نادر الملاح
13 يوليو 2024 – ليلة السابع من محرم الحرام 1446هـ
لا يكاد يخلو مجلسٌ خطابي في أهل بيت العصمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين من ذكر (لسان الحال)، نثراً أو شعراً. فتارةً يقول المتحدث في وصف موقف ما (قال بلسان الحال) أو (فأجاب بلسان الحال) أو (كأني به يقول..) أو (وكأنه فعل كذا وكذا..)، وغير ذلك من العبارات الدالة على لسان الحال. فما هو (لسان الحال) وما هي قيود وحدود توظيفه في الحديث عن أهل بيت العصمة، شعراً ونثراً؟!
يُعرَّف لسان الحال في الاصطلاح الفقهي على أنه "ما دل على حالة الشيء من ظواهر أمره"، وهو قولٌ يقابل (لسان المقال)، الذي هو عين الألفاظ التي تم النطق بها. فلسان الحال أسلوبُ بيانٍ لما يقتضيه حال المتكلم من خلال الاطلاع على مُجمل أفعاله أو حركاته أو ملامحه أو أفق تفكيره أو غير ذلك من أمور عدا لسان المقال. أي أن الحاكي يُخبر بحال المحكي عنه بصياغات مجازية من خلال استنطاق الحركات والسكنات والإشارات والمواقف، وكأن الحاكي يقول: لو أن هذا الشخص كان قد تكلم في هذا الموقف لكان قال كذا وكذا، وهو قولٌ لم يصدر عنه حقيقةً بل أخبَرَ به حاله. ولذلك سُمِّي لسان الحال.
قال أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين (ج1 ص178) في تعريف لسان الحال: "هو نطقٌ وراء نطق المقال، يُشبه قول القائل، حكايةً لكلام الوتد والحائط، قال الجدار للوتد: لم تشقَّني؟ فقال: سل من يدقني". وقال السيد الطباطبائي: "هو انكشاف المعنى عن الشيء لدلالة صفةٍ من صفاته وحالٍ من أحواله عليه، سواءً شعر به أم لا" (الميزان في تفسير القرآن، ج8 ص308).
وقد ذهب بعض المفسّرين والباحثين إلى وجود أُسلوب لسان الحال في النصّ القرآني الشريف في عدة آيات كريمة، إما بشكل قطعي أو بنحو الاحتمال. ومثال ذلك الآية 172 من سورة الأعراف (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ). قال صاحب الميزان (ج8 ص308): "وعلى هذا، يكون قولهم (بلى شهدنا) من قبيل القول بلسان الحال".
كذلك جاءت الإشارة إلى لسان الحال في بعض الروايات الشريفة، ومنها ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لسان الحال أصدق من لسان المقال" (عيون الحكم والمواعظ، 420)، و "أصدق المقال، ما نطق به لسان الحال" (ميزان الحكمة، ج2 ص1574). وجاء في رثاء أمير المؤمنين عليه السلام لبضعة رسول الله صلى الله عليه وآله:
مَالِي وَقَفْتُ عَلَى الْقُبُورِ مُسَلِّماً *** قَبْرَ الْحَبِيبِ فَلَمْ يُرَدَّ جَوَابِي
أَحَبِيبُ مَا لَكَ لَا تَرُدُّ جَــــوَابَنَا *** أَنَسِيتَ بَعْدِي خُلَّةَ الْأَحْـبَابِ
قَالَ الْحَبِيبُ وَكَيْفَ لِي بِجَوَابِكُمْ *** وَأَنَا رَهِينُ جــنَاَدِلٍ وَتُرَابِ
وجاء أيضاً في الأبيات التي أنشدها الإمام الهادي عليه السلام عندما أصر عليه المتوكل العباسي، والتي كان مطلعها:
أينَ المُلوكُ وأبناءُ المُلوكِ وَمَــنْ *** قادَ الجُيُوشَ ألا يا بِئسَ ما عَملوا
بَاتُوا عَلَى قُلَلِ الْأَجْبَالِ تَحْرُسُهُمْ *** غُلْبُ الرِّجَـــالِ فَلَمْ تَنْفَعـهُــمُ القُلَلُ
إلى أن قال:
نَادَاهُمُ صَارِخٌ مِنْ بَــعْــدِ دَفْـنِهِمُ *** أَيْنَ الأَسِـــــرَّةُ وَالتِّيْجَــانُ وَالْحُـلَلُ
أَيْنَ الْوُجُوهُ الَّتِي كَــانَتْ مُنَعــَّمَةً *** مِنْ دُونِها تُضْرَبُ الْأَسْتَارُ وَالْكِلَلُ
فَأَفْصَحَ الْقَبْرُ عَنْهُمْ حِينَ سَاءَلَهُمْ *** تِلْكَ الْوُجُوهُ عَلَيـْــهَا الــدُّودُ يَـقْتَتِلُ
وقد وظَّفَ شعراء الطف منذ زمن الواقعة حتى اليوم (لسان الحال) توظيفاً ربما كان الأكثر بين غيره من الشعر، سواءً في الشعر الفصيح أو النبطي. وتفاوتت آراء الفقهاء في ذلك بين مُجوِّزٍ ومُحرِّم. وأبرز من قالوا بالمنع هو الشيهد السيد محمد باقر الصدر قدس سره الشريف، حيث تبنى في كتابه (أضواء على ثورة الإمام الحسين عليه السلام) القول بعدم الجواز بعد أن أورد جملة من الإشكالات، إلا أنه تنبغي الإشارة إلى أنه رغم هذا الطرح، لم تُنقل عنه فتوى بهذا المضمون (والله أعلم)، والكتاب المذكور هو كتابٌ بحثي لا فتاوائي.
أما الجواز، فقد قال به أكثر الفقهاء المعاصرين، ومنهم السيد الخوئي قدس سره الشريف، وكذا جمعٌ من تلامذته وفي مقدمتهم السيد السيستاني والشيخ الفياض والشيخ جواد التبريزي والشيخ الوحيد، وغيرهم، مع ملاحظة لم يقل أحدٌ منهم بالجواز المطلق، وإنما بشروط، وإن تفاوتت تلك الشروط من فقيهٍ لآخر.
وقد جاءت فتوى السيد السيستاني دام ظله الوارف، رداً على سؤال: "هل يجوز التكلم بلسان المعصومين عليهم السلام بالقصائد الحسينية، بحيث يطلق الكاتب عنان خياله في تصوير الأحداث، واختلاق الكلام والمواقف؟ وهل يجوز تداولها بين المؤمنين؟"، فكان جوابه على النحو الآتي: "باسمه تعالى: إنّما يجوز التكلّم بلسان حال المعصومين، فيما يُعتبر تمثيلاً صادقاً لأحوالهم ـ وفق المعايير الأدبيّة المتعارفة في أمثال ذلك ـ من دون إساءة إلى مقامهم الشريف، ومن ثَمّ يجب على المتكلّم بلسان الحال الاطلاع على الحوادث التاريخيّة، واستنطاق أحوالهم من خلالها، لتجسيدها بصورة أدبيّة مناسبة، بعيداً عمّا يُعتبر من قَبيل المبالغة والاختلاق، والكذب بالمقياس الأوَّلي، كما أنّ جواز تداولها يخضع للمقاييس التي أشرنا إليها" (الموقع الإلكتروني الرسمي لسماحة آية الله العظمى السيد السيستاني، أسئلة حول الشعائر).
من خلال قراءة هذه الفتوى، نجد أن السيد السيستاني حفظه الله قد جعل جواز استخدام (لسان الحال) بالنسبة للمعصومين عليهم السلام محكوماً بثلاثة شروط، هي أولاً: أن يكون لسان الحال تصويراً صادقاً وحقيقياً لأحوال المعصومين عليهم السلام، بعيداً عن الخيال والمبالغة والكذب، وإلا كان ممنوعاً. وثانياً: أن يراعي القائل المعايير الأدبية المتعارفة عند الأدباء في كتابة لسان الحال. وثالثاً: أن يكون القائل بلسان الحال مطَّلِعاً على الحوادث التاريخية والشخصية للواقعة، أو الشخص الذي ينطق بلسان حاله.
وعلى ميزان هذه الفتوى وما تضمنته من شروط، نتساءل: هل كل شعرٍ أو نثرٍ بين أيدينا اليوم لوصف واقعة الطف تتوافر فيه هذه الشروط؟! الجواب قطعاً: كلا. فوفق هذه الفتوى، كل شعرٍ أو نثر، ويشمل ذلك من ينظم الشعر ومن يلقيه، كما يشمل سرد الخطيب للأحداث، لم تتوافر فيه الشروط الثلاثة مُجتمِعة، فهو غير جائز.
من هنا، فإن المتعين على الشعراء بالدرجة الأولى مراعاة هذه المعايير في ما ينظمون من قصائد، لاسيما وأن القصيدة الشعرية تحتل مساحة واسعةً وبالغة التأثير في مسألة إحياء الشعائر. ولا يكفي، والحال هذه، أن يبرر الشاعر أي قولٍ قد ينطوي على الإساءة إلى المعصوم بأنه (لسان حال). ولا ينحصر هذا الأمر في نسبة القول إلى المعصوم بل يمتد ليشمل فعله أيضاً. فعلى سبيل المثال لا الحصر، عندما يصف الشاعر خروج الحسين عليه السلام من المدينة خائفاً، كخروج موسى خائفاً يتكتم، فهو يصف حال الحسين عليه السلام، إلا أن هذا الوصف مغايرٌ للواقع، إذ لا مطابقة بين الخروجين، خروج الحسين عليه السلام من المدينة، وخروج موسى عليه السلام من مصر. فالقرآن الكريم يصف خروج موسى عليه السلام بقول الباري عز وجل: "فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" (القصص، 21)، بينما كان خروج الحسين عليه السلام في موكب مهيبٍ، في وضح النهار، وقد أعلن شعار ثورته: "…وأني لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالما، وإنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي…"، فلم يكن لا خائفاً ولا متكتماً!!
وكذا هي الحال مثلاً عندما ينسب الشاعر إلى العقيلة زينب عليها السلام القول بأنها طلبت من الحسين أن يعيدها إلى المدينة، إذ يُصوِّر لسان الحال هنا عقيلة الهاشميين على غير ما كان عليه الواقع، وهي التي كانت مُهيئةً تماماً، ومسلِّمةً لله كل التسليم، ومؤتمرةً طائعةً لإمام زمانها غير مخالفة له، ومُستعدةً كل الاستعداد للقيام بدورها الرسالي بعد استشهاد الحسين عليه السلام.
وبالدرجة الثانية، فإنه يتعين على الخطباء الأفاضل، عدة أمورٍ في هذا الشأن، أولها انتقاء القصائد والأشعار المتوافقة مع شروط الجواز السالفة الذكر، لا أن يكون المعيار هو تداول الماضين، ولا مسألة تهييج العاطفة لدى المعزين، ولا اللحن ولا غير ذلك من الأمور. كذلك يتعين على الخطيب أن يحرص في حديثه على البيان، سواءً عند السرد أو عند قراءة المراثي والأشعار، لكي يميِّز السامعُ بين لسان مقال المعصوم، ولسان حاله. كما ينبغي أن يكون الخطيب مطلعاً اطلاعاً وافراً على الأحداث التاريخية لا أن يكتفي بالنقل سماعاً، أو بمطالعة مصدر أو مصدرين واعتبار أن ما ورد في تلك المصادر هو عين الواقع. فالمؤسف حقاً أن بعض الخطباء، ولا نعمم في هذا القول، يعتمد في سرده للأحداث على ما يحفظ من قصائد، فيجعل السرد مطابقاً لما نظمه الشاعر. وقد ساهم هذا الأمر عبر السنوات في تكريس بعض الصور المغايرة للواقع، ومنها على سبيل المثال حالة الانكسار والضعف عند عقيلة الهاشميين عليها السلام، بينما تشير المصادر، وتؤكد الروايات الثابتة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام، إلى أنها كانت جبلاً من الصبر والصمود لدرجةٍ أذهلت حتى الأعداء. ولا أدل على ذلك من وقوفها في مجلس قاتل سبط النبي الأكرم وأهل بيته وأصحابه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وقد خاطبها اللعين بقوله: "الحمد لله الذي فضحكم وأكذَب أحدوثتكم"، فأجابته عليها السلام من فورها ودون تردد أو تباطؤ: "إنما يفتضحُ الفاسق، ويكذب الفاجر، وهو غيرنا"، فقال اللعين: "كيف رأيتِ صُنعَ اللهِ بأخيك وأهل بيتك؟"، فتجيبه عليها السلام: "ما رأيتُ إلا جميلا، هؤلاء قومٌ كتب الله عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاجَّ وتُخاصم، فانظر لمن الفَلَجُ يومئذٍ، ثكلتك أمك يا بن مرجانة".
اللهم ثبتنا على ولاية الطاهرين، واهدنا سواء السبيل، وأحسن خواتيم أعمالنا إلى خير ما تحب وترضى، إنك أنت السميع المجيب، وصلي يا رب وزد وبارك على محمد وآله الطاهرين وارزقنا في الدنيا ولايتهم، وفي الآخرة شفاعتهم وتوفنا على هذا العهد برحمتك يا أرحم الراحمين.