
تمهيد
إن الإشكاليّة الأساسية في هذا البحث هي أن الأحكام الظاهريّة هل تقع موضوعًا لحكم العقل بوجوب الامتثال والطاعة كما هو الحال في الأحكام الواقعية، أم لا تقع كذلك؟
ويترتب كون الحكم الظاهري موضوعًا لحكم العقل بوجوب الامتثال على أنّ له جعلا مستقلًا لمصلحة وملاك فيه، فيستحق المكلف عقابا خاصا لمخالفة الحكم الظاهري، وأمّا لو بنيَ على عدم وجود جعل مستقل للحكم الظاهري فلا يترتب هذا الأثر كما هو غير خافٍ.
فلو فُرِضَ أن الحكم الواقعي هو حرمة اللحم، ودلّ خبر الثقة على الحرمة، فلو عصى المكلّف بعد قيام خبر الثقة عنده – وهو حكم ظاهري – فإن بُنيَ على أن الحكم الظاهري موضوع مستقل لحكم العقل بوجوب الطاعة والامتثال، استحقّ المكلّفُ عقابين: أحدهما لمخالفة الحكم الواقعي، والثاني لمخالفة الحكم الظاهري، بخلاف ما لو لم يبنَ على ذلك.
الغرض من عقد البحث
ولا يخفى أنّه على مسلكنا المختار من أن الأحكام الظاهرية – وحقيقتها أحكام واقعية – هي أحكام حقيقية وواقعية يكون البحث متصورًا بشكل واضح.
إلا أن الغرض الأساسي من عقد هذا البحث النظر لما ذكره المحقق الآخوند (ره) في بحث الإجزاء من الكفاية، وتبعه عليه جماعة كالمحقق الأصفهاني (ره) صاحب نهاية الدراية والسيد الأصفهاني (ره) صاحب الوسيلة والسيد الإمام الخميني (ره) في مختلف تقريرات بحوثه – من إجزاء الأحكام الظاهرية في مورد الأصول العملية الموضوعيّة، كقاعدة الطهارة مثلا، فلا تلزم الإعادة. ومؤدّى ذلِك أن للأحكام الظاهرية وظيفةً زائدة على مجرد الطريقية كما سيتضح.
فلو صلى المكلف بثوبٍ اعتمادا على أصالة الطهارة ثم انكشف له الخلاف، فإنّ هؤلاء الأعلام يبنون على الإجزاء وعدم لزوم الإعادة، مما يعني أن الحكم الظاهري حلّ مكان الحكم الواقعي، ومن ثمّ يقع البحث عن أن الأحكام الظاهرية أهي موضوع مستقل لحكم العقل بوجوب الامتثال والطاعة كما هو شأن الأحكام الواقعيّة أم لا.
مسلك الأعلام في المسألة
المعروف عند الأعلام، ومنهم السيد الشهيد (ره)، أن الحكم الواقعي ليس موضوعا مستقلًا لحكم العقل بوجوب الامتثال والطاعة. ولنبيّن ذلك ونشرحه بناء على مختار السيد الشهيد (ره):
فإنّ السيد قد بين حين بحثه عن حقيقة الأحكام الظاهرية أنها مجرد خطابات تبين ما هو الأهم لدى المولى من الملاكات عند تزاحم حفظ هذه الملاكات، وليس لها مبادئ مستقلة وراء مبادئ الأحكام الواقعيّة. وبناءً على ذلك فلن تكون وظيفة الأحكام الظاهرية إلا التنجيز والتعذير بلحاظ الأحكام الواقعية المشكوك، سواءٌ جُعِل الاحتياط أم جُعِلت البراءة أم غير ذلك.
ومن ثمّ لن تكون الأحكام الظاهرية موضوعا مستقلا لحكم العقل بوجوب الطاعة، فلو خالف المكلف الحكم الظاهري فلن يستحق هذه المخالفة – وبلحاظ أنها مجرد مخالفة للحكم الظاهري – عقوبةً، لأن ما يدخل في عهدته هو الحكم الواقعي، وما يعاقب على مخالفته إنما هو الحكم الواقعي.
ويمكن الاستدلال على ذلِك بأمرين ومنبّه:
الدليل الأول: أنَّ الأحكام الظاهرية ليست لها مبادئ مستقلة وخاصة بها وراء مبادئ الأحكام الواقعية.
