نادر الملاح
14 يوليو 2024 – ليلة الثامن من محرم الحرام 1446هـ
لا يمكن للعقل أن يتصور أن اهتمام أهل بيت العصمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بمسألة إحياء الشعائر الحسينية، وتشجيعهم المتكرر والمكثف على هذه المسألة ينطلق من منطلق العاطفة الجوفاء. فبكاء الأئمة، وقبلهم بكاء الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، وبكاء أمير المؤمنين وسيدة نساء العالمين والإمام المجتبى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، حتماً ليس بدافع القرابة أو العاطفة، وإنما لخصوصيةٍ ما في مقتل الإمام الحسين عليه السلام، وأحد جوانب هذه الخصوصية نستبينها من الحديث الشريف "حسين مني وأنا من حسين"، والذي يُبيِّن ماهية الحسين عليه السلام من حيث أنها ثورة إحياءٍ لمعالم الدين، ما يستلزم الإبقاء على هذه الشعلة التي أشعلها أبو عبدالله الحسين عليه السلام بدمه الطاهر ودماء أهل البيت وخيرة الأصحاب صلوات الله عليهم مشتعلةً متوقدةً عبر الزمن، ورغم العقبات والمساعي الرامية إلى إجهاضها أو حرفها عن مسارها. لذا، تبنى كبار العلماء الأفاضل مقولة "كل أرض كربلاء، وكل يوم عاشوراء"، والتي ربما أخذها البعض مأخذاً سطحياً جداً، ولم يتمعنوا في أبعادها. إذ ليس المراد من هذا القول أنَّ أي معركة بين الحق والباطل قابلة لأن تكون كربلاء أخرى، وليس أي ثائر يمكن أن يكون حسيناً آخر، فهذا الفهم فهمٌ ناقص لا علاقة له بالعبارة لا من قريبٍ ولا من بعيد. وإنما المراد هو أن صراع الحق والباطل هو صراعٌ أزلي أبدي، حتى يكون وعد الله تعالى بخروج قائم آل محمد عجل الله تعالى فرجه الشريف، فيملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت ظلماً وجورا. وبالتالي، فإن التعامل مع الباطل يجب أن يكون بالمواجهة وعدم المهادنة. لذا، فإن كل أرضٍ كربلاء من حيث هذا الصراع بين الحق والباطل الذي لا مكان فيه للحياد، وكل يومٍ عاشوراء من حيث هذا السلوك الذي لا يكون إلا في مرضاة الله جل شأنه.
بهذا الفهم، يمكن أن نقف على أحد أبعاد مسألة إحياء الشعائر الحسينية تحديداً، وإحياء سيرة الأئمة المعصومين عليهم السلام عموماً، وهو البعد المتمثل في التأثير الإيجابي في سلوك الإنسان، والذي يكون نابعاً من حجم المسؤولية الملقاة على عاتق المكلَّف.
وفق هذه المعادلة، تكون الشعائر في موقع المؤثِّر، أي أن هذه الشعائر لابد وأن تترك أثرها الإيجابي على سلوك العامة. ولتقريب الصورة، لو نظرنا في شعائر الحج والعمرة باعتبارها من شعائر الله التي لا خلاف في مسألة الموقوفية فيها، فنجد مثلاً أن جانباً من جوانب الحكمة في مسألة الطواف حول البيت العتيق يتمثل في مسألة مركزية التوحيد. فجميع المسلمين، بغض النظر عن انتماءاتهم ومذاهبهم وقناعاتهم، يطوفون حول ذات المركز معلنين التوحيد الخالص لله جل شأنه، وجميعهم يسعون بين الصفا والمروة سعياً في سبيل الله، وكلهم يقفون في عرفة مناجين سائلين الله تعالى من فضله، وكلهم يرجم الشيطان من خلال رمي الحصيات على الجمرات الثلاث، وهكذا. هذه الممارسات والشعائر، هي ممارسات وعبادات فعلية، أي تقتضي الفعل، وبالتالي، فإنه لابد وأن يكون لها تأثير على سلوك الأفراد والجماعات. فإذا لم تترك هذا الأثر من حيث تغيير السلوك، فإن جُلَّ ما يحصل عليه العبد من ممارسته لهذه الشعائر هو الإتيان بواجب الحج الذي تعلق في ذمته مع الاستطاعة، واكتساب الأجر والثواب الذي وعده به الله سبحانه وتعالى، ليس إلا.
فالغرض من شعائر الله إذن، وجميع شعائر الله هي ممارسات فعلية، هو التأثير في سلوك الفرد والجماعة. وليست شعائر عاشوراء الحسين عليه السلام خارج هذا الإطار، ذلك أنها من شعائر الله جل شأنه، ما يعني وجوب أن نضعها في موضع (المؤثِّر) في السلوك، فإذا لم تترك هذا الأثر، فإن المسألة تحتاج إلى مراجعة، لا للمؤثر، الذي هو الشعائر، وإنما للسلوك والممارسة.
بهذا، يتضح أن العلاقة بيننا وبين الشعائر، هي علاقة المتأثر (نحن) بالمؤثر (الشعائر). ومن هنا نقف عند مسألة مهمة، وهي أن ترك أمر توجيه الشعائر بيد العوام، هو حرفياً، قلبٌ للمعادلة وتبديلٌ في الأدوار. أي أن الشعائر تكون هي المتأثر برأي وأذواق الناس، ويكون الناس هم المؤثِّر في تحديد ووصف الشعائر، وإدخال بعض الممارسات تحت هذا العنوان، وإخراج ممارساتٍ أخرى من تحته.
ومفاد القول هو أننا ما لم نفهم هذه العلاقة فهماً صحيحاً، بعيداً عن الأهواء والأغراض الشخصية، فإننا إنما نساهم، بعلمٍ أو بغير علم، في تفريغ هذه الشعائر من محتواها، فتتحول بذلك إلى (عادة) لو تركها الناس لاستوحشوا. لذا، ينبغي على الفعاليات المؤثرة في مسألة إحياء الشعائر أن يكون لها موقفٌ حازم تجاه مسألة ذوق العامة. فالخطيب على سبيل المثال، لا يجب أن يتنازل عن سرد الحقائق والأحداث التاريخية، وبيان الأمور على ما هي عليه بحسب الثابت في المصادر المعتبرة، بغرض إرضاء المستمعين. وعلى الرادود أن لا يجعل مسألة اللحن واللهث خلف شعار التجديد هو ما يوجهه لاختيار القصيدة المناسبة من حيث الكلمات، واختيار اللحن المناسب لأجواء الإحياء. وعلى الشاعر أن يراعي الضوابط الفقهية والأخلاقية والعقائدية في ما ينظم من شعر، لا أن يكون دوره هو ملأ السطور بكلمات تحافظ على تلك التمتمات والألحان التي لمعت في ذهن الرادود، وعلى ذلك فقس. فإذا أراد الخطيب الحسيني إرضاء ذوق العامة، فليخلع رداء الخطابة الحسينية ويتصدى لتقديم المحاضرات والندوات وما شابهها، حيث يمثل شخصه وفكره وقناعته لا المنبر الحسيني. وإذا أراد الرادود أن يكون مطرباً، فمساحة الطرب واسعة، فليخلع رداء الرادود الحسيني، وليطرح نفسه كمطرب أو منشد إسلامي أو غير إسلامي وليقل ما يحلو له، ويفعل ما يشتهي من الفيديو كليبات والألحان وغيرها.. وكذا الأمر بالنسبة للشاعر والمثقف والناقد وغيرهم.
إن الواجب المتحتم علينا جميعاً، هو أن نتجرد من أهوائنا ورغباتنا الشخصية حفظاً للشعائر الحسينية باعتبارها مؤثراً في السلوك لا متأثراً به، وأن نبحث في تلك الشعائر عما يساعدنا في تصحيح مسلكنا، لا أن نعمد إلى تغيير الشعائر لكي تتناسب مع سلوكياتنا وأهوائنا. روى أبو الصلت الهروي، قال: "سمعتُ أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام يقول: رحم الله عبداً أحيا أمرنا، فقلت له: كيف يُحيي أمركم، قال: يتعلم علومنا ويعلّمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا" (عيون أخبار الرضا، ج1 ص275).
اللهم ثبتنا على ولاية الطاهرين، واهدنا سواء السبيل، وأحسن خواتيم أعمالنا إلى خير ما تحب وترضى، إنك أنت السميع المجيب، وصلي يا رب وزد وبارك على محمد وآله الطاهرين وارزقنا في الدنيا ولايتهم، وفي الآخرة شفاعتهم وتوفنا على هذا العهد برحمتك يا أرحم الراحمين.