عمر النبي صلى الله عليه ما قبل البعثة هو أربعون عاما وهو أطول بما يقارب ضعفي عمره الشريف بعد البعثة الذي هو ثلاث وعشرون سنة مما يعنى أن حياته قبل البعثة أخذت أهمية كبرى في تشكيل الوعي الرسالي للتبليغ في حين أن بعض الأنبياء بدأت رسالتهم التبليغية كأنبياء ورسل قبل هذا بكثير فالنبي عيسى بدأ رسالته في المهد قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُۖ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا () يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا () فَأَشَارَتْ إِلَيْهِۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا () قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا () وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا () وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا () وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا[1]﴾ وهكذا نجد في القرآن واجه قومه وهو شاب فتي قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ و تَعَالَىٰ: ﴿قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ () قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ () قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَىٰ أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ () قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ () قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ[2]﴾ وهذا ما سنجده أيضا في أنبياء آخرين وهنا سؤلان مهمان:
الأول: هل هناك تمايز بين الأنبياء من حيث بدأ الدعوة؟ ولماذا؟
الثاني: ما هي العلة التي من أجلها تأخرت بعثة النبي صلى الله عليه وآله لقومه أربعون عاما؟
الجواب عن هذين السؤالين سيكشف لنا جانب من شخصية النبي صلى الله عليه وآله وموقعيته بين الأنبياء بالإضافة إلى نوعية المجتمع الذي يعيش فيه.
ربما يصعب أن نستحضر المقارنة بين جميع الأنبياء، ولكن قد نكتفي بالمقارنة بين نبوة نبيينا إبراهيم وعيسى عليهما السلام ونبينا محمد صلى الله عليه وآله.
مجتمع النبي صلى الله عليه وآله مقارنة بمجتمع النبيين إبراهيم وعيسى:
ولد النبي إبراهيم ببابل بالعراق وهي ما تسمى ببلاد ما بين النهرين دجلة والفرات التي هي من أقدم شعوب العالم إن لم تكن الأقدم على الإطلاق وقراءة سريعة لكتاب (حضارة بابل وآشور) لغوستاف لوبون ستتعرف على مجد هذه الحضارة العريقة فهي تتمتع بالمدنية الكاملة من حيث الزرع والخصب والتجارة والصناعة ومن حيث الهندسة المعمارية وفيها مختلف العلوم كعلم الطب وعلم النجوم والمعرفة الكافية بالملاحة البحرية وفي النهر وتمتاز بقوانين منظمة في الحكم والإدارة.
في زمن النبي إبراهيم عليه السلام كان الحاكم هو نمرود وكانت العبادة السائدة عبادة الأصنام بالإضافة إلى المعبودات الأخرى كالكواكب والشمس والقمر والنبي إبراهيم في وقت مبكر من عمره الشريف تعرض لهذه الديانات علميا وعمليا فالقرآن يصرح أنه عند تعرضه لتكسير الأصنام كان شابا فتيا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ[3]﴾
أما قوم عيسى فبالإضافة إلى كونهم أهل تمدن وحضارة فهم موحدون عقائديا وليسوا من المشركين وقد بدأت دعوته إليهم وهو في المهد
قد يكون السبب في سبق البعث لهذين النبيين عليهما السلام هو نفس الحالة المدنية المؤهلة للتعقل والقدرة على الحوار فالنبي إبراهيم عليه السلام عرض في رسالته طرقا متعددة من الحوار العلمي لإثبات التوحيد، بل أن أباء النبي ابراهيم كانوا موحدين ولم تنقطع النبوءات عنهم وأما بالنسبة للنبي عيسى فاليهود أصلا كانوا ينتظرون خروجه لهم فما يحتاجونه للتصديق هو الآية على صدق دعواه فكانت معجزة ولادته من غير أب وتكلمه في المهد، أما نبينا صلى الله عليه وآله فقد عاش في بلد متصحر لا مدنية فيه ولا هم أصحاب علم أو رقي عمراني ولا تحكمه قوانين منظمة، بل الفوضى هي التي كانت سائدة والنهب والسلب من القوي على الضعيف والحروب البينية لا تتوقف على أقل خلاف يحدث بين قبيلتين ولذا نجد القرآن عبر عن هذا القوم بالجاهلية قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ و تَعَالَىٰ: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ[4]﴾ وقد ذكر القرآن الكريم بعض ما يتصف به المجتمع الجاهلي منها:
- قَالَ سُبْحَانَهُ و تَعَالَىٰ: ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ () بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ[5]﴾
- قَالَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَىٰ: ﴿۞قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًاۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًاۖ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍۖ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْۖ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ[6]﴾
- قَالَ سُبْحَانَهُ و تَعَالَىٰ: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰۖ﴾ الأحزاب (33).
- قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ و تَعَالَىٰ: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ الفتح (26).
- وقد وصف الزهراء عليها السلام العهد الجاهلي بقولها "وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَة مِنَ النّار مُذْقَةَ[7] الشّارب وَنُهْزَة[8] الطامِع وقَبْسَةِ العِجْلان[9] وموطئ الأَقْدامِ تَشْرَبُونَ الطَرقَ[10].. وَتَقْتاتُونَ القِدَّ[11] وَالوَرق[12] أذِلَّةً خاسِئينَ تَخافُونَ اَنْ يَتخَطَّفَكُم النّاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ فَأَنْقَذكُمُ اللّه تَعالى بِمُحَمَّد بَعْدَ اللُّتَيّا وَالَّتي بَعْدَ أن مُنِيَ بِبُهْم الرجال وَذُؤبانِ الْعَرَب وَمَرَدة أهْلِ الْكِتاب..[13]"
وإذا ما أضفنا هذا إلى الجهل المطبق بالتعليم قراءة وكتابة كما نقل ذلك في العديد من الروايات وكتب المؤرخين فسنعلم الفارق الكبير بين البيئة في بلاد ما بين النهرين وفلسطين والبيئة التي عاشها النبي صلى الله عليه وآله قبل البعثة فهؤلاء من الصعب أن يحدث فيهم كلام النبي عيسى في مهده أو كلام النبي إبراهيم في فتوته أي تأثير يمكن أن يذكر.
هذا المجتمع احتاج أن يتعرف على النبي صلى الله عليه وآله بما يتسم هو من صفات تكون عند العرب وأهل البادية أنها مما يعظم بها شأن الشخص نفسه فالشجاعة والكرم والصدق والأمانة هي من الصفات التي يمكنهم من خلالها أن يجعلوا له وزنا وذا شأن وإلا فإن هناك مما ظهر لهم فيه ما يعد معاجز وكرامات للنبي صلى الله عليه وآله في طفولته وشبابه لم يعبؤا بها فمثلا الغمام الذي كان يظله طوال حله وترحاله لم يلفت انتباههم وبعض العلامات الكونية حين ولادته وما جرى له مع مرضعته حليمة السعدية وكيف نزل الخير على قومها ببركته بل حتى الشهادات التي سمعوها من بعض أهل الكتاب في حقه وأنه نبي هذا الزمان، كل هذا لم يعبؤا به ولم يعتبروه دلائل على نبوته أو تقدمهم عليهم وهذا ما يفسر نوع هذا المجتمع الذي يعيش الجهل المطبق وعدم إدارة دفة التفكير لتحريك وتحرير عقولهم.