الدليل الثاني: أنّ دخول التكليف في العُهْدَةِ والحُكمَ بوجوبِ امتثاله إنما يكونُ لأجل ما فيه من المبادئ الخاصة التي تعلق غرضُ المولى بِها، فيُلزَمُ المُكلَّف بتحقيق غرض المولى بالامتثال لها. وأما الحكم الظاهري فإنّه بحد ذاته ليس موضوعًا مستقلا لدخول في العهدة.
المُنبّه: لو كانت الأحكام الظاهريّة تستوجبُ مخالفتها عقابا، لكانَ حالُ العالم بالحكم الواقعي مع مخالفته له أحسنَ من حال المخالف للحكم الظاهري. وبيان ذلك: أنّ من تركَ الواجب الواقعي مع علمه بوجوبه لا يستحق إلا عقابًا واحدًا كما هو واضح، وأما من ترك الحكم الظاهري – بناءً على أنّ مخالفته تستوجب عقابًا – لكان مستحقًا لعقابين أحدهما على مخالفة الحكم الظاهري والآخر على مخالفة الحكم الواقعي، ولا يخفى أنّ الوجدان قاضٍ بأنّ عقوبة مخالف الحكم الواقعي مع علمه بوجوبه يجب أن تكون أشدّ من مخالف الحكم الظاهري[1].
فالحاصل أن الأحكام الظاهرية ليست موضوعا مستقلا لحكم العقل بوجوب الطاعة، بل هي مجرد خطابات تحفظ أغراض المولى، فحين يحكم العقل بوجوب الاحتياط مثلا فإن العقل يحكم بلزوم التحفظ على الوجوب الواقعي المحتمل، ويُستحق العقاب على عدم التحفظ على هذا الوجوب الواقعي المحتمل، وأما نفس الحكم بوجوب الاحتياط بما هو حكمٌ فلا يُستحق العقاب بمخالفته.
ولأجل ذلك كله اشتهر بين الأصوليين أن الأحكام الظاهرية أحكام طريقية وليست أحكاما حقيقية، بمعنى أنها لا تنشأ عن مصلحة خاصة لتوجب مخالفتُها استحقاق العقاب، بخلاف الأحكام الحقيقية.
ولا يقال: إنّ مقتضى عدم كون الحكم الظاهري موضوعا مستقلا لحكم العقل بوجوب الطاعة عدم العقوبة على مخالفته إن لم تؤدّ المخالفة للوقوع في مخالفة الحكم الواقعي: فلو أكل المكلف من اللحم مشكوك التذكية والذي قامت الأمارة على حرمته، ثم تبيّن أنه لحم مذكى، يجبُ أن لا يعاقب كما هو مقتضى عدم كون الحكم الظاهري حكما حقيقيًا، فكيف يُلتزم بمعاقبته؟
لأنّه يقال: إن عدم ثبوت العقوبة إنما هو بلحاظ أنه حكم ظاهري لا حقيقي، ولكن تثبت العقوبة بملاك التجري على مخالفة أوامر المولى وانتهاك حرمته وحدود مولوليته، وذلك بناء على أن التجري هو مخالفة مطلق ما قامت عليه الحجة وليس مختصا بمخالفة القطع وبناء على استحقاق المتجري العقاب.
الفوارق بين الحكم الواقعي والظاهري
وبناء على ما تقدّم من بيان لمسلك السيد الشهيد (رحمه الله)، يمكن عدّ فوارق ثلاثة بين الحكم الواقعي والظاهري:
الفارق الأول: من حيث الملاك.
وحاصلُه أن ملاك الحكم الواقعي يوجد في متعلقه، وملاك الحكم الظاهري هو الحفاظ على أهم الملاكات الواقعية المشتبهة عند المكلف، وليس له ملاك في متعلقه.
الفارق الثاني: من حيث الغرض.
فالحكم الظاهري مجرد وسيلة للحفاظ على الملاكات الواقعية المختلط لدى المكلف، فتنجِّزُ حال المطابقة للواقع وتعذّر حال المخالفة للواقع. وأما الحكم الواقعي فغرضه تحريك المكلف نحو الفعل أو الترك.
الفارق الثالث: من حيث حكم العقل بوجوب الامتثال.
فالحكم الواقعي ولكونه ناشئًا من وجود الملاك في متعلقه فإنّ العقل يحكم بلزوم امتثال الحكم الواقعي لتحصيل غرض المولى الموجود في متعلق الحكم، فيكون الحكم الواقعي موضوعا مستقلا لحكم العقل بلزوم الامتثال ويترتب على مخالفته العقوبة وعلى موافقته المثوبة.
وأما الحكم الظاهري فلعدم نشأته عن ملاك في متعلق الحكم في مقابل ملاكات الأحكام الواقعية بل غرضُه مجرد الحفاظ على الملاكات الواقعية الأهم، فلا يكون موضوعا لحكم العقل بلزوم الامتثال والطاعة.
مسلك صاحب الكفاية
وقبل عرض ما ذكره (رحمه الله) لا بد من الإشارة سريعًا لأمور ثلاثة تعين على سهولة هضم وتناول المطلب:
مقدمات ثلاث
الأولى: أن الحكم الظاهري تارة يُجعل فيه تنجيز الواقع وإحراز الواقع به كما هو في الأمارات، وتارةً لا يكون له أكثر من بيان الوظيفة العملية كما في الأصول العمليّة.
الثانية: أنّ الأصل تارةً يكون حكميًا وأخرى يكون موضوعيًا. وحاصلُ ذلك أنّ الأصل كما الأمارة تارةً يكون دورُه تنقيح الموضوع وأخرى تنقيح الحكم.
فالأمارة الموضوعيّة كالبيّنة التي تنقح موضوع الحكم الذي أخذت البينة فيه موضوعًا، والأمارة الحكمية كالنصوص الحديثية التي تنقّح الحكم الكلي.
والأصل الموضوعي هو الأصل الذي ينقح موضوع الحكم، كالحكم ببركة قاعدة الطهارة بطهارة الثوب الذي ينقح ويحقق صغرى لكبرى اشتراط الصلاة بالثوب الطاهر، أو الاستصحاب، أو أصالة الحل، وهكذا.
وذلك بخلاف الأصل الحكمي، كإثبات حرمة وطأ الحائض بعد النقاء وقبل الغسل باستصحاب الحرمة.
فالأصل الموضوعي هو الأصل الجاري في الموضوع لإحراز حكمها، والذي ينقح الموضوع الذي يترتب عليه الحكم الشرعي.
والأصل الموضوعي مقدم على الأصل الحكمي؛ لأنّ الموضوع علة لتحقق الحكم، ومن ثم فما يحقق العلة أولى بالتقدّم مما يحقق المعلول، فالأصل الموضوعي منقح للموضوع بما يرفع الشك عن حكمه، فلا يبقى مجال للأصل الحكمي. وعليه فلو اقتضى الأصل الموضوعي الحلية مثلا، واقتضى الأصل الحكمي الحرمة، يقدم الأصل الموضوعي.
الثالثة: تقدّم أن المشهور بين علماء الطائفة بطلان التصويب الأشعري والتصويب المعتزلي بكلا وجهيه، وإن كنّا اخترنا أن الوجه الثاني للتصويب المعتزلي لا يوجد ما يوجب بطلانه.
عودٌ على كلام الكفاية
إذا اتّضح ما تقدم، فقد ذكره (ره) في بحث الإجزاء عند الحديث عن إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري ما نصه «والتحقيق: أن ما كان منه يجري في تنقيح ما هو موضوع التكليف وتحقيق متعلقه وكان بلسان تحقق ما هو شرطه أو شطره، كقاعدة الطهارة أو الحلية بل واستصحابهما في وجه قوي ونحوها بالنسبة إلى كل ما اشترط بالطهارة أو الحلية يجزئ؛ فإنّ دليله يكون حاكما على دليل الاشتراط، ومبينا لدائرة الشرط، وأنه أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية...»[2].
وتمامُ بيان مختاره في نقاطٍ ثلاث: الأولى حول بيان مختاره، والثانية في استلزام قوله للتصويب، والثالثة في محاكمة قوله (ره).
النقطة الأولى: بيان مختاره (ره).
يقرر (رحمه الله) أن الأصول العملية الجارية في الشبهات الموضوعية – كأصالة الطهارة – تتصرف في الأحكام الواقعيّة، فتوسّع في دائرة موضوعها توسعةً حقيقية، فالحكم الواقعي بشرطية طهارة الثوب في الصلاة بعد أن كان مقتصرًا على الثوب الطاهر واقعًا يتّسعُ ليشمل الثوب مشكوك الطهارة الذي جرت فيه أصالة الطهارة ولو كان نجسا واقعًا.
ويترتب على ذلك أن المكلف لو اعتمد على أصالة الطهارة ثم تبيّن له بعد الصلاة نجاسة الثوب واقعا عدم وجوب الإعادة وإجزاء ما صلّى عن المأمور به الواقعي؛ لأن الصلاة وقعت واجدة لشرطِها بعد فرضِ أن شرطها قد وُسِّعَ ببركة تصرف الأصل الموضوعي في دليل شرطية الطهارة، وهو حكومةٌ بالتوسعة؛ فإن الحكومة هي إيجاد فرد ادعائي تعبدي للموضوع، والموجَدُ هنا بالأصل الموضوعي فرد ادعائي من الطاهر.
وقد أوضح السيد الخوئي (ره) مطلب الكفاية بأجود بيانٍ، قال في المحاضرات[3] شرحا لذلك ما حاصله ومفاده:
إن الحكم الظاهري تارة يكون مجعولا في ظرف الشك والجهل بالواقع حقيقة دون نظر للواقع أصلا، وهو الأصل العملي؛ وأخرى يكونُ مجعولا في ظرف الشك والجهل بالواقع مع النظر للواقع والكشف عنه، وهو الأمارة.
أما الأصول العملية، فالمجعول في مواردها هو الحكم الظاهري في ظرف الشك والجهل بالمواقع بما هو جهل، ومن الطبيعي أن ذلك إنما يكون من دون لحاظ النظر للواقع، ومن ثم أخذ الشك في موضوع الواقع في لسان الأصول العمليّة. ولأجل ذلك فلا يتصف الأصل العملي بالصدق تارة وبالكذب تارة أخرى؛ لأنّ الحكم الظاهري الموجد في موارد الأصل العملي موجود ومجعول حقيقةً قبل انكشاف الخلاف، وبعد الانكشاف يرتفع من حيث الانكشاف لا من قبله. نعم، قد يكون الحكم في الأصل مطابقا للواقع وقد لا يكون، لكن هذا أمر أجنبي عن اتصاف الأصل بالصدق والكذب.
والنتيجة أنّ أدلة تلك الأصول حاكمةٌ على الأدلة الواقعية في مرحلة الظاهر، وتوجب توسع دائرتها: لأن ما دل على شرطية الطهارة أو الحلية للصلاة ظاهر في الطهارة أو الحلية الواقعية، ولكنّ الأصول العملية جعلت الشرط أعم من الطهارة والحلية الواقعية أو الظاهرية، ومن ثم لو صلى المكلف مع الطهارة الظاهرية ثم انكشف الخلاف لم يكن عمله فاقدا للشرط بل هو واجد له حقيقة والشيءُ لا ينقلبُ عما وقع عليه.
ومن هنا ذكر (ره) أنّ الحكومة هنا حكومة واقعية وليست ظاهرية. ولتوضيح ذلك بصورة أكبر لا بدّ من التفريق بين الحكومة الواقعية والحكومة الظاهرية.
تفريق الحكومة الواقعية عن الحكومة الظاهرية
إن الحكومة التي تؤثِّرُها أدلة الأحكام الظاهرية على الأحكام الواقعيّة تارة تكون حكومة واقعية وأخرى تكون حكومة ظاهريّة. وتشترك كلا الحكومتين في أنّهما توسّعان أو تضيّقان الحكم الواقعي، فهذا هو مقتضى الحكومة، إلا أنّهما تفترقان فيما يلي:
الفارق الأول: في الحكومة الواقعية يكونُ الدليل الحاكمُ في عرض الدليل المحكوم، بينما في الحكومة الظاهرية يكون الدليل الحاكم في طول الدليل المحكوم.
الفارق الثاني: في الحكومة الواقعية لا يؤخذ الشكُّ في الدليل المحكوم عنوانًا في الدليل الحاكم، بينما في الحكومة الظاهرية يكون الشكّ في الدليل المحكوم مأخوذًا عنوانًا في الدليل الحاكم.
وبيانُ ذلِك أن في الحكومة الواقعية لم يؤخَذ في موضوع الدليل الحاكم الشكُّ في الدليل المحكوم ليكون أسبق منه رتبةً، بل كلاهما في عرض واحد، بينما في الحكومة الظاهرية يؤخذ الشكُّ في الدليل المحكوم في موضوع ولسان الدليل الحاكم، وبطبيعة الحال يقتضي ذلك أن يتقدم الدليل المحكوم رتبةً على الدليل الحاكم، فيكون بينهما طوليّة لا عرضيّة.
مثلًا: إن قوله (ع): (الطواف بالبيت صلاةٌ) وقوله (ع): (لا ربا بين الوالد وولده) يحكمُ الأول منهما بالتوسعة في موضوع دائرة شرطية الطهارة لتشمل الصلاة والطواف، ويحكم الثاني منهما بالتضييق في موضوع الربا ليُخرِجَ ما كان ربًا بين الوالد وولده، ولم يؤخَذ في كليهما الشكّ في الدليلين المحكومَين. فنُلاحظ ههنا أنّه لمّا كان الشك في الدليل المحكوم غير مأخوذا عنوانًا في الدليل الحاكم، لم يكن بين الدليلين طولية بل كانا في عرض واحد.
وأما في قوله (ع) (كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر)، والغرض تقريب فكرة الحكومة الظاهرية حسب دون تبنّي أن الحكومة في هذا الدليل حكومة ظاهريّة، فهو قد أُخِذَ فيه عنوان الشك في الطهارة حقيقةً، فهو حاكمٌ على ما دلّ على شرطيّة الطهارة في الصلاة توسعةً، فيضيفُ فردًا جديدًا وهو الثوب الطاهر تطبيقًا لقاعدة الطهارة. فنُلاحظ ههنا أنّه لما كان الشك في الدليل المحكوم قد أخذَ عنوانًا في الدليل الحاكم، ترتب على ذلك أن يكون الدليل الحاكم في طول الدليل المحكوم.
وبناءً على الفارق الأول، فإنّ في الحكومة الظاهرية ينتفي أيُّ أثرٍ للدليل الحاكم بانتفاء الشك؛ لأنّ الفرض أنه إنما عُلِّقَ ورُتِّبَ على الشك، بخلافه في الحكومة الواقعيّة كما هو واضح.
النقطة الثانية: استلزام كلام الكفاية للتصويب.
وحاصل وجه تصوّر التصويب: أن قاعدة الطهارة مثلا تغير الواقع على طبق مؤدى قاعدة الطهارة، وتغيير الواقع وفقا لمؤدى الحكم الظاهري تصويبٌ.
لكن صاحب الكفاية (ره) كان ملتفتًا إلى أن ما تقدم من أن الأصول الموضوعية حاكمة حكومة واقعية على أدلة الحكم الواقعي قد يقال بأنه مستوجب للتصويب، ولأجلِ ذلك عقد تنبيهًا في ختام بحث الإجزاء للإشارة إلى ذلك.
وحاصل ما أفاده – كما ذكر السيد المروّج (ره) في منتهى الدراية[4] – ما يلي:
إنّ الإجزاء لا يستلزم التصويب، فإنَّ فرضَ الإجزاء هو سقوط الحكم الواقعي إما لحصول الغرض الداعي لتشريعه كبعض الأوامر الاضطرارية والظاهرية، أو لعدم إمكان تحصيله. وأما فرض التصويب ففرضُه خلوّ الواقعة عن الحكم وانحصار حكمها في مؤدى الأمارة. ففي الإجزاء – وهو محل البحث – يوجدُ حكم في مرحلة الثبوت، بينما في التصويب لا يوجد حكم في مرحلة الثبوت. فالفرق بينهما بيّن.
وغاية ما هناك أن الحكم الواقعي المشترك بين العالم والجاهل يصبح فعليا مع إصابة الأمارة له، ويبقى على إنشائيته مع خطأ الأمارة له، وحينها إن كان مؤدى الأمارة والأصل وافيًا بتمام المصلحة أو جُلّها مع عدم إمكان تدارك الباقي فيسقط الحكم الواقعي ولا يصبح فعليًا، وإلا يبقى فعليا وتجب الإعادة أو القضاء[5].
النقