نادر الملاح
12 يوليو 2024 – ليلة السادس من محرم الحرام 1446هـ
جاء التأكيد على أهمية زيارة المراقد الشريفة للسادة المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، على لسان الأئمة عليهم السلام. وتنوع هذا التأكيد بين الترغيب بالتعريف بعظيم الأجر والثواب والكرامة في الدنيا والآخرة، وبين العتاب على ترك الزيارة ولو في أبسط صورها من خلال الزيارة والتسليم عن بعد. ونستذكر ونحن نعيش أيام أبي عبدالله الحسين عليه السلام بعض الروايات الشريفة في فضل زيارة سيد الشهداء عليه السلام، والتي تتمتع بخصوصية فريدة، مع أن فضل الزيارة في كلام أهل البيت عليهم الصلاة والسلام غير محصور في زيارة الحسين وإنما يشمل جميع المراقد المقدسة.
روى الكليني قدس سره الشريف في الكافي (ج4 ص582)، عن الحسين بن محمد قال: قال أبو الحسن بن موسى عليه السلام: "أدنى ما يثاب به زائر أبي عبدالله عليه السلام بشط الفرات إذا عرف حقه وحرمته وولايته أن يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر". وعن الإمام الصادق عليه السلام: "ما من أحد يوم القيامة إلا وهو يتمنى أنه من زوار الحسين لما يرى مما يُصنع بزوار الحسين عليه السلام من كرامتهم على الله تعالى" (الوسائل للحر العاملي، ج14 ص424)، وعنه أيضاً: "من سرَّه أن يكون على موائد النور يوم القيامة فليكن من زوار الحسين بن علي عليه السلام" (بحار الأنوار، ج101، ص72)، وكذلك: "من أراد أن يكون في جوار نبيه صلى لله عليه وآله وجوار علي وفاطمة فلا يدع زيارة الحسين بن علي عليه السلام" (كامل الزيارات، ص260 ح392). وفي مستدرك الوسائل (ج10 ص115)، عن زيد الشحام قال: "قلت لأبي عبدالله عليه السلام (يعني الإمام الصادق): ما لمن زار قبر الحسين عليه السلام؟ قال: كان كمن زار الله في عرشه". وروى الكليني في الكافي (ج4 ص58) عن باقر علوم الأولين والآخرين عليه السلام أنه قال: "أربعة آلاف ملَك شعثٌ غُبر يبكون الحسين عليه السلام إلى أن تقوم الساعة، فلا يأتيه أحدٌ إلا استقبلوه، ولا يرجع أحدٌ إلا شيعوه، ولا يمرض إلا عادوه، ولا يموت إلا شيَّعوه".
عندما يقرأ إنسان هذه الروايات والأحاديث الشريفة، وغيرها المئات، فلا تتولد في نفسه رغبةٌ عارمة لأن يقضي عمره في تلك البقاع المقدسة، فضلاً عن زيارتها، فلابد له أن يبحث عن موطن الخلل في نفسه وفي اعتقاده بحق الأئمة الطاهرين المطهرين وعظيم مقامهم عند الله تعالى. فهذه الأحاديث لم ينطق بها الأئمة المطهرون عليهم السلام من باب العاطفة، ولا من باب إثبات الهوية، ولا من باب المجابهة السياسية للأنظمة، ولا غير ذلك من الأمور، بل هي إخبارٌ غيبي بما يترتب على هذه الزيارات من عظيم الأجر والثواب والكرامة في الدنيا والآخرة.
هنا يبرز السؤال: هل أن هذا الجزاء مُدَّخرٌ لكل زائر بالمعنى العام للزيارة، أم أنه مخصوصٌ ومقيَّد؟! وجواب هذا التساؤل نجده في جملة من الأحاديث الشريفة، التي قيَّدت هذا الجزاء الوافر والآثار المترتبة على الزيارة من غفران الذنوب ودخول الجنة ومجاورة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وغيرها من أشكال الثواب، بقيدٍ محدد، هو "عارفاً بحقه". فقد ورد في شأن زيارة أمير المؤمنين عليه السلام، وكذا في زيارة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام أن من زاره عارفاً بحقه وجبت له الجنة. وكذا في بعض أحاديث زيارة الإمام الحسين عليه السلام، كما في الحديث المتقدم عن الإمام الرضا عليه السلام: "أدنى ما يثاب به زائر أبي عبدالله عليه السلام بشط الفرات إذا عرف حقه وحرمته وولايته أن يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر". فما المقصود بمعرفة حق الإمام؟!