هنا نصل إلى أن الدعوة لم تبدأ مبكرا لنقص في القابل وهو ذلك المجتمع وليس الأمر مرتبط بنفس النبي صلى الله عليه وآله فكانت مدة الأربعين سنة كافية لأن تلقي الحجة على أن النبي صادق في دعواه فقد أورد الطبرسي عليه الرحمة في كتابه الاحتجاج احتجاج النبي صلى الله عليه وآله على المشركين مما كانوا يستدلون به على كذب مدعاه بدعاوى متعددة ومنها أنه ساحر فقال لهم صلى الله عليه وآله "وأما قولك (ما أنت إلا رجل مسحور) فكيف أكون كذلك وقد تعلمون أني في صحة التميز والعقل فوقكم، فهل جربتم علي منذ نشأت إلى أن استكملت أربعين سنة خزية أو زلة أو كذبة أو خيانة أو خطأ من القول أو سفها من الرأي، أتظنون أن رجلا يعتصم طول هذه المدة بحول نفسه وقوتها أو بحول الله وقوته[14]"
إذا نفس الأربعين سنة من عمره مع عدم وقوعه فيما يشينه أو يزله في وسط مجتمع غارق في الملذات والمنكرات وغارق في سفاسف الأمور وقلة التدبير والمعرفة وغارق في وحل الكذب والافتراء وغارق في معارك النهب والسلب دليل على كونه من أنه مسدد من السماء لا من ذات نفسه من دون العناية الإلهية ولذا ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله "ولَقَدْ قَرَنَ اللَّه بِه (صلى الله عليه وآله) مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِه يَسْلُكُ بِه طَرِيقَ الْمَكَارِمِ - ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَه ونَهَارَه[15]"
هنا نصل إلى الجواب على السؤالين فالتمايز موجود في بدء البعثة بين النبي الأكرم ومن سبقه من الأنبياء نتيجة الظروف الموضوعية لكل مجتمع كما أن علة التأخير لأربعين سنة من عمر النبي أصبحت واضحة مما ذكر.
...................................................
[1] مريم (27-33).
[2] الأنبياء (59-63).
[3] الأنبياء (60).
[4] المائدة (50).
[5] التكوير (8-9).
[6] الأنعام (151).
[7] مذقة الشارب - بضم الميم - شربته وهو ما يذاق ويشرب مثل الغرفة بمعنى ما يغرف (اللمعة البيضاء - التبريزي الأنصاري - الصفحة ٦١١)
[8] (النهزة) بالضم الفرصة من قولهم: انتهزها أي اغتنمها وبادر وقتها، وناهزتهم الفرص أي بادرتهم إليها.. والمراد من كونهم مذقة الشارب كونهم قليلين، ومن كونهم نهزة الطامع كونهم محل نهزته كناية عن القلة أيضا أي كنتم أذلاء قليلين يكاد أن يتخطفكم الناس بسهولة، وكذا قولها (عليها السلام): وقبسة العجلان وموطئ الأقدام (اللمعة البيضاء - التبريزي الأنصاري - الصفحة ٦١١)
[9] (القبسة) بالضم شعلة من نار تقتبس من معظمها وكذلك القبس والمقباس، واقتباسها الأخذ منها.. والإضافة إلى العجلان لبيان القلة والحقارة، والعجلان صفة من العجلة (اللمعة البيضاء - التبريزي الأنصاري - الصفحة ٦١2)
[10] (الطرق) بالتحريك أو بالفتح فالسكون ماء السماء الذي تبول فيه الإبل وتبعر (اللمعة البيضاء - التبريزي الأنصاري - الصفحة ٦١2)
[11] (القد) وهو بكسر القاف وتشديد الدال سير يقد من جلد غير مدبوغ، كناية عن كون أكلهم من الأشياء الخشنة كالورق والقد، وكون شربهم من المياه العفينة كالنقيع والطرق.
وحاصل المراد من الفقرات المذكورة وصفهم بخباثة المشرب وخشونة المأكل، لعدم اهتدائهم إلى ما يصلحهم في دنياهم لفقرهم، وقلة ذات يدهم، وخوفهم من الأعادي (اللمعة البيضاء - التبريزي الأنصاري - الصفحة ٦١3)
[12] (الورق) بالتحريك ورق الشجر، والمراد بيان احتياجهم إلى أكل مثله لغاية الفقر والمجاعة (اللمعة البيضاء - التبريزي الأنصاري - الصفحة ٦١3)
[13] الاحتجاج، ج ١، أحمد بن علي الطبرسي، ص ١٤٥
[14] الاحتجاج، ج ١، أحمد بن علي الطبرسي، ص ٤٠-41
[15] نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( ع ) ( تحقيق صالح )، ص ٣٠٠