين عليه السلام، لأن آدم من تراب، وعلي عليه السلام هو أبو تراب، فهو أبو آدم الذي هو أبو البشر!! فأي سُخفٍ بعد هذا السخف؟! وأيُّ تسفيهٍ أو استحمارٍ للعقول بعد هذا الهرج على منبرٍ أراد الله تعالى له أن يكون مصدر استمرار الرسالة السماوية؟!
أما النموذج الثالث (خطباء الغلو)، فأولئك الذين بلغوا حداً من الغلو في أهل بيت العصمة حتى جردوهم من الحالة البشرية وجعلوهم كالآلهة التي تمشي على الأرض، بينما أراد الله جل في علاه، بمشيئته وحكمته البالغة، أن يصطفي من خلقه من يشاء فيجعلهم نماذج للكمال الإنساني والعناية الإلهية بالبشر، ولو أراد أن يكونوا من خلق آخر لما عجز عن ذلك وهو الخالق القادر على كل شيء. قال عز من قائل (قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً)، وقال جل شأنه (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ…). فأين غاب هؤلاء عن قول أمير المؤمنين عليه السلام: "يهلك فيَّ رجلان: مُحِبٌّ مُفْرِط وباهتٌ مُفترٍ"، ومثله قوله عليه السلام: "هلك فيَّ رجلان: مُحِبٌّ غَال، ومُبْغِضٌ قَال".
ربما يعترض البعض على ما تقدم من كلام بالقول إن هذه حالات فردية لا يجب البناء عليها، ونجيب مقدماً على هذا الزعم بأنها للأسف لم تعد كذلك. ربما كانت في بداياتها حالاتٍ فردية، إلا أنها اليوم باتت مكررةً في أكثر من فرد وأكثر من بلد. ولو افترضنا جدلاً أنها حالاتٍ فردية، فإن الحاجة الملحة للحفاظ على المنبر الحسيني تقتضي أن يتم التصدي لهذه الانحرافات والعمل على وأدها في مهدها قبل أن تتفاقم، لاسيما وأن المتربصين بالمنبر الحسيني تحديداً لا يألون جهداً ولا إنفاقاً في السعي لزعزعة وإضعاف هذا المنبر، لأنه يمثل الحجر الوحيد الذي لايزال يقف عثرةً في طريق مطامعهم ومراميهم.
اللهم ثبتنا على ولاية الطاهرين، واهدنا سواء السبيل، وأحسن خواتيم أعمالنا إلى خير ما تحب وترضى، إنك أنت السميع المجيب، وصلي يا رب وزد وبارك على محمد وآله الطاهرين وارزقنا في الدنيا ولايتهم، وفي الآخرة شفاعتهم وتوفنا على هذا العهد برحمتك يا أرحم الراحمين.