قيلَ وسيقال الكثير في تفسير معنى (عارفاً بحقه)، وكله قولٌ حسنٌ لا إشكال فيه ولا اعتراض عليه، إلا أننا بُغية فهم هذا القيد من مصدره، لابد وأن نرجع إلى بعض الأحاديث الشريفة التي أوردت هذا القيد للبحث عن قرائن أو شواهد تدلل على المعنى المراد من هذا التعبير، فلا نتأول المعنى إذا كان الأئمة عليهم الصلاة والسلام قد بينوه ووضحوه. من جملة تلك الأحاديث ما رواه ابن قولويه بإسناد متصل عن الإمام الصادق عليه السلام، حيث قال: "من زار الحسين عليه السلام عارفاً بحقه يأتم به، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" (كامل الزيارات، ص264 ح 402). ففي هذا الحديث لم يفصل الإمام عليه السلام (يأتم به) عن (عارفاً بحقه) بأي فاصل من حرف عطفٍ أو غيره، ما يعني أن تعبير (يأتم به) جاء شارحاً لتعبير (عارفاً بحقه) لا مغايراً له كأن نقول مثلاً (عارفاً بحقه ويأتم به)، فتكون المعرفة أمرٌ والائتمام أمرٌ آخر. والنتيجة هي أن معرفة حق الإمام تستلزم أن يأتم به العارف، والائتمام يقتضي بالضرورة الاعتقاد بإمامة الإمام والعلم بحجيته وأنه مفترض الطاعة. وهذا الفهم يتماشى تماماً مع ما بينه الإمام الصادق عليه السلام في تفسيره للعبارة (عارفاً بحقه) في حق الإمام الرضا عليه السلام، حيث قال: "يعلم أنه مفترض الطاعة غريب شهيد" (أمالي الصدوق، ص121)، وكذلك ما جاء على لسان محمد بن سليمان (أحد أصحاب الإمامين الرضا والجواد عليهما السلام)، مخاطباً الإمام الجواد: "…عارفاً بحقك، يعلم أنك حجة الله على خلقه، وبابه الذي يؤتى منه…" (الكافي، ج4 ص584).
بجمع هذه المضامين والمعاني، يكون المراد بتعبير (عارفاً بحقه) مُقرًّا بإمامته وولايته ووجوب طاعته (يعلم أنه مفترض الطاعة)، ومُتَّبِعاً مُقتدِياً به في البعد العملي (يَأتم به). أي أن هذا العرفان بحق الإمام المعصوم عليه السلام يقوم على ركنين أساسيين هما الاعتقاد والاتباع. وهذا يعني أن مجرد الاعتقاد بإمامة الإمام ومكانته دون الاتباع العملي يُعتبرُ إخلالاً بالقيد الذي قيَّد تحصيل الجزاء الوافر للزيارة في الأحاديث الشريفة. وبمعنى آخر، فإن الزيارة مع الاعتقاد دون الاقتداء العملي لا يترتب عليها الأثر من غفران الذنوب وتحصيل الأجر ودخول الجنة نتيجة الزيارة. وهذا المعنى هو المعنى الذي يتماشى مع قول أمير المؤمنين عليه السلام: "سألتُ النبي صلى الله عليه وآله عن الإيمان، فقال: تصديقٌ بالقلب، وإقرارٌ باللسان، وعملٌ بالأركان" (بحار الأنوار، ج66 ص68)، وكذا ما أورده الطوسي في آماليه (ج1 ص379) عن الإمام الرضا عن آبائه عليهم السلام، قال: "قال أمير المؤمنين عليه السلام: الإيمان إقرارٌ باللسان، ومعرفةٌ بالقلب، وعملٌ بالجوارح".
بعد هذه المقدمة، وعوداً على موضوع سلسلة الرسائل، وهو مظاهر انحراف البوصلة في إحياء الشعائر، نقول: إن بعض الممارسات المرتبطة بزيارة المراقد الشريفة تحتاج إلى الالتفات، وبعضها الآخر يحتاج إلى وقفة جادة من قبل المعنيين لتصحيح المسار. أما الفئة الأولى من تلك الممارسات، فترتبط بالزوار، وهي تلك التي تتمثل في مسألة التوجه القلبي نحو الزيارة، وعدم الاكتفاء بالمعنى القشري المتمثل في التواجد الجسدي في تلك البقاع الطاهرة. فمثلاً، مسألة التذمر والخلافات والمشادات والمشاحنات التي كثيراً ما نراها سواء في داخل المجموعة الواحدة من الزوار، أو بين المجموعات، أو بين بعض الزوار في حضرة الإمام صلوات الله وسلامه عليه، هي مسألة لا ينبغي الاستهانة بها، لأنها تؤذي الإمام المعصوم عليه السلام، ولا تنم عن الالتزام العملي بخط الإمامة. وكذلك مسألة إظهار الاستياء نتيجة الازدحام عند المراقد الشريفة ونعت الزائرين ببعض النعوت غير اللائقة، أو النظر إلى فئة معينة من الزوار بنظرة دونية، لدرجة أن البعض لا يخجل من الجهر بأنه لو يتم منع الزوار من البلد الفلاني لكانت الزيارة بخير، ويقول آخرون لولا الزوار الفلانيين لكانت الزيارة على ما يرام، وما شابه ذلك من العبارات التي لا تنم عن حالة التوجه القلبي والالتزام العملي في الزيارة.. كذلك مسألة مزاحمة الآخرين وحجز الأماكن للجلوس أو الصلاة والأحاديث الجانبية في أمور الدنيا، والانشغال بالهواتف، وما شابه ذلك من ممارسات ربما يستصغرها البعض ولا يلتفت إليها البعض الآخر.
أما ما يستلزم الوقفة الجادة للتصحيح، فالمخاطب بها أساساً هم أصحاب حملات الزيارة، ونكتفي في ذلك بالإشارة إلى ثلاث صور رئيسة. الصورة الأولى هي مسألة فصل هذه الشعيرة الدينية عن العمل في مجال السياحة، حيث نرى العديد من الحملات بغرض جذب الزبائن، تطرح إعلانات برامجها للزيارة والتي تشتمل على كذا يوم عند المرقد الفلاني، وكذا يوم عند المرقد الفلتاني، وكذا يوم زيارة سياحية للمنطقة الفلانية في الشمال أو الجنوب، وجولة في الجبل الفلاني.. عفواً أيها السادة.. زيارة البقاع المقدسة ليست رحلةً سياحية.. ومقدماً نقول: نعم السياحة غير محرمة ولا ممنوعة، لكن ربطها بزيارة البقاع المقدسة بهذه الكيفية إنما يقلل من شأن الزيارة إذ يحولها إلى فقرة أو محطة سياحية ضمن برنامج عام للسياحة، حتى وإن تم استعارة عنوان الزيارة الدينية لهذا البرنامج.
أما الصورة الثانية، فتتمثل في مسألة الترف والمبالغات في الحملة، والتي تنعكس بدورها على التكلفة. فالكثير من الناس يتوقون إلى زيارة البقاع المقدسة، إلا أن ضيق ذات اليد لا يمنحهم الفرصة لذلك. لذا، فإن التخلص من مظاهر الترف والكماليات والمبالغات، يساهم في خفض التكلفة، وبالتالي عدم حرمان المعسر وذوي الحال الضعيفة من التشرف بزيارة مراقد الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
الصورة الثالثة والأخيرة، هي صورة تتعلق ببعض المشاهد التي للأسف أخذت في الانتشار في السنوات الأخيرة، وهي مسألة الأنشطة التي تنظمها بعض الحملات في مقر السكن، من احتفالات لا علاقة لها بالأمور الدينية لا من قريب ولا من بعيد، ومسابقات وفعاليات تسلية متنوعة، وغير ذلك مما يُفرِّغ رحلة زيارة المراقد الشريفة من محتواها الذي أراده لها أئمة أهل البيت عليهم السلام. رسالتنا إلى أصحاب الحملات هي أن لا يتم التعامل مع الزوار على أنهم زبائن وعملاء الغرض من التنافس على اجتذابهم هو تحقيق المكاسب المالية على حساب البعد الديني للزيارة. وحتى لا تُفهم هذه الرسالة بصورة قاصرة، نقول ليس تحقيق المكاسب والأرباح المالية أمراً مشيناً ولا عيباً، ونعلم ويعلم الجميع أن هذا العمل يمثل مصدر رزق بالنسبة للحملات، وإنما لا يجب أن تكون تجارة الدنيا مقدمة على المتاجرة مع الله، ولا يكون السعي لزيادة الأرباح من خلال خلق الأرضية لإضعاف تعلق الزائرين بالزيارة التي هي الغرض الرئيس من التواجد في تلك الحملة.
اللهم ثبتنا على ولاية الطاهرين، واهدنا سواء السبيل، وأحسن خواتيم أعمالنا إلى خير ما تحب وترضى، إنك أنت السميع المجيب، وصلي يا رب وزد وبارك على محمد وآله الطاهرين وارزقنا في الدنيا ولايتهم، وفي الآخرة شفاعتهم وتوفنا على هذا العهد برحمتك يا أرحم الراحمين.