بسم الله الرحمن الرحيم
وصلواته وسلامه على أشرف خلقه سيدنا محمد وعلى آله الغر الميامين.
تطويع النص الديني من أجل الغايات الدنيوية
يحمل النص الديني قداسةً اعتباريةً من الشارع المقدس في قلوب أتباعه لصدوره الوحياني الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لعصمته ودلالاته الربانية من أجل وصول الإنسان المعتقد به للكمال الروحي وتقويم اعوجاجه في التوحيد بالخالق وتوابعه من أصول الدين وفروعه وربطه بخاتمة سعيدة إن هو التزم بذلك النص المقدس التزاما حرفيا من دون إضافة أو حذف أو اتباع هوىً في تفسيره أو تأويله من منطلقات لوثاته العقلية، ولكن يوجد اليوم بيننا كما هو معهود في غابر الأزمان مَن تاجر بالنص الديني من أجل غايات وأهداف دنيوية بالرغم مِن معرفته بقداسته وخطورة اللعب به في ميدان الأهواء النفسية البدعية ولواحقها من الزعامة وجباية الأموال وتكوين فرق ضالة مضلة انشطارية تتخذ من سذاجة الناس وفطرتهم وفراغ الساحة من المتصدي البارع في أماكن الجهل وأخيه الفقر.
حينئذ يسهُل على أصحاب البدع ومَن لف لفهم اللعب على أوتار تطويع النص الديني وحرف حقيقته المقدسة نحو بوصلة مشاريعهم الربحية التي تنخر كما السوسة في جذور الأصالة الدينية وتهجين مجتمع ضحل لا يميز بين الغث والسمين ولا مَن هم رعاة الدين وحماته الحقيقيون ولا يفرق بين المعتاشين على قوارع ضحالة العقول وبين مَن نذر نفسه من أجل هدايتهم وسعادتهم في الدارين.
فما هو المقصود بتطويع النص الديني؟
يمكننا استنطاق كتاب الله في ذمه لليهود في الآية المباركة من سورة البقرة (يحرفون الكلم عن مواضعه من بعد ما عقلوه) فهو يغنينا عن تشعبات الجذر اللغوي للمفردة محل البحث أعني بها (تطويع) وذلك لأن حقيقة التحريف في مآلاتها تعني تطويعا للنص بحسب إرادة المحرّف المنحرف تبعا لهواه وخصوصا إذا تأملنا في ذيل الآية الكريمة (من بعد ما عقلوه)؛ أي عقلوه عن معرفة وعلم.
أقول: يمكننا تعدّية أو استنطاق الآية المباركة إلى ما نحن فيه طبقا للقاعدة الأصولية (المورد لا يخصص الوارد) وأنها شاملة لكل من يطوع النص الديني طبقا لهواه أو عندياته أو مآربه أو غاياته حتى وإن كان مسلما، بل ولو كان معتقدا بقداسته بلا فرق في ذلك كله؛ وذلك لأن الخطاب القرآني عامٌ في غالبه إلا أن يدل دليل على التخصيص، وما يجري من كلام حول التطويع القرآني يمكن جره إلى التطويع الروائي، ولنسمّه بليّ عنق النص الروائي فإنه أدق في التوصيف.
خفاء التطويع أو الليّ على العامة:
تحت هذا المحور يكمن الخطر؛ إذ يُعتبر حرفة وبضاعة أناسٍ متخصصون - مع بالغ الأسف - في الشأن الديني قد استهوتهم شهوة التشوف لمجد الزعامة وخفق النعال وأولادها من ملازمات بسبب ضعف المقدمات الإيمانية المهزوزة والانحراف الضامر منذ نعومة الأظفار، والغرور العلمي المبكر. كل أولئك كان مشهودا عند استقراء الشخصيات التي اتخذت من تطويع النص الديني حرفة لمشاريعها المستقبلية ولم يتم اكتشافها إلا بعد بدو ظاهرة انحرافها للعيان واضحا حين تخرج على الثوابت والأصول فتقع في مصيدة أولي الأبصار من رعاة الدين والأساطين من العلماء المحققين.
أما العامة من الناس فيغريهم كل بريق يلمع من العنوانات كالحداثة؛ أي قراءة النص قراءة جديدة مغايرة لفهم الفقيه المجتهد المتخصص الذي أفنى زهرة شبابه في ملاحقة التراث والعرض على الكتاب وفك التعارض المبتلى وتنقيح الأسناد وهضم المتون والبراعة في إتقان الآليات، وانحناء الظهر في تحقيق الفقه والاصول وعلم الرجال وسبر الكتب.. فيغيب عن أفهامهم القاصرة بالتأكيد من هم أولئك المطوعون الذين يلوون عنق النص، بل الأدهى والأمر أن ساستنا اليوم باتوا من أولئك الذين استفادوا من حرفة تطويع النص الديني والاستشهاد به في محافلهم الانتخابية!
الفرق بين تطويع النص الديني والاجتهاد:
هناك فرق بالتأكيد عند التأمل بين المفردتين؛ فالتطويع فيه شمّة تسخير النص للمراد الدنيوي، أما الاجتهاد فيعني إعمال ملكة الاستنباط عبر آليات ما يقع في طريقه من علوم شتى من أجل غاية سامية وهي ربط أيتام آل بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمدرسة أهل بيت العصمة والطهارة بالفقيه الجامع لشرائط الفتيا في زمن الغيبة الكبرى لمولانا صاحب العصر والزمان أرواحنا فداه لإخراجهم من الظلمات إلى النور في شئون دنياهم وآخرتهم.
ما لكم كيف تحكمون يا حداثويون يا من تتلاعبون على حبل المصطلحات أمام هواة مشاريعكم والمصفقين لكم على جهل مريع؟! وحتى العلماني والليبرالي أصبح اليوم يحرث في الكافي الشريف وبحار الأنوار من أجل تطويع نصوصه لمآربه وغاياته بالرغم من وضوح تخندقه وقد استعمل الشيوعيون من قبل أسلوب تطويع النص الشريف في جر شباب العراق لزريبة حزبهم، ويمكنكم استقراء أدبيات أيامهم السالفة على مصداقية ما أطرح.
يا لها من مصيبة تدمي القلوب قبل العقول أن يكون النص الديني ألعوبة في متناول من هب ودب من أصحاب الغايات والمآرب الدنيوية سواء كانوا من الدينين أو السياسيين وأصحاب الدكاكين من المبتدعين الضالين المضلين.
نموذج من تطويع النص الديني من قِبَل دجال البصرة أحمد الكَاطع المدّعي بأنه من ولد صاحب الأمر أرواحنا لتراب مقدمه الفداء:
وقد اخترناه لعنه الله تعالى لقرب عهدنا به وهو مثالٌ حيٌ من أمثلة تطويع النص الديني المقدس والاستشهاد بالمنحرفين الأحياء أبلغ في الاستدلال من المنحرفين الأموات لأنه يعدّ شاهدَ عصرٍ على نغمة أصحاب المآرب والغايات ممن استهوتهم الزعامة الباطلة إلى المجازفة بالمتاجرة بالنص الديني والابتداع وإضلال أيتام آل بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسَوقهم نحو الهاوية، وإننا لو فتشنا في مناشئ انحرافه لما وجدناها تختلف عن مناشئ انحراف الشلمغاني الذي ادعى النيابة الخاصة عن صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف زوراً وبهتانا وحسداً للشيخ حسين بن روح النوبختي رضوان الله تعالى عليه النائب الثالث الخاص للناحية المقدسة على صاحبها آلاف الصلوات والتحيات واتحادهما في خصيصة عشق الدنيا وعبادة(الأنا) على حساب النص الديني؛ ففي الأول -أعني به الشلمغاني- كانت بوصلة انحرافه التشكيك في أهلية ابن روح رضي الله عنه وهو المنصّب من قِبَل إمام زمانه، وفي صنوه الكَاطع كانت بوصلة انحرافه في ادعاء بنوّته لخاتمة الأولياء أرواحنا فداه في تطويعه نصا دُعائيا منسوباً صدورا لأبي الحسن الثاني مولانا الإمام الرضا عليه وعلى آبائه وأبنائه أفضل الصلاة وأزكى السلام مبثوثا في الأصول الدعائية كإقبال السيد ابن طاووس ومصباح الكفعمي قدس سرهما وغيرها من كتب المزارات والمتعلقة بحياة إمامنا صاحب الزمان عليه السلام يدعو فيه للقائم من ولده و(ذريته) من بعده وجعَلَه مركز استدلاله وأضَلَّ به ضعَفَة العقول من أتباعه بالرغم من علمه بتصدي الأعلام لبيان تفسيره وتأويله مع التسليم بصحته وصدوره وتفنيد ما استدل به عبثا على حقّانية دعوته.
وأفضل مَن كتب حوله وحول بدعته وأفحم حججه في نظري هو سماحة العلامة المحقق الشيخ علي آل محسن القطيفي حفظه الله تعالى تحت عنوان: (أهدى الرايات دراسة في شخصية اليماني). فراجعه لترى حجم وكمية تطويع النص وليّ عنق الروايات لأجل مجد الدنيا على حساب الثوابت الدينية وضرورات المذهب التي أشابت الأساطين في محافل الحوزات وسُفكت من أجلها المُهج الزاكيات لتصل اليّ وأليك نقية من دون تحريف.
ويحقُ لك أن تعجب كيف استطاع تمرير هذا التطويع على مدّعيّ العلم من المعممين من أنصاره، ولكني لا أعجب في الحقيقة لأنهم من ذات النسق من الانحراف ومن ذات الجوقة العازفة على لحن استحمار العقول الهزيلة واختطافها مع علمهم بضحالة مستوى زعيمهم وتهافت فكرة الأوصياء من الأصل، ولكن ما نصنع مع أناس قد انتكست قلوبهم قبل عقولهم قد أعشى حب صارعة العشاق (الدنيا) بصيرتهم فلا يفرق عندهم الاستئكال بالدين باسم الدين من محطة الابتداع فيه.
وزبدة القول: إن ارتدادات تطويع النص الديني المقدس ينتج لنا انشطارات ضالة ومكلفة تُحسبُ على المذهب من قِبَل المناوئ العقدي إمعانا في الازدراء والإعلام المُضلِل (بكسر اللام) على الفاعلية يخطف منا شبابا يعيشون مرحلة قلقة في ظل أوضاع سياسة مضطربة واقتصادية مزرية من أجل تأمين لقمة العيش لا يبالي في ثابت ومقدس ولا هم يحزنون.
وأختم: بنداء لأحبتي خطباء المنبر الحسيني بتكثيف المواضيع بهذا الشأن واختراق عقول شبابنا الطرية وفطرتهم الولائية قبل أن يكثر سواد المطوعين للنصوص الدينية ذوو المآرب والغايات الدنيوية واختطافهم من هذه المنصة الشريفة التي ربّت الملايين على احترام النص الديني وقداسته وخطورة اللعب به في دنيا المغريات فهو داخل من ضمن وظائفهم التبليغية.
والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.
وكتبه:
السيد جميل المصلّي
في سلخ ربيع الآخر ١٤٤٦ هج.
الموافق:٢٠٢٤/١١/١م