
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطيبين الطاهرين
فِكْرَةُ أُصُولِ الفِقْهِ
تختلف العلوم القانونيَّة الرياضيَّة عن غيرها مِن جِهةِ احتمالِ وعدَمِ احتمالِ الخطأ في أصولها وما يُبنى عليها؛ ففي الهندسة مثلًا نَاتِجُ ضرب نصف قاعدة المُثلَّث في ارتفاعه هي مساحته لا محالة، ولا يمكن لأحدٍ مهما ارتفع مستواه العلمي أن تكون له سلطةُ رأيٍ أو نظرٍ على هذا القانون، ومثله المعادلات الرياضيَّة في الجبر وما يُفاد منها في الفيزياء وغيره من العلوم؛ إذ أنَّها قواعِدُ تُكتشف، لا كما في العلوم الَّتي تعتمد على الملاحظة والاستقراء والتحليل للسلوك والمظاهر في عوالم النبات والحيوان والبشر، وما وراء الطبيعة المحسوسة مِمَّا تتطلع العقول لفهمه واستيعاب واقعه.
يُطْلَبُ في دراسَةِ العُلُوم الرياضيَّة مُدَرِّسًا يمتلك القدرة على بيانِ قواعِد وقوانين ثابتة لا تتأثَّر ببيئة مكتشِفِها ولن تتأثَّر بالمستوى العلمي لِمَن يُدرِّسها، فمثلًا السرعة المتوسطة لجسمٍ يتحرَّك بين نقطتين تساوي المسافة الكلية التي يقطعها ذلك الجسم مقسومة على الزمن الكُلِّي المُسْتَغرق لِقَطع تِلك المسافة، وهذا لن يتغيَّر ولن تُؤثِّر فيه عقيدةُ عالِمٍ أو توجهاته وانتماءاته؛ فهو حقيقةٌ رياضيَّةٌ ثابِتَةٌ في نفسها.
أمَّا في مثل علم الاجتماع أو النفس أو السياسة، وكذا في الفلسفة وغيرها من العلوم العقليَّة فما لم تستند القاعدة إلى برهان النقيضين فإنَّ دراستها حينها ترتكز وتدور حول بيانِ تَصَوُّرِ مَسائِلِهِا كَمَا تَصَوَّرَهَا عُلَمَاءُ سابقين، على تعدُّد تصوراتهم لكلِّ مسألة، ثُمَّ فَهْمِ مُنَاقَشَاتِهِم وضبط ما دار بينهم من نقض وإبرام، وهكذا كلَّما جدَّ جديدٌ في آفاق التأمُّل والنَّظر بين العلماء فإنَّه يُضمُّ إلى سابقه حتَّى يقوم بناءٌ على غيره بعد هدم بعض أسسه وفروعه.
لِذا فإنَّني لم أجد يومًا طاعةً في نفسي لدراسة مسألة اجتماعيَّة، أو سياسيَّة، أو فلسفيَّة، أو كلاميَّة، أو أصوليَّة ما لم أقف على مناشِئ تولُّدِها في ذهن من فكَّر فيها وشرع في التنظير لها والتأصيل لتصوُّرِها، واعتقد اعتقادًا راسخًا برجحان دراسة المناشئ قبل دراسة المسألة؛ وذلك لِما للوقوف على المنشأ من أهميَّة في تصور المسألة بِما قد يُوقِفُ الدَّارس على خطأ في أصل تصورها المنقول! والشَّيء ما لم يُلتفت إليه فإنَّه مع مرور الزمن يكون من المسلمات لا سيَّما مع تركُّز البحوث في ما بُنِي عليه، لذا فإنَّ مِن أهمِّ وصايا الأساتذة التحذير من مناقشة أي نظريَّة قبل تصورها واستيعاب بيانات صاحبها ومن تعرضوا لمناقشتها، وهذه وصايا مهمَّة غير أنَّها مبتورة عن أصلها وهو إحراز الوقوف العلمي على مناشئ تولد المسألة للتمكُّن من تصورها تصورًا صحيحًا بحسب واقعها.
مشكلة: تفتقر المؤلفات العقلية أو الاستقرائيَّة التحليلية إلى التصريح الواضح عن مناشئ تولُّد مسائلها وأسباب نظمها في علوم خاصَّة، وبسبب ذلك يضطر المهتم إلى التحليل طلبًا لاستجلاء تلك المناشئ والتولدات، والحال أنَّ واقع الدرس السائد ليس على هذا المسلك، وهذه مشكلة أخرى تُظهِر المهتم ببحث المناشئ في نظر كثيرين متجاسرًا على السمت العام خارجًا عنه مُضيِّعًا لمطالب الكتاب!
وكيف كان، فإذا اتضحت المقدمة أعلاه؛ اعلم أنَّ من أهمِّ معايير المستوى العلمي لطالب العلوم الدينيَّة هو مدى اتقانه لعلم أصول الفقه ومسائله، وصحَّة دخوله في المسألة حين التطبيق والخروج منها بحسب موازين الصناعة ودقَّة النظر. وقد دارت في بالي مُنذ زمن فكرةُ الكتابة حول مناشئ التفكير في مسائل انتظمت بعد حين في عِلمٍ أطلق عليه اسم (أصول الفقه)، وطالما منعتني المشاغل وحالت دون الشروع الشواغل، إلى أن حانت الفرصة وتجدَّد العزمُ، فأخذتُ بناصية القلم لأكتب ما أرجو أن يكون لله فيه رضى، ولمن يمرُّ عليه قارئًا متأمِّلًا أجرٌ وثَواب.
ملاحظة: اقترح، بل طلب بعض الأكارم من طلبة العلم أن أبسط الكلام وأن لا أترك مطلبًا دون شواهد، وبالرغم من قناعتي بأهميَّة البسط والإسهاب، كما وبالرغم أيضًا إفاضة بعض الإخوة بما يُثري ويُغني، إلَّا أنَّ الغاية في هذا المقال مقصورة على بيان فكرةٍ أعتقد أهميَّتها، ثُمَّ إنِّي أترك فهمها ووزنها للقارئ الكريم.. وللبسط مقام آخر إن شاء الله تعالى.
ثُمَّ إنَّه من المهمِّ الإلفات إلى أنَّ المقالة ليست بصدد الانتصار إلى (أصول الفقه) ولا توجيه نقد إليه، وإنَّما هي -كما أسلفتُ- لطرح فكرة أعتقد أهميتها.
وفي البدء..
تعريف عِلم الأصول:
استعرض الشَّيخ عبد الهادي الفضلي (رحمه الله تعالى)[1] مجموعة من التعريفات لعلم أصول الفقه بعد تصريحه بعدم الوقوف على تعريف واضح؛ وذلك لعدم وضوح موضوعه. قال: "ولأنَّ موضوعَه غيرُ واضِحِ المَلَامِحِ في مُدوناته المعروفة بسبب اختلاف النظرة إلى واقعه الَّتي تتلخص في فروقها بالإجابة على التساؤلات التالية:
هل هذا العلم يبحث في الأدلة مطلقا؟
أو هو يبحث في خصوص أدلة الفقه، وبشكل عام، أي بما يشمل الأمارات والأصول أيضًا؟
أو أنَّه يختص ببحث الأدلة الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والعقل؟
أو أنَّه لا موضوع خاصا له، وإنَّما يبحث في مسائل شتى، تلتقي تحت سقف غرضٍ واحد، هو القاسم المشترك لها، والقدر الجامع بينها، وذلك الغرض هو الوصول إلى الحكم الشرعي أو ما يقوم مقامه من وظائف عقلية؟
بسبب هذا جاءت تعريفاته - هي الأخرى - مختلفة أيضًا"[2].
ثُمَّ انتهى إلى أنَّ التعريف الأنسب هو أنَّه: "العلم الذي يْبحَث في الدلالة بعامَّةٍ والدَّلالة الفقهية بخاصة. أو قُل باختصارٍ؛ علم الأصول: هو دراسة أصول الاستنباط"[3].
قُلتُ:
تناقل المسلمون أحكامًا فقهيَّةً مستغنية تمامَ الاستغناء عن الاستنباط وأدواته، مِثل وجوب الصَّلاة والصوم والحج وما إلى ذلك مِن أحكامٍ مطابقة للواقع، ولذا فإنَّك لن تجد يومًا عالِمًا يقول باستناد القول بوجوب الصلاة إلى ظهور (أقِم) من قوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) في الوجوب، أو إلى مُفاد مِثل صحيح الفضيل بن يسار عن أبي جعفر (عليه السَّلام): "بُنِيَ اَلْإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ عَلَى اَلصَّلاَةِ وَ اَلزَّكَاةِ وَ اَلصَّوْمِ وَ اَلْحَجِّ وَ اَلْوَلاَيَةِ"[4].
نعم؛ فإنَّ البحث في دلالة فِعل الأمر للخروج بقاعدة تُطبَّق لاستنباط الوجوب أو الندب أو الأعم من أحدهما والآخر مِن موارد استعمال مادَّة الأمر أو هيئته، فيقول العالِم استنادًا إلى البحث الأصولي بدلالة مادَّة الأمر وصيغته على الوجوب حقيقةً أو ظهورًا، وواقع الحال أنَّه يقول بأنَّ الله تعالى متى ما استعمل الأمر مادَّة أو هيئة في خطاب قرآني أو على لسان أحد المعصومين (عليهم السَّلام) فإنَّه يريد الوجوب أو الاستحباب على تفصيل يُطلب في مباحث علم أصول الفقه.
فالبحث الأصولي يطلب القوانين والقواعد الَّتي على وفقها ينشأ الحكم الشرعي ويُجعل على عهدة المكلَّف ويُصاغ في بيان إثباتي تُطبق عليه تلك القواعد فيُستنبط منه الحكم الشرعي. فالفرض أنَّ نفس القواعد التي ينتهي إليها البحثُ الأصولي هي القواعد التي يكون على وفقها الحكم الشرعي في كل مراحله.
وبعبارة أدق: لو افترضنا مولىً عالِمًا مُحيطًا حكيمًا بصيرًا دقيقَ النظر فإنَّ تشريعاته وكلَّ ما ينطق به لن يخرج عن أساليب وقوانين وقواعد ثابتة بحيث تقوم معها الحجة، مع الالتفات إلى أنَّ نفس النظام هو مُعتَمَدُ الشَّارع المُقدَّس ولم يبتدع غيره.
بناءً على فكرةٍ قد تكونت في نفس الأصولي، وهي أنَّ تشريعات المولى تصدر على وفق قوانين وقواعد وأساليب ثابتة، ثُمَّ إنَّ الفكرة قد تحولت بالتأمُّل والنظر إلى قناعة، فإنَّه بعد ذاك بذل جهده للوقوف على القوانين والقواعد والأساليب المذكورة وإحكام معرفتها ليكون بحسبها قادرًا على استنباط الأحكام والتفريع على الأصول مهما امتدت القرون وتكثرت الوقائع الحادثة؛ والوجه في ذلك أنَّ البحثَ الأصولي يُعطي الأدوات والمسارات التشريعيَّة للعالِم الفقيه بأصول الفقه.
المادَّة العلميَّة للعمل الأصولي:
يرتكز العمل الأصولي على أمرين رئيسيين؛ أحدهما أنَّ الشَّارع المُقدَّس سيِّدُ العقلاء، والآخر مِنْ كَونه سيِّد العقلاء؛ وهو أنَّه يخاطبنا بخطاب العقلاء معتمدًا على فهمهم من جهة كونهم عقلاء.
إنَّ القول بأنَّه جلَّ في علاه سيِّد العقلاء ليس للاستدلال على حجيَّة سيرتهم فحسب، ولكنَّه يشمل ويستوعب مناشئ وطُرق وأساليب تفكير العقلاء وأهل الحكمة؛ ومن أمثلة ذلك قطعنا باقتضاء الحكمة أن لا يكون قولٌ أو فعلٌ إلَّا لمصلحة، ولا يتصور من حكيمٍ غير ذلك وإلَّا كان قولُه أو فعلُه لغوًا وعبثًا.
نلاحظ في بحث (الإجزاء) مثلًا ابتناءَ جانبٍ من مطالبه على مدى وفاء امتثال الحُكمين الظاهري والاضطراري بالمصلحة التي يستوفيها امتثال الحكم الواقعي، ومن هذه النقطة في البحث تُسجَّل الفروض وما يترتب على كلِّ فرض.
إنَّنا في الواقع لا نجد في النصوص الشريفة ما يدل على مسألة المصالح من الأحكام الشرعية كما تُبحث في بعض مباحث أصول الفقه، وفي نفس الوقت لا يسعنا إنكارها، إلَّا لو تمكنَّا من نفي الملازمة بين القول أو الفعل بلا مصلحة وبين اللغوية والعبث.
نعم؛ يمكن القول بثبوت المصلحة لأصل التشريع والخطاب الإلهي، ونفس هذه المصلحة تنحل في كلِّ تشريع وخطاب، ومع ذلك يبقى ثبوت المصلحة. فتأمَّل.
حقيقة القواعد الأصوليَّة:
بناءً على ما مرَّ فإنَّ (أصول الفقه) هي في الأصل (أصول التشريع) الَّتي يلتزمها كلُّ عاقِلٍ حكيمٍ في تشريعاته وخطاباته سواء كان دينيًّا أم لا، وإنَّما قلنا (أصول الفقه) نظرًا لخصوصيَّة مجال البحث والتطبيق وهو شريعة الإسلام.
إنَّ مناشئ الأصول وأسسها الأوليَّة العامَّة مُعتَمَد كلِّ عاقلٍ حكيمٍ في تشريعاته وسَنِّهِ للقوانين، ويختلف البناء والتفريع باختلاف مجال التطبيق، ومن الأمثلة على ذلك مباحث التوصلي والتعبدي في (أصول الفقه)، فهي موجودة في غير (الفقه) ولكن بحسب المجال ومقتضياته؛ ففي تشريعات الدولة تَحْضُرُ مباحث التوصلي والتعبدي، ولكن بما يناسب الدولة وبنائها؛ إذ هناك من التشريعات مثلًا ما يُشترط فيها مباشرة المخاطب بها ولا تصح فيها الوكالة والإنابة، فهي بذلك في معنى صورة من صور (التعبدي).
إذا اتضح ذلك فمِن المفترض وضوح عدم صحَّة الإشكال على (أصول الفقه) كعلم رئيس في المدارس العلميَّة الشيعيَّة إلَّا بالإيراد على مرتكز البحث الأصولي وهو الملازمة بين قول وعمل العقلاء وأهل الحكمة وبين الشَّارع المقدَّس، أو أن يُقال بالملازمة ولكن مع منع الاجتهاد العقلي في النظر والتحليل وتطبيق العمل الاستدلالي والبرهاني على واقع التشريع الإلهي، وقصر إفادة ذلك مِن نفس النصوص الشريفة، وهذا ما سلك بيانه فعلًا الشَّيخ محمَّد بن الحسن الحر العاملي والشَّيخ يوسف آل عصفور البحراني (رضوان الله تعالى عليهما) وغيرهما.
أعتقد بعدم وجود معارض للقول بوجود أصول للتشريع، وإنَّما المعارضة في أمرين:
أحدهما: عدم التكليف بالاجتهاد العقلي للوقوف على تلكم الأصول، ولكنَّ التكليف المُحرَز هو معرفتها والوقوف عليها من نفس النصوص الشريفة، وما لم يؤخذ منها نصًّا وصراحةً فهو مِن الرأي المنهي عنه.
والآخر: خطأ التدوين ونظم القواعد في عِلمٍ خاصٍّ له تعريفٌ وموضوعٌ وغاية، والصحيح هو الوقوف عليها ومعرفتها كقواعد مُفادة من النصوص الشريفة.
قد يقال بأنَّ بعض المسائل اللغوية والفلسفيَّة لم تُنقَّح وتُعمَّق قبل نظمها في مسائل الأصول وتعرضها للجهد الأصولي وتدقيقاته.
فيُقَال: إن كانت تلك المسائل من القواعد فهي إمَّا أن تكون مذكورة في النصوص الشريفة وإلَّا فهي ليست مِمَّا يحتاجه الفقيه، وإن كانت في النصوص فلينقحها ويعمقها في حدود نفس النصوص ودون حاجة إلى نظمها في علم خاص.
وهكذا يدور النقاش، ثُمَّ بعد ذاك فإمَّا أن ينتهي إلى شيء، وإلَّا ففي الوقوف على أصل المشكلة وحقيقتها خير وكفاية.
السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي
14 جمادى الثَّانية 1466 للهجرة
البحرين المحروسة
.......................................
[1] - اخترتُ ما تقرَّر عند الشَّيخ عبد الهادي الفضلي (رحمه الله تعالى) لاتسام كتبه العلميَّة (الحوزويَّة) بالحيادية والموضوعيَّة الأكاديميَّة؛ فهو يستعرض الأقوال ويعمل على الموافقة بينها ودراستها واستخراج المشترك بينها أو ما يكون متوافقًا معها قدر الإمكان.
[2] - دروس في أصول الفقه للإمامية -الشَّيخ عبد الهادي الفضلي- ص97.
[3] - المصدر السَّابق ص101.
[4] - الكافي – الكليني- ج2 ص18.