قال تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما) الأحزاب (59)
تكرس هذه الآية المباركة قاعدة التمايز بين الجماعة المؤمنة وبين الجماعة غير المؤمنة في المجتمع الواحد، وبالتالي تضع أساسا لرسم ملامح المجتمع المؤمن عن غيره، بدءا من الطابع العام، والصورة الذهنية التي تحمل عن هذا المجتمع.
لم توجه هذه الآية المباركة لغير المؤمنين بل رسالتها واضحة في توجيهها الأمر (قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين) فخطابها موجه لنبي الرحمة (ص)، والدعوة معني بها كل امرأة مؤمنة، والأمر لم يكن بالتجلبب بل بإدناء الجلباب (يدنين عليهن من جلابيبهن)، والإدناء الإرخاء، وكما في تفسير الأمثل لآية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: "والمراد من (يدنين) أن يقربن الجلباب إلى أبدانهن ليكون أستر لهن، لا أن يدعنه كيف ما كان بحيث يقع من هنا وهناك فينكشف البدن، وبتعبير أبسط أن يلاحظن ثيابهن ويحافظن على حجابهن".
هو زيادة فوق الحد، وزيادة في التحلي بالستر والعفاف، ولكن ما الغاية؟ ما الهدف؟ تصرح الآية المباركة بالهدف في قوله: (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما).
فلا هدف لهذا الأمر سوى أن تكون المؤمنات مشخصات معروفات بزي لا تخطئه عين الناظر، ويشكل هذا التشخيص رادعا لكل من تسول له نفسه التعدي عليهن حين تتساوى المؤمنات والفاسقات، وتتشابه حرائر المؤمنات بالإماء.
إذ يوجه الشيخ ناصر مكارم الشيرازي مفردة (يعرفن) إلى مرادين:
"الأول: أنه كان من المتعارف ذلك اليوم أن تخرج الجواري من المنازل مكشوفات الرأس والرقبة، ولما لم يكن مقبولات من الناحية الأخلاقية، فقد كان بعض الشباب المتهور يضايقوهن، فأمرت المسلمات الحرائر أن يلتزمن الحجاب التام ليتميزن عن الجواري، وبالتالي لا يقدر أن يؤذيهن أولئك الشباب"
"والآخر: أن الهدف هو أن لا تتساهل المسلمات في أمر الحجاب كبعض النساء المتحللات والمتبرجات المسلوبات الحياء رغم التظاهر بالحجاب، هذا التبرج يغري السفلة والأراذل ويلفت انتباههم"
ومما يستلهم من الآية المباركة أهمية النأي من قبل المؤمنين والمؤمنات عن كل ما يشكل تشبها أو محاكاة لمجتمعات غير مؤمنة، وجماعات غير مؤمنة، وهذا التوجيه، قد لا يخص المرأة وحدها، بل يتسع لكل الجماعات المؤمنة من الجنسين، من الذكور والإناث، وإذا كان موضوع الآية هو اللباس الشرعي، فإنه يستوحى منها ما هو أبعد من ذلك، من كل سلوك وعادة أو ممارسة أو حركة تشاكل وتقارب بين هذه الجماعة المؤمنة وبين غيرها، وكل ذلك يأتي تحصينا للمجتمع حين تبدو ملامحه وصورته - حال المحافظة على ذلك التوجيه - سياجا حاميا إليه وحارسا له منذ الوهلة الأولى، وبمجرد الاقتراب.
وهو درس مهم في مجتمعاتنا هذه الأيام، التي بدأت مظاهر التهاون والاستخفاف بالعديد من الأمور التي ميزت أفراد المجتمع المؤمن، فلم تعد تفرق بين ملتزم وملتزمة وبين غيرهما، في حالة من الالتباس لم نشهد سابقا لها.
ولذلك عدة صور في الجنسين وإن كانت الآية بصدد الحديث عن جنس واحد، فالمؤمنة لا يليق بها مثلا أن تلبس من الألبسة، والأحجبة، والعباءات، ما يشاكل نساء أخريات لا يعرفن بالالتزام الديني والورع، كما لا يحسن بها أن تماثلهم في أكثر من ذلك، كطريقة الحديث، وأسلوب الحوار، وطريقة التعامل مع الرجال الأجانب، ولا يجدر بالمؤمنات أن يمارسن في شبكات التواصل الاجتماعي ما لا ينسجم مع عفافهن وخفرهن، سواء فيما ينشر أو ما يطرح من موضوعات أو ما يعرض من صور ... لتبقى المؤمنة مصونة في عرف الناس بما عرف عنها من ترفع وتنزه، وما يقال عنها في الحضر يقال عنها في السفر، إذ لا يصح أن نرى في الوسط المؤمن تبدلا شاسعا في السلوك واللباس والأسلوب حين يوفقن للزيارة أو السياحة، إذ قد تجد الخفة مبالغا فيها، والخضوع في القول بشكل مفرط، وبالأولى حين يكون السفر بجوار المراقد الشريفة، من الحري بالنسوة أن يبتعدن عن كل تقليع مجاف للسمت الذي عرفت به المؤمنات، وأن ينظرن في ذلك إلى رقابة المعصوم (ع) ونظره على كل حركة وسكنة.
والأمر يقال أيضا بالنسبة للشباب المؤمن، الذي يجب أن يخرج للمجتمع العام، في صورة تميزه عن الشباب الفاسد أو المنحرف، ولم يعرف المؤمنون إلا بالوقار والسكينة والمروءة، أما الميوعة، والسير في الشوارع والأحياء بالألبسة الخادشة للمروءة فإن ذلك ليس من شأن المؤمنين، ولن يؤدي إلا إلى التجرؤ عليهم، بوضعهم -خطأ- على قدم المساواة مع الأغيار والأشرار والفجار، ومما يوهن المؤمنين من الرجال كثرة المزاح والتفكه مع النساء خصوصا في مواطن العمل والسفر، وكأن قاعدة الأجنبي لا ترد في الحسبان، والحال أنها قاعدة عامة لا تخص موطنا دون آخر ... ناهيك عن القصات والتقاليع الغريبة التي غزت كل أحيائنا.
وخاتمة الكلام، ليس كل ما يجوز فهو لائق بشخص المؤمن، وليس كل ما يحل فعلى المؤمنة أن تقدم عليه، فالورع مرتبة عليا، ومن الورع التعفف عن متشابهات الأمور، وملتبساتها، ومن الفطنة والكياسة أن يتريث المؤمنون في اقتحام ما ينافي العرف - ما لم يكن أمر شرعي ومسوغ عقلي - بحيث يسير في تيار مضاد لما هو مألوف ومعروف وموصوف به مجتمع الإيمان، في أقل تقدير حتى لا يكون أول من أرسى، فإذا سار الناس بعد ذلك على نهجه، تحمل وزرهم، وذكر بين المؤمنين كمؤسس لمسلك لم يقره العلماء، وكان سببا في إفساد وتخريب مجتمع الصلاح والإيمان ... وأي حصيف يريد تحمل هذه التبعة أمام الله جلا وعلا ؟؟؟؟!!!!!