نادر الملاح
15 يوليو 2024 – ليلة التاسع من محرم الحرام 1446هـ
كثيرةٌ هي القراءات السطحية المنبثقة من عدم استيعاب الخط الرسالي، وتلك التي تنطلق من حقيقة البغض لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والتي تشترك كلها في النظر إلى أن قتل الإمام الحسين وأصحابه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين شكَّل انتصاراً للمعسكر الأموي، وهي قراءات سقيمة بكل ما للكلمة من معاني لما تنطوي عليه من جهلٍ مدقع بمضامين ثورة الإمام الحسين عليه السلام. القسم الأوفر من هذه القراءات هو قطعاً قراءات المبغضين، وليست هذه القراءات أهلاً للتوقف عندها، فضلاً عن أن تكون مادةً للمناقشة والتداول، وإنما الحديث ينحصر في القراءات السطحية التي رأت في كربلاء أنها ثورة سيفٍ، فكان مقياسها للحكم بالنصر والهزيمة مبنياً على نتاج ذلك السيف، لذا، رأت أن النصر كان حليف الجيش الأموي. وليست هذه القراءات، أعني القراءات السطحية، منحصرة في الخط المخالف لمنهج أهل البيت عليهم السلام، وإنما تشمل بعض المنتمين إلى هذا المنهج.
وليس الغرض من وصف هذه القراءات بالسطحية، هو مصادرة الرأي الآخر أو الاعتداد بالرأي، وإنما هو توصيفٌ لواقع تلك الرؤية. فحضور السيف في واقعة كربلاء من جانب معسكر الحسين عليه السلام كان أمراً مفروضاً على المعسكر، ولم يكن بأي شكلٍ من الأشكال مادةً للثورة على الفريق المقابل. وهذا المضمون أكد عليه الإمام الحسين عليه السلام في أكثر من موضع منذ اللحظات الأولى التي آلت إليه فيها الإمامة بعد استشهاد الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، الذي رسم خريطة الثورة الحسينية ووضع أسسها من خلال المعاهدة التي اضطر لإمضائها مع معاوية عليه وأبيه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. فصفحات التاريخ تنقل لنا جواب الإمام الحسين عليه السلام لأصحابه بعد استشهاد الإمام الحسن، عندما استعلموا منه عن عزمه على القيام ضد معاوية، حيث أجابهم بأن بينه وبين معاوية عهدٌ، في إشارة إلى عهد الإمام الحسن عليه السلام، وليس من صفات المؤمنين نقض العهود (…وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ). واستمر هذا التأكيد طيلة العشرين عاماً، حتى هلك معاوية وقد دفع بالخلافة إلى ابنه يزيد لعنة الله عليهما، فكان هذا التوريث للخلافة نقضاً للعهد، جعل الإمام الحسين عليه السلام في حلٍّ منه، ومع ذلك نجده عليه السلام يقول: "لم أخرج أشراً ولا بطرا، ولا مفسداً ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي". ولم تكن سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، ولا سيرة أمير المؤمنين عليه السلام سيرة الإصلاح بالسيف. فما هي إذن مادة ثورة الحسين عليه السلام؟! الجواب: إنها الرسالة. فالرسالة هي سيرة جده وأبيه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
لذا، فإن النظر إلى واقعة كربلاء، من حيث النصر والهزيمة من زاوية السيف، هو نظرٌ بعيدٌ كل البعد عن حقيقة ومضمون هذه الثورة. فالنظرة الصحيحة يجب أن تكون مبنية على مادة الثورة، وهي الرسالة. وطالما أن رسالة الإصلاح التي حملها الإمام الحسين عليه السلام لازالت باقية مستمرة تهدد عروش الظلم والطغيان، فالنتيجة محسومة من حيث تحديد المعسكر المنتصر والمعسكر المهزوم.
من بين أبرز عوامل استمرار الثورة (الرسالة) الحسينية، رغم ما انطوت عليه واقعة الطف، بصفتها مرحلة من مراحل الحراك الحسيني لا منطلق الحراك، من مآسي يندى لها جبين التاريخ، يأتي الوسط الناقل لتلك الرسالة، والذي يتمثل في الإعلام، وهو الدور الذي أُنيطَ بالنساء والأطفال، وفي مقدمتهم عقيلة بني هاشم سيدتنا ومولاتنا زينب الكبرى صلوات الله وسلامه عليها، كمرحلة فاصلة، ثم بالأئمة من وُلد الحسين عليه السلام، بدءًا بزين العابدين وسيد الساجدين عليه السلام حتى الإمام الثاني عشر، المهدي المنتظر أرواحنا لتراب مقدمه الشريف الفداء. وقد جرت المشيئة الإلهية لحفظ هذه الرسالة على تغييب صاحب العصر والزمان، وهو الغائب الحاضر الذي يرعى هذه الرسالة، التي حطت بعد الغيبة الشريفة بين يدي العلماء الأجلاء، رحم الله الماضين منهم وحفظ الله الباقين وسدد خطاهم، ثم بين يدي العامة من باب التكليف الشرعي للإبقاء على شعلة هذه الرسالة متقدمةً حتى يشاء الله جل شأنه أن تُردَّ إلى صاحبها، صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف.
من هنا، ندرك أهمية الآلة الإعلامية في مسألة إحياء الشعائر. وهو إدراكٌ لم يخفَ يوماً على خصوم العترة الطاهرة، لذا، كان الثابت بين الدول المتعاقبة، بدءًا بالدولة الأموية وحتى يومنا هذا، هو تكريس الجهد الإعلامي لمحاربة هذه الرسالة، وذلك من خلال مسارين؛ المسار الأول هو التعتيم والسعي لتغييب كل مظهر ينطوي على إحياء هذه الثورة الإصلاحية، والثاني هو العمل المستمر على تشويه مضامينها وحرفها عن مسارها، وهو ما يُعرف بالاصطلاح المتداول في عالم اليوم بالحرب الناعمة، ذلك أن للإعلام تأثيرٌ واضحٌ وبالغ الأثر في نقل الصورة والمعنى.
لقد عانى الماضون من أتباع العترة الطاهرة، حتى زمنٍ ليس بالبعيد، أشد المعناة للحفاظ على الشعائر الحسينية، التي تمثل صمام أمان في مسألة الإبقاء على رسالة الحسين عليه السلام حية حاضرة تؤثر في سلوك الناس وتُوجههم باتجاه مقاصد الشريعة السمحاء، حيث كانت الأيدي قاصرة، والآلة الإعلامية كلها بيدي الفريق المقابل، ومع ذلك بذلوا دون إيصال هذه الرسالة إلينا كل غالٍ ونفيس. أما اليوم، فقد ساهمت التطورات التقنية في إفلات زمام التوجيه الإعلامي من الطرف الآخر، وصار الإعلام الحسيني، من خلال تقنيات البث والنشر الرقمي ومواقع التواصل الاجتماعي أكثر قدرةً على دخول كل منزل في أرجاء الأرض، متجاوزاً كل محاولات المنع والتشويش.
المؤسف، أن هذا التمكين الذي أراد الله تعالى من خلاله أن نمارس دورنا الرسالي في إيصال صوت الحق، أصبح بسبب سوء التقدير وسوء الغايات خنجراً يطعن في خاصرة الحسين عليه السلام، وكأننا بهذا نقول لخصوم العترة الطاهرة: كفاكم تعباً في تشويه صورة الرسالة الحسينية منذ أكثر من ألف سنة، وقد حان الوقت لأن تستريحوا وتتركوا لنا مجال العبث الذي يغنيكم عن كل جهد.
قطعاً لن يتفق البعض مع هذا القول، وسيراه آخرون صورة سوداوية أو طرحاً مبالغاً فيه، لكن الواقع يثبت العكس تماماً.. فلنتأمل في بعض المشاهد المتكررة كنماذج غيرها الكثير. وقبل أن يعترض المعترضون، نقول: هي للأسف ليست مشاهد فردية:
المشهد الأول يتعلق بالصفحات أو الحسابات الإعلامية في وسائل التواصل الاجتماعي، والتي بات شغلها الشاغل هو تحقيق السبق الإعلامي وإحراز موقع متقدم في سباق (الترند). خطيبٌ يُجهد نفسه ويعمل بإخلاص للتحضير لخطابه، ثم يصعد المنبر ويطرح بحثه أو موضوعه ساعةً أو أقل بقليل، يتابع صاحب الحساب الخطاب، ثم يجتزأ منه جزءًا يحرك من خلاله صحفته بعنوان مثير، أو بسؤال مفتوح (ما رأيك؟)، دون أدنى مبالاة بعرض الفكرة مبتورة إذا ما افترضنا حسن النية، وإلا فإن بعض تلك الحسابات تتعمد هذا الاجتزاء وهي مدركة تمام الإدراك ما ستثيره من ردود، بل هو الغرض الرئيس من هذه الإثارة. وكل ذلك وسط غيابٍ تامٍ من صاحب الحساب في توجيه بعض الردود التي غالباً ما تخرج عن حدود الذوق وأدب الحوار.
في المشهد الثاني، والذي يتعلق أيضاً بنفس الفئة، تعينُ هذه الحسابات نفسها بوقاً لنشر جديد المطربين، الذين يسمون أنفسهم جزافاً رواديد، ولنفس الغرض: (ما رأيك؟)، فتشتعل حرب الردود بين مؤيد ومعارض، ومتحفظ ورافض، بينما يشق الحساب طريقه نحو (الترند)، وتشق تلك الأغاني طريقها نحو الانتشار وتشويه الذوق العزائي!!
أما المشهد الثالث، فيتعلق بالمتابعين، حيث تعرض بعض الحسابات مثلاً مقطعاً متكاملاً ليس فيه بتر أو اجتزاء، من كلام لرجل دينٍ أو خطيب ينتقد ممارسة معينة أو وضعاً اجتماعياً أو سلوكاً يحتاج إلى تصحيح، أو ربما نصيحة لا نقد ولا انتقاد فيها، فتجد معظم التعليقات والمداخلات قد تركت الموضوع وتركزت حول سؤال واحد لا يمل ولا يكل أصحابه من تكراره: لماذا لا يصعد هذا الخطيب المنبر دون أجر؟! رغم أن الموضوع لا علاقة له بالأجر غالباً، علاوةً على عدم وجود ما يشين في أخذ الخطيب أجراً بالأساس، فالمسألة لها أبعاد فقهية وليست مما يقرر فيه العوام رأيهم. المسألة كلها مسألة تسقيط لرجال الدين، ولموقع العمامة والمنبر في توجيه المجتمع، بقصد أو بغير قصد. وطبعاً يشارك صاحب الحساب في هذا الفعل المشين بمتابعته الصامتة لتفاعل متابعيه ولعدَّاد المتابعين الذي ينمو شيئاً فشيئاً فيُكسبه قدرةً أكبر لمنافسة بقية الحسابات في سباق (الترند).
ومن حسابات التواصل الاجتماعي، ننتقل في المشهد الرابع إلى بعض أدوات التواصل، وفي مقدمتها طبعاً رسائل الواتساب، والتي تتنوع فيها أيادي العبث بين غرام السبق الإعلامي والجهل. رسالةٌ مجهولة المصدر، تَنسبُ قولاً لأحد المعصومين، دون الإشارة إلى مصدر الحديث، أو رسالة مجهولة الكاتب تتضمن قراءة تحليلية لموقفٍ أو حدثٍ لأحد المعصومين عليهم السلام، فيهرع مستلم الرسالة لإعادة توجيهها لأكبر عددٍ ممكنٍ من المجموعات وقوائم المراسلة، دون أن يتمعن في محتواها، أو ربما دون أن يكلف نفسه حتى عناء قراءتها، فيساهم في نشر فكرةٍ مشوهة، أو رأي شاذ، قد يتأثر به من يقرؤه، فيؤسس على المدى البعيد لثقافة مشوهة. والغريب أن بعض هؤلاء يدرك تماماً ما يمكن أن يحمله هذا الفعل من آثار سلبية، فيتحايل على الأمر بإضافة عبارة (كما وصلني) أو (منقول)، ظناً منه أن مثل هذه العبارات تعفيه من مسؤولية الإسهام في تشويه الفكر والثقافة.
مثالٌ أخير حول سوء التقدير أو سوء استخدام الأداة الإعلامية، يتمثل في مناصرة أهل الباطل والمناوئين لفكر العترة، دون إدراك، وذلك من خلال إعادة نشر المقاطع والمنشورات المسيئة للعترة الطاهرة مع بعض عبارات الامتعاض أو الانتقاد. نعم، الانتقاد جيد، وفضح أعداء منهج العترة أمرٌ جيد دون أدنى ريب، إلا أن غير الجيد هو أن هذه المنشورات داخلةٌ أيضاً في سباق (الترند)، وإعادة نشرها هو مساهمة غير واعية في تعزيز ظهورها وانتشارها.
ختاماً نقول، لقد كسر الإعلام الحديث حواجز التعتيم والتكميم التي مورست ضد الثورة الحسينية حتى قبل واقعة الطف، وعلى مدى عقودٍ من الزمن، إلا أن توظيف هذا الإعلام يحتاج إلى وقفة مراجعة جريئة، تعيد مؤشر البوصلة إلى الاتجاه الذي رسمه الحسين عليه السلام بدمه الشريف ودماء أهل بيته وأصحابه الطاهرة، ليستمر صوت الحسين، ويستمر صوت العقيلة زينب، ويستمر صوت الأئمة الأطهار والتابعين لهم بالحق، في حمل الرسالة الحسينية إلى الأجيال اللاحقة بصفحة ناصعة خالية من التشويه، حتى تصل إلى يد صاحبها الموكل بها، عجل الله تعالى فرجه الرشيف.
اللهم ثبتنا على ولاية الطاهرين، واهدنا سواء السبيل، وأحسن خواتيم أعمالنا إلى خير ما تحب وترضى، إنك أنت السميع المجيب، وصلي يا رب وزد وبارك على محمد وآله الطاهرين وارزقنا في الدنيا ولايتهم، وفي الآخرة شفاعتهم وتوفنا على هذا العهد برحمتك يا أرحم الراحمين.