بسم الله الرحمن الرحيم
لم أشأ انتخاب هذا العنوان اختياريًا، ولكنَّه مَرَّ مرورَ البرق الخاطف على فكري المتبلِّد و أنا أستذكر عدد ما اقتنيته حول ما كُتِبَ عن الحسين وثورته ونهضته وحركته، لعلِّي أهتدي لصياغةٍ جديدةٍ تليق بمقام الإمام العظيم، ولكنَّها مجرَّدُ صبابة حبرٍ يتيمٍ، حالها حال بقية الاجتهادات والتنظيرات التي تحاول عبثًا ارتقاء فهم سرِّ الحسين (عليه السلام) وسرِّ خلوده من حين ولادته إلى عبق رحيق شهادته فتتكسر الأقلام ويرتد البصر خاسئًا وهو حسير.
وعجالة فهمٍ قاصرٍ انضمت لقافلة إبداع المبدعين شعرًا ونثرًا ومع كل هذا وذاك ولكثرة ما طالعتُ وتأملتُ في تنظيرات المنَظرين واجتهادات المجتهدين توصلتُ إلى قناعة تامَّة بأنَّ:
الحسين (عليه السلام) فوق الاجتهاد؛ فواحد أسماه الثائر وآخر لقَّبَه بالمصلح.. وثالث أضفى عليه وسام الحركي.. إلى آخر الاجتهادات..!
أمَّا لماذا تلك الفوقانية فواضحة حتى من المجتهدين أنفسهم حينما يقرّون بأنها مجرَّد ظِلال فهمٍ باهتةٍ لا تفِ بأسرار الشخصية الربانية.
أمَّا لماذا توصيفها بالاجتهادات؟
فلسببٍ واحدٍ وجيهٍ؛ ألا وهو أنَّها صناعة فكر يُخطِئ أكثر ممَّا يُصيب، وبالخصوص إذا كان ذلك الفكر محكومًا بالأسبقيات والإسقاطات. حتَّى أنَّك لا تجدُ مِن تِلكَ الاجتهادات حدًّا وسطًا، بل يصل الأمر إلى إساءة الأدب وإرادة تعليم الأمام المعصوم بتكليفه الشرعي في ظلِّ تَكَلُّفَات لا تُسمِنُ ولا تُغني من جوع!
بل إنَّ البعض لا يستحِ مِنْ حرفه التوظيف الشخصي لمشاريعه سواءً كانت سياسية أو اجتماعية باسم الحسين (عليه السلام)، وحتَّى اليسار السياسي يصدر بيانا يوم عاشوراء ويا له من عار، وكأنَّ الإمام روحي فداه حزب من لا حزب له ومنظمة من لا منظمة له وفئة من لا فئة له، وكأنَّه (عليه السلام) الحاضن الأكبر لحزمة من الأفكار والاجتهادات ضيقة الأفق.
نعم هناك سؤال قديمٌ حديثٌ شَغَلَ ولَمَّا يزل أذهانَ المفكرين الإسلاميين وغيرهم؛ وهو:
هل أن ما قام به الحسين (عليه السلام) ثورة أم نهضة أم حركة إصلاحية أم أمراً بالمعروف ونهي عن منكر أم …؟ أم ….؟
في ظلِّ هذا السؤال تاهت أفكارُ المُجتهدين والمُنَظِّرين بالرغم من وجود نصوص واضحة الدلالة، وكلُ يغترف من معينها بما يناسب ذوقه ومزاجه الفكري والسياسي حتَّى ليشطّ البعضُ ويذهب بعيدًا في أنَّ قضية الحسين (عليه السلام) قد استلهم منها حتَّى (الماركسيون)!
وكيف كان فإنَّ المجتهد والمُنَظِّر لمأساة الحسين (عليه السلام) وكربلائه مهما أوتي من دِقَّةِ فكرٍ وروعةِ بيانٍ فإنَّه يبقى أسيرَ أسبقياته وإسقاطاته، وجعل الإمام روحي فداه مرآة يمكنه النظر إليها من جميع الزوايا والأبعاد ومع ذلك كلِّه أستطيعُ الجزمَ بأنَّ أكثرَ تلك النظرات متعرجة، وتستحقُّ الوقفات النقدية، لأنَّها ليست وحيًا مُنْزَلًا أو سنَّةً قطعية الصدور لا يجوز المساس بها!
هي مجرَّد اجتهاد وتحليل، والمؤاخذة على التحليل أكبر من المؤاخذة على الاجتهاد، وإن كانا يلتقيان في النهاية عند حقيقةِ:
إنَّ للجذور الفكرية، والبيئة السياسية دخلُ كبير في صناعة المجتهد والمُنَظِّر لقضية الحسين (عليه السلام) شئنا أم أبينا، ولذلك ظهرت التقاطعات وخطوطُ الفهم المتشابكة هنا وهناك، وكلٌ يفهم القضية بمجهره هو حينما ينثر باقة ما وَرَدَ وما صَدَرَ حولها في سردية التاريخ المترامي الأطراف والأغراض معًا.
وكان مفترضًا على الباحث قبل أن يدلي بدلوه في المقام أو في معرض دفاعه عمَّا يتبنَّاه أنْ يُصَرِّحَ بعبارة (من وجهة نظري القاصر) كذا … وكذا… لا أن يتحدَّث في المطلق.
لأنَّ الاجتهاد والتنظير إنْ استوعبَ جانبًا مِنَ القضية فإنَّه يَتِيه حتمًا في جوانب أخرى، أو لِنَقُل يُخفق في عمل توليفة مناسبة تتناسب وبقية ما استوعبه أولًا.
ولَإن صَدَقَ تنظيره في مورد ما فقد يتعارض مع مورد آخر، أو قد يصطدم بثوابت وأصول من قبيل عقدية العصمة أو تكليف المعصوم، فتأمَّل معي فيما يتبنَّاه صاحب كتاب (من وحي عاشوراء)؛ حيث تبنَّى الاتِّجاه السياسي الذي يتلخص في سعي الإمام الحسين عليه السلام للوصول للحكم، وأنَّ الشهادة ليست هي الأولوية وإنَّما هي طارئة أو عارضة على مشروعه السياسي.
بينما في كتابه الآخر (على طريق كربلاء) حاول أن يُؤصِّل للحالة الاستشهادية، باعتبارها الهدف الأساسي للثورة الحسينية بحسب دعواه.
وكم هو فارِقٌ بين التنظير الأوَّل في (من وحي عاشوراء) وبين التنظير الثاني (على طريق كربلاء)، وهذا ما ألمحنا إليه في نكتة الاستيعاب وقصوره. فَتَدَبَّر.
بينما نجدُ مُفَكِّرًا فَذًّا كآية الله الإمام شمس الدين (قُدِّسَ سِرُّه) في مُجْمَل ما كتبه عن الحسين (عليه السلام) ونهضته:
۱- ثورة الإمام الحسين (عليه السلام).. ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية.
۲- ثورة الحسين عليه السلام في الوجدان الشعبي.
۳- أنصار الحسين.
يطرح فكرًا متوازنًا؛ حيث يُسَلِّطُ الأضواء على الجذور والخلفيات التي تَمَخَّضَتْ عنها مأساةُ كربلاء بالإضافة إلى طول الباع في التتبع التاريخي، مرورًا بالشعائر الحسينية والغور في الأبعاد لشخصيات ملحمة كربلاء.
ولا يسع المجال هنا للوقفات النقدية على بعض رؤاه .
إذن، لسنا هنا، في هذه اللمحة المقتضبة، في مقام عرض أدلة، ونفي أخرى في مسألة: هل أنَّ قضية الحسين (عليه السلام) ثورة أو نهضة أو حركة تصحيحية أو أمر بمعروف ونهي عن منكر، وترجيح حقَّانية فريق على آخر.
فربَّما يكون الجواب الحوزوي جاهزًا في الوسط: (لا مُشَاحَّة في الاصطلاح) على الرغم من التَنَظُّر أصلًا في أصل هذه القاعدة، وخصوصًا إذا طبَّقنا التعريفات المستحدثة في علم السياسة اليوم على المسئول عنه.
وإنَّما نريد أن نخلص إلى نتيجة نهائية متفق عليها، ألا وهي:
1- أنَّ الحسين (عليه السلام) فوق اجتهادات المجتهدين وتنظيرات المنظرين مهما عَلَتْ، ومهما سطع نجمُ أصحابها في عالم التشيع.
2- أنَّ الأمام الحسين أرواحنا فداه سرُّ الله المكنون وسيظل كذلك إلى حين قيام قائم آل بيت محمَّد (صلَّى الله عليه وآله وسلم).
على أنَّني لا أدَّعي عُلُوَّ كعبي على الأساطين مِمَّن ألَّف وكتب وبحث، وإنَّما هي مُجَرَّدُ إثارةٍ وتنبيهٍ وجوابٍ سريعٍ لسائلٍ مِنَ الخلَّان. وهي على أيَّة حال قناعةٌ توصَّلْتُ إليها لكثرة ما طالعتُ واستمعتُ من أدبيات قضية سبط رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) من يومِ سَعْدِ ولادته إلى عبق رحيق شهادته..