بقلم: رائد الستري
نشر بمجلة الحج/ تصدر عن حوزة الهدى
يذكر لنا القرآن الكريم الحج في مواضع عديدة، تحكي لنا مراحل تطور الحج على مرّ العصور المختلفة، ولعل أكثر ما يستوقف القارئ في هذه الآيات الكريمات قوله تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ..) 27-28 الحج.
أذان في الناس بالحج وبداية للمسيرة، يقول الإمام الصادق (ع): (لما أُمر إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) ببناء البيت وتم بناؤه قعد إبراهيم على ركن ثم نادى هلم الحج هلم الحج.. فلبى الناس في أصلاب الرجال لبيك داعي الله لبيك داعي الله عز وجل، فمن لبى عشرا يحج عشرا ومن لبى خمسا يحج خمسا ومن لبى أكثر من ذلك فبعدد ذلك ومن لبى واحدا حج واحدا ومن لم يلب لم يحج)، جعلنا الله ممن لبوا كثيرا.
الشهود شرطُ منافع الحج:
هكذا إذن بدأ الحج، ليشكل فريضة كبيرة تشتاق لها قلوب المؤمنين، وتمتد لها أعناق الوالهين، للقيا الحبيب الباري سبحانه وتعالى. لتجد المؤمن الولهان بمجرد أن ينتهي من حجه يشتاق إلى حج السنة المقبلة، وتراه مشغولا طوال العام بنظم أموره وأخذ استعداداته للحج مرة ثانية، وما ذلك إلا لحلاوة ما ذاق، وجمال ما عاش في حجه.
وعلى طرف النقيض نجد أن من لم يحسن تذوّق الحج لا يجد في نفسه هذا الشوق الذي يوصف.
فما الفارق بين الإثنين يا ترى؟
إنا لا نجد فرقا بين حج الأول وحج الثاني من ناحية الأعمال، فهذا أحرم وذاك أحرم، وهذا طاف وذاك أيضا، فما السرّ الذي جعل من حج الأول حجا يعيش في كيانه، وينطق في لسانه، ويهتز في وجدانه؟! بخلاف الثاني الذي كأنّه لم يحج أصلا!
السر يكمن في أنّ الأول قد حصل على المنافع التي تحدّث عنها المولى سبحانه وتعالى في قوله: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ)، من خلال الشهود، بينما الثاني لم يشهد ذلك.
الشبلي والبداية:
الشهود إذن عنصر مهم للحصول على المنافع والألطاف الربانية. ولكي تكون شاهدا في الحج ولست بغافل عليك أن تتوافر على مستويات الوعي المتناسبة مع هذه الفريضة الإلهية، من خلال التثقف الفقهي والأخلاقي والاجتماعي والمادي.. وغير ذلك.
ولعلنا نجد أن الحاج يسعى جاهدا لتوفير الوعي في مستوياته المتلائمة وهذه الجهات المختلفة، لكن يبقى عزيزي الحاج أن تتنبه إلى نقطة وجانب مهم يجب أن لا يفوتك كما فات الشبلي في حج قد حجه غافلا؟!
الشبلي أحد أصحاب الإمام زين العابدين (ع)، وقد لقي الإمام بعدما رجع من الحج فأخذ الإمام يحاور الشبلي في محاورة يختبر فيها الشبلي ودرجة شهوده لمنافع الحج، فلندخل عزيزي الحاج كطرف في هذه المحاورة نكون فيها أنا وأنت الشبلي الذي يختبره المولى زين العابدين (ع).
الإحرام الخطوة الأولى نحو التوبة لله والاعتراف الأول..
قال (ع) للشبلي: حججت يا شبلي؟ قال: نعم يا ابن رسول الله، فقال (ع): أنزلت الميقات وتجرّدت عن مخيط الثياب واغتسلت؟ قال: نعم.
هكذا انتهت المسألة لدى الشبلي وقد تنتهي عندك أيضا بمثل ما انتهت عنده.. تجرد عن ملبس واغتسال، ولكنها لم تنتهِ عند الإمام (ع) بهذه الصورة.
قال (ع): فحين نزلت الميقات نويت أنك خلعت ثوب المعصية، ولبست ثوب الطاعة؟ قال: لا، قال (ع): فحين تجردت عن مخيط ثيابك، نويت أنك تجردت من الرياء والنفاق والدخول في الشبهات؟ قال (ع): لا، قال (ع): فحين اغتسلت نويت أنك اغتسلت من الخطايا والذنوب؟ قال: لا.
قال الإمام: فما نزلت الميقات، ولا تجردت عن مخيط الثياب، ولا اغتسلت..
لاحظ كيف أن الصورة مختلفة عند الإمام (ع)، الذي يعبر عن الثقافة التي يريدها الله سبحانه، فالتجرد لا يعني خلع هذا الثوب في مدلولاته المادية وفقط، بل له مدلولاته الروحية التي يجب أن تحدّث نفسك بها وتتحادث معها.
تنبه إلى أمثلة الذنوب التي ترتكبها هنا أو هناك، وهنا الإمام مثّل بالرياء والنفاق والدخول في الشبهات، ولكن ابحث أنت عن ذنوبك التي ترتكبها ولا يعلم بها أحد ويعلم بها الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وانطق بها وحادث نفسك بعزم على خلعها والتخلص منها، وإبدال ذل المعصية وهوانها، بعز الطاعة وجمالها..
وعندما تجري الماء على بدنك استشعر تنظيف روحك من كل الخطايا والذنوب لتبدأ من جديد..
نعم الحج يمثل البداية الجديدة لكل المذنبين التائبين لله فمن حج خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، والإحرام يمثّل بداية الخطوة في حركة المذنب نحو التوبة لله، وعندما يلبي لله فهو كما يقول الإمام (ع) سائلا للشبلي: (فحين لبيت، نويت أنك نطقت لله سبحانه بكل طاعة، وصمتَ عن كل معصية؟
هروب التائب والتعاهد مع الله:
قال (ع) للشبلي: طفت بالبيت، ومسست الأركان، وسعيت؟ قال: نعم. قال (ع): فحين سعيت نويت أنك هربت إلى الله، وعرف منك ذلك علاّم الغيوب؟ قال: لا.
هكذا يمثل الطواف بالبيت والسعي حالة من الهروب لله، هروبا متعززا في النفس والروح بتعبيرات مدوية تصل إلى أعماق القلب والروح ليعرف الله الصدق منك، لأن الصدق أساس مهم من أساسات قبول التوبة وغفران الذنوب.
ثم قال(ع) له: صافحت الحجر، ووقفت بمقام إبراهيم (ع)، وصليت به ركعتين؟ قال: نعم، فصاح (ع) صيحة كاد يفارق الدنيا ثم قال: آه آه..
لماذا هذه الآهات يا سيدنا ومولانا، فنحن كم مرة نصلي؟ وكم مرة نصافح أو نشير إلى الحجر دون أن تهتز أرواحنا كما اهتزت روحك!!
ولكن المسألة عزيزي الحاج ليست في إحساسات اليد وانفعالات الجسد، بل في يقين القلب والمعرفة بالله، فمن هنا تهتز قلوب العارفين الوالهين، بإدراكهم أن الحجر يمثل يد الله في خلقه، وأن المصافحة له تعني المصافحة لله سبحانه عهدا وعقدا على الطاعة.
فيقول (ع): من صافح الحجر الأسود، فقد صافح الله تعالى، فانظر يا مسكين لا تضيّع أجر ما عظم حرمته، وتنقض المصافحة بالمخالفة، وقبض الحرام نظير أهل الآثام.
آه آه يا ربي "مالي كلَّما قُلتُ قد صَلُحت سرِيرَتي وقَرُب من مَجالس التَّوّابين مجْلسِي عرضَت لي بَليَّة أَزالت قدمي وحالت بينِي وبين خدمتك".
خلاصة..
استمر الإمام زين العابدين(ع) يحدّث الشبلي بالدلالات الروحية للحج عند كل عمل من أعمال الحج، وكان الشبلي يجيبه بـ(لا) عندما يبين له الإيحاءات الروحية للأعمال وهل أنّه قد قام بها أو لا، حتى أنهى تمام الأعمال فلم يتوانَ الإمام في الختام من أن يقول للشبلي كلمة قاسية جدا وهي: (فإنك لم تحج)، ولكن يعرف الإمام إيمان الشبلي فلذلك طفق الشبلي يبكي على ما فرّطه في حجه، وما زال يتعلم حتى حج من قابل بمعرفة ويقين.
نعم عزيزي الحاج المعرفة واليقين هو الأساس في نيل الفيوضات والألطاف الربانية في فريضة الحج، وإعمال الجانب الروحي في غاية الأهمية، كما اتضح لدينا من خلال هذه القصة القيمة.
وفقنا الله وإياكم للحج بيت الله الحرام بمعرفة ويقين.
(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)
قوة الإيمان ورجاحة العقل
ما يزكّي النفس ويكمّلها:
فالقرآن بهذا يكون قد بيّن لنا الطريق نحو الزكاية، بتبيين الروافد التي تغذِّي صفاء النفس وسموّها، فقوة الإيمان وزيادة المعرفة بالله سبحانه تعني الوصول للزكاية وتكامل النفس وقربها من الله عزّ وجل. فإذا أراد الإنسان أن يضع خطّة عامة لمجمل حياته بحيث يصل بها إلى الفلاح الذي عبّرت عنه الآيات السابقة، يجب عليه أن يحافظ على غزارة هذه الروافد، من خلال:
1- المراقبة الدائمة والتعاهد المستمر لإيمانه ليحافظ على قوته وصلابته.
2- التغذي دوما بالمعرفة والعلم ليحافظ على رجاحة عقله.
ذلك لأنّ مجمل المعاصي نلاحظ أنّها إما أن تكون معصية تلوث سلوك الإنسان كسوء الأخلاق مثلا، أو معصية تلوّث الجانب العقائدي والفكري لديه كالاعتقاد بخلاف ما فرضه الله سبحانه. ويمكن لنا من خلال قوّة الإيمان ورجاحة العقل المتنوّر بدين الله سبحانه أن نمنع وقوع المعاصي ونضائلها بكلا نوعيها، إذ أنّ العلاقة في المقام طردية فكلما قوي الإيمان ورجح العقل وقوي بالمعرفة تناقصت معاصي الإنسان.
فالقوة هذه هي الصلابة التي تحدثت عنها بعض المرويات، كمثل ما ورد عن الإمام الصادق (ع): (إن المؤمن أشد من زبر الحديد، إن زبر الحديد إذا دخل النار تغير، وإن المؤمن لو قتل ثم نشر ثم قتل لم يتغير قلبه)
الضعف الإيماني والمعرفي
فساد للقلب والنفس:
وعلى خلاف ذلك فإنّ الضعف الإيماني والضحالة المعرفية تعني ضعفا في حجز النفس عن المعصية، لتتعاظم وتتكاثر المعاصي والذنوب ويفقد الإنسان سيطرته عليها، فيصل بالقلب إلى أقصى درجات التلوث، يقول الباري سبحانه: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)
ولنتوقف قليلا عند هذه الآية المباركة:
فما معنى الرين؟
"ران": من (الرين) على وزن (عين)، وهو: الصدأ يعلو الشيء الجليل (كما يقول الراغب في مفرداته)، ويقول عنه بعض أهل اللغة: إنه قشرة حمراء تتكون على سطح الحديد عند ملامسته لرطوبة الهواء، وهي علامة لتلفه، وضياع بريقه وحسن ظاهره. وقيل: ران عليه: غلب عليه".
ومعنى الآية يتضح أكثر من خلال قراءة ما ورد عن أهل بيت العصمة (ع):
قال رسول الله (ص): (كثرة الذنوب مفسدة القلوب)
وعن الصادق (ع): (كان أبي (ع) يقول: ما من شيء أفسد للقلب من خطيئة، إنّ القلب ليواقع الخطيئة فما تزال به حتى تغلب عليه فيصير أعلاه أسفله)
وعنه أيضا (ع): (إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب انمحت، وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبدا)
فما يحدثه استمرار الذنوب بالقلب هو الإحاطة الكلية به، والمحاصرة التامة له، ليصل بعد ذلك بالقلب إلى أقصى درجات التلوث وهي (الختم على القلب)، ومعها يقع الإنسان في طريق الضياع الذي تصعب معه العودة.
يقول الباري سبحانه: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)
ومرحلة الختم هذه لا يفقد الإنسان فيها الحواجز والموانع عن المعاصي وحسب، بل يُغلق كل الثغرات التي يمكن تخلل نور المعرفة والهداية منها، ويضع كل المصدّات والمضادات التي تحول دون الإيمان وتزكية النفس.
بعث الرسل بالأديان إرشاد لما يزكّي النفس:
قد ذكرنا أن ما يساعد على لجم النفس عن ارتكاب المعاصي والذنوب هو قوة الإيمان ورجاحة العقل بالمعرفة، وهنا ينبغي بنا أن نعرف أنّ الإيمان والمعرفة التي تحجز الإنسان عن المعاصي لا يمكن أن تكون غير المعرفة الإلهية والإيمان بالله، إذ الإيمان والمعرفة بغير الله سبحانه لا يمكن أن تتكامل بالنفس وتسمو بها، بل تسير بها سيرا عكسيا لا سيرا عروجيا.
فما يسير بالنفس سيرا عروجيا هو الإيمان والمعرفة الإلهية التي جاء بها الرسل، (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ).