نادر الملاح
11 يوليو 2024 – ليلة الخامس من محرم الحرام 1446هـ
بدايةً، وقبل استكمال الحديث في هذه السلسلة، نعزي صاحب العصر والزمان أرواحنا لمقدمه الشريف الفداء، ونعزي أنفسنا وأهلنا في البحرين عموماً وفي قرية الديه خصوصاً برحيل الرادود الشاب طالب الديهي مساء أمس الأربعاء الموافق 10 يوليو 2024، أثناء مشاركته في موكب عزاء أبي عبدالله الحسين عليه السلام. وعزاؤنا أن كانت أنفاسه الأخيرة رحمه الله أنفاس حزن وأسى في مصاب أبي عبدالله الحسين. اللهم تغمد الفقيد بواسع رحمتك، وأسكنه فسيح جنتك، واحشره اللهم في زمرة الطاهرين صلواتك وسلامك عليهم أجمعين، واخلف على عقبه في الغابرين، وألهم اللهم أهله وذويه الصبر والسلوان. إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
لابد لنا ونحن نتحدث عن مظاهر انحراف البوصلة في إحياء الشعائر المرتبطة بذكر أهل بيت العصمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، أن تكون لنا وقفة مع ما يسمى "دعاوى التجديد"، والتي نراها تنشط ويشتد عودها مع بداية كل موسم حسيني على وجه الخصوص، من مجموعة ممن يحلو لهم أن يصنفوا أنفسهم تحت عنوان "المثقفين"، وهم مجموعة غالباً ما يخلطون الحابل بالنابل، لا يعترفون بتخصص ولا مختص، يُنظِّرون في كل أمر، ويفقهون ما لا يفقهه أهل الاختصاص ممن أفنوا جُلَّ حياتهم في دراسة بابٍ من أبواب العلوم. مرجعيتهم العليا هي السيد قوقل، الذي باتت شعبيته مؤخراً تتضاءل مع ظهور مرجعٍ جديد اسمه شات جي بي تي (ChatGPT)، وفَّر عليهم ذلك الجهد اليسير الذي كانوا يضطرون إلى بذله مكرهين في فتح بعض الروابط والصفحات التي يقترحها السيد غوغل. فالمرجع الجديد، صار يكتب لهم في الفقه والفلسفة والمنطق والتفسير والطب والهندسة والبناء وحتى في تنظيف المراحيض أجل الله القارئ والسامع.
المؤسف أن هذه الدعاوى قد تغلغلت في أذهان شريحة واسعة من العامة، فصار عنوان "التجديد" تبريراً لكل انحراف أصله المزاج، لا سند له ولا دليل.. فالمقاطع التمثيلية المصاحبة لأغاني الرواديد (الفيديو كليب) هي تجديد في أسلوب التعزية، تعزية لا يرف معها جفنٌ فضلاً عن نزول دمعة حزنٍ صادقة.. وإدخال الخلفيات الموسيقية على اللطميات، بعلةٍ أو بغير علة هو تجديد، وظهور الخزي الذي أُطلق عليه اسم (الراب الحسيني) هو تجديد، وتصوير لطمية في مقبرة مسيحية دون أدنى علاقة بين الكلمات والمشاهد هو تجديد، وأخذ مقاطع من أبيات النعي لخطيب ما وإدخال الموسيقى عليها هو تجديد.. والدعوات المستمرة لنبذ البكاء والندب الذي أكد عليه أهل بيت العصمة صلوات الله وسلامه عليهم، والاكتفاء بعرض الدروس والعِبَر (حسب ظاهر هذه الدعوات) هو ضربٌ من ضروب التجديد.. وكذا هي دعوات تنقيح التراث الحسيني بنبذ كل ما لا تقبله عقولهم، حتى وإن كان ثابتاً سنداً ومتناً، والإشكال فقط هو عدم استساغة عقولهم القاصرة له، إنما هو تجديد.. وما التجديد في كل ذلك سوى "كلمة حقٍّ يُراد بها باطل"!! لذا، كان لابد من هذه الوقفة لرفع الغشاوة عن بعض العيون لعلها تفرِّق بين معنى (الجديد) الذي هو ابتداعٌ في الممارسة و(التجديد) الذي هو إحياءٌ وفق الضوابط والقيود الشرعية..
"التجديد" في اللغة هو جعل الشيء القديم جديداً. يقال "جَدَّدَ الدار" إذا رمَّم بعض أجزائها القديمة فبعث فيها الحياة مجدداً، أما إذا هدم الدار وأنشأ داراً جديدة بتفاصيل وهيئة مختلفة فلا يكون ذلك تجديداً بل بناءً جديداً، وإن كان على ذات الأرض وفي نفس حدودها. وإذا استأجر شخصٌ داراً أو مركبةً مثلاً، لمدة محددة، ثم أنقضى أجل الاستئجار، وتوافق الطرفان على الاستمرار في التأجير بنفس القيود والحدود، فيوصف الحال بأنه "تجديدٌ" لعقد الإيجار. وفي هذا المثال، لو افترضنا أن المؤجر وضع شروطاً جديدة أو زاد في الإيجار مثلاً، فإن الأمر لا يكون تجديداً للعقد بدل استبدال عقد سابق بعقد جديد. فعلى الرغم من أن الطرفين المؤجر والمستأجر لم يتغيرا، كما لم تتغير العين المؤجرة، إلا أن العقد صار "جديداً" وليس "مجدَّدا".. فما القاعدة التي يمكننا إذن من خلالها التمييز بين "الجديد" و "التجديد"؟! الجواب هو أنه متى ما تم البناء بهدم الثوابت والقواعد والأصول القديمة واستبدالها بقواعد جديدة، كان البناء جديداً مبتدعاً، ومتى ما كان الجديد إحياءً للقديم بقواعده وثوابته وأصوله لكي يظل قائماً مستمراً كان تجديداً.
وفي الاصطلاح الشرعي، فإن التجديد في الدين يقوم على ثلاثة محاورة هي إعادة رونق الدين وصفائه، وإحياء ما اندرس منه، ونشره بين الناس. أما الانقضاض على أصول الدين وثوابته وكلياته، وهدمها وإقامة أصول جديدة، فليس تجديداً وإنما هدمٌ للدين وإتيانٌ بدين جديد، كما هي حال ما يسمى بالدين الإبراهيمي اليوم، الذي يقوض أصول الدين تقويضاً كاملاً، ويطرح ديناً جديداً، باعتبار أن الشريعة المحمدية أصبحت باليةً قديمةً لا تناسب العصر الذي نعيش فيه.
وفق هذا المعنى، فإن التجديد يستلزم العمل على أحد المحاور الثلاثة أو أكثر من محور منها في آن واحد. فإما أن يكون التجديد بتخليص الدين من التراكمات السلبية التي ظهرت بسبب ممارسات وسلوكيات أتباع هذا الدين والمنتمين إليه، وهو ما يرتبط بالمحور الأول (إعادة رونق الدين وصفائه). أو أن يكون بإزالة البدع والخرافات التي ابتدعت في الدين وخيمت عليه بسبب الجهل أو قصور في الفهم مثلاً أو لغير ذلك من أسباب نجم عنها ظهور البدع والخرافات التي طمست بعض أصول وثوابت العقيدة وحلت الأصول المبتدعة محلها، وهذا ما يرتبط بالمحور الثاني (إحياء ما اندرس من الدين). أو أن يكون بنشر محاسن الدين في أبوابه المختلفة من العقائد والأحكام والأخلاق والمعاملات وسائر جوانب الحياة، وهو ما يرتبط بالمحور الثالث (إعادة نشر الدين بين الناس). وبهذا، يكون كل عمل خلاف هذه المحاور هو ابتداع لا تجديد، مهما أضفى عليه مريدوه من صفات أو ضرورات.
فعندما يؤكد الأئمة الأطهار عليهم ونبينا الكريم أفضل الصلاة وأتم التحية والسلام على أهمية البكاء، لدرجة أن يرد في تعاليمهم الإشادة لا بالبكاء فحسب بل بالتباكي، والتباكي هو التظاهر بالبكاء وإظهار الحزن وإن لم يكن له امتداد في داخل النفس، ثم يأتينا "المثقفون" ليحاربوا البكاء باعتباره مظهراً من مظاهر التخلف فيدعون إلى نبذ البكاء والاهتمام بالدروس والعبر على حد زعمهم، وكأن الإحياء بالبكاء والحزن يخلو من الدروس والعبر، فما ذلك إلا ابتداعٌ لا تجديد، وما تلك إلا دعوى باطل ظاهرها حق. وعندما يتصدى "المثقفون" لتسقيط المرجعية والتقليد ومقام العلماء بدعوى ظاهرها "نبذ التبعية" وباطنها "التحرر من القيود والضوابط الشرعية"، فما ذاك إلا ابتداعٌ لا تجديد. وعندما ينفق الرادود أموالاً وجهداً ووقتاً في ابتكار لحن موسيقي، حزيناً كان أو غير ذلك، وفيديو كليب يقوده إلى سباق (الترند) في وسائل التواصل الاجتماعي، فما ذلك إلا ابتداعٌ في إحياء الشعائر لا تجديداً فيها..
خلاصة القول هي أنه متى ما انتقل "التجديد" من كونه "وسيلة" للحفاظ على الموروث الفكري والعقائدي الذي حرص أئمة أهل البيت عليهم السلام ومن خلفهم العلماء الأجلاء على غرسه وتكريسه في النفوس، إلى كونه "هدفاً" في حد ذاته، فإن تضييع اتجاه البوصلة سيكون أمراً حتمياً، والسبيل لتفادي ذلك يكمن في التوقف لمحاكمة تلك الممارسات "التجديدية" وفق الضوابط والقيود التي تحكم عملية التجديد، فإن صمدت كان لنا أن نقبلها ونستمر فيها، وإلا فإن التراجع عنها إلى "القديم" المحكوم بالضوابط أولى من "الجديد" الذي وُلد وترعرع في حالة من الفوضى والتمرد على القيود.
اللهم ثبتنا على ولاية الطاهرين، واهدنا سواء السبيل، وأحسن خواتيم أعمالنا إلى خير ما تحب وترضى، إنك أنت السميع المجيب، وصلي يا رب وزد وبارك على محمد وآله الطاهرين وارزقنا في الدنيا ولايتهم، وفي الآخرة شفاعتهم وتوفنا على هذا العهد برحمتك يا أرحم الراحمين.