بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
سماحة الشيخ
هل اسباغ الوضوء يتطلب الاتيان بمستحبَّاته أم يكفي إيفاء كلِّ عضوٍ حقَّه؟
الجواب:
لا إشكال -ولا خلاف ظاهراً- في استحباب الإسباغ للوضوء، فقد نصَّت على ذلك رواياتٌ مستفيضة
منها: صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر بن محمد عليهم السلام قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله: "من أسبغ وضوءه، وأحسن صلاته، وأدَّى زكاة ماله، وكفَّ غضبه، وسجن لسانه، واستغفر لذنبه، وأدَّى النصيحة لأهل بيت نبيِّه صلَّى الله عليه وآله فقد استكمل حقايق الإيمان وأبواب الجنَّة مفتوحةٌ له"[1].
تحديد معنى اسباغ الوضوء:
ومعنى الإسباغ للوضوء هو إفاضة الماء على كلِّ عضوٍ من أعضاء الوضوء وتكثيره بمقدارٍ يكفي لاستيعابه بيسر ودون عناية، وذلك في مقابل المقدار الذي لا يتمُّ به الاستيعاب إلا بمثل التدهين.
وهذا المعنى هو المناسب لمدلول الإسباغ لغةً والذي هو الشمول المستبطِن لمعنى السعة، وكلّ شيءٍ اتّسع وطال فقد سبَغ يسبُغ سُبوغاً، يقال: سَبَغ الثَّوْبُ يَسْبُغ إذا اتَّسع وطال، وأسبغتُه يعني أطلته، والدرع السابغة هي الواسعة، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ﴾[2] أي دروعاً ضافية واسعة، ويُقال: فلانٌ في سَبْغةٍ من العَيْشِ أَي في بحبوحة وسَعةٍ، ومنه قوله تعالى: ﴿وأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَه﴾[3] أي وسَّع عليكم نعمه.
الاستدلال على معنى الإسباغ:
والاسباغ بالمعنى الذي ذكرناه يمكن استظهاره من مثل صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أسبِغْ الوضوء إنْ وجدتَ ماءً والا فإنَّه يكفيك اليسير"[4] فإنَّ مقتضى المقابلة بين الفرضين أنَّ المكلَّف مخاطَبٌ بالإسباغ وتكثير الماء في فرض وفرته.
وكذلك يُمكن استظهاره من مثل ما ورد في خبر الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) أنّه قال: "إنّ الوضوء مرّةً فريضة، واثنتان إسباغ"[5] وفي خبر محمّد بن الفضل عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) مخاطباً لابن يقطين: ".. اغسل وجهك مرّةً فريضة، وأخرى إسباغاً .."[6].
فإنَّ المستظهر من وصف الأولى بالفريضة والثانية بالإسباغ هو أنَّ الأولى كافية ومجزية، ولا تكون كافية حتى تكون مستوعبة، وعليه فالثانية زيادة ومبالغة في الغسل.
ثم إنَّ الإسباغ يتحقَّق بتثنية الغسل، ويتحقق -ظاهراً- بتعدُّد الغرفات وكذلك يتحقَّق بالغرفة الواحدة إذا كانت بملء الكفِّ، ويُمكن تأييد ذلك بما ورد في موثقة عَبْدِ الْكَرِيمِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) عَنِ الْوُضُوءِ فَقَالَ: مَا كَانَ وُضُوءُ عَلِيٍّ (ع) إِلَّا مَرَّةً مَرَّةً"[7] وما ورد في مرسلة الصدوق عن الصادق (ع) قال: "والله ما كان وضوء رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) إلا مرَّة مرَّة"[8].
فلو كان الإسباغ الذي لا إشكال في استحبابه لا يتحقَّق إلا بالغسلتين لكان ذلك مقتضياً لمداومة النبيِّ الكريم (ص) وأمير المؤمنين (ع) على الالتزام بهما أو لا أقلَّ من عدم المداومة على ترك التثنية للغسل، فترك التثنية والمداومة على الواحدة -رغم استحباب الإسباغ- ظاهر في أنَّ الإسباغ يتحقق بالمرَّة الواحدة، وذلك بأنْ تكون الغرفة بملء الكف.
ويُؤيد ذلك ما ورد في صحيحة زُرَارَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (ع): ألَا أَحْكِي لَكُمْ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّه (ص) فَقُلْنَا: بَلَى فَدَعَا بِقَعْبٍ فِيه شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ ثُمَّ وَضَعَه بَيْنَ يَدَيْه ثُمَّ حَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْه ثُمَّ غَمَسَ فِيه كَفَّه الْيُمْنَى ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا إِذَا كَانَتِ الْكَفُّ طَاهِرَةً ثُمَّ غَرَفَ فَمَلأَهَا مَاءً فَوَضَعَهَا عَلَى جَبِينِه ثُمَّ قَالَ بِسْمِ اللَّه وسَدَلَه عَلَى أَطْرَافِ لِحْيَتِه ثُمَّ أَمَرَّ يَدَه عَلَى وَجْهِه وظَاهِرِ جَبِينِه مَرَّةً وَاحِدَةً ثُمَّ غَمَسَ يَدَه الْيُسْرَى فَغَرَفَ بِهَا مِلأَهَا ثُمَّ وَضَعَه عَلَى مِرْفَقِه الْيُمْنَى وأَمَرَّ كَفَّه عَلَى سَاعِدِه حَتَّى جَرَى الْمَاءُ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِه ثُمَّ غَرَفَ بِيَمِينِه مِلأَهَا فَوَضَعَه عَلَى مِرْفَقِه الْيُسْرَى وأَمَرَّ كَفَّه عَلَى سَاعِدِه حَتَّى جَرَى الْمَاءُ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِه .."[9].
فالملاحظ من الرواية هو التننصيص في الغسلات الثلاث على أنَّها بملء الكف وأنَّ الماء بوضعه على المرفق وإمراره على الساعد يجري إلى أطراف الأصابع، وذلك لا يتَّفق إلا مع كثرة الماء.
وقريب من ذلك ما ورد في صحيحة حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: كُنْتُ قَاعِداً عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) فَدَعَا بِمَاءٍ فَمَلأَ بِه كَفَّه فَعَمَّ بِه وَجْهَه، ثُمَّ مَلأَ كَفَّه فَعَمَّ بِه يَدَه الْيُمْنَى، ثُمَّ مَلأَ كَفَّه فَعَمَّ بِه يَدَه الْيُسْرَى، ثُمَّ مَسَحَ عَلَى رَأْسِه ورِجْلَيْه وقَالَ: هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ حَدَثاً يَعْنِي بِه التَّعَدِّيَ فِي الْوُضُوءِ"[10].
والمتحصل أنَّ الإسباغ المسنون يتحقَّق بالغسلة الواحدة لو استكثر من الماء المستعمل لها، ويتحقق بالغسلتين كما لو كان الماء المستعمل لكلِّ غسلة لا يقتضي باستقلاله الإسباغ وإنْ كان يقتضي الاستيعاب، وعلى ذلك تُحمل -ظاهراً- الروايات التي أفادت أنَّ الوضوء مثنى مثنى كصحيحة صفوان: "الوضوء مثنى مثنى"[11] فإنَّ المتعين حملها بقرينة ما مضى على أنَّ الثانية مسنونة إذا لم يتحقَّق الإسباغ بالأولى.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
30 / ربيع الثاني / 1446ه
2 / نوفمبر / 2024م
.....................................
[1] - ثواب الأعمال -الصدوق- ص26.
[2] - سورة سبأ / 11.
[3] - سورة لقمان / 20.
[4] - وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج1 / ص485.
[5] - وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج1 / ص440.
[6] - الإرشاد -المفيد- ج2 / ص229، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج1 / ص445.
[7] - الكافي -الكليني- ج3 / ص27.
[8] - من لا يحضره الفقيه -الصدوق- ج1 / ص38.
[9] - الكافي -الكليني- ج3 / ص25.
[10] - الكافي -الكليني- ج3 / ص27.
[11] - وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج1 / ص442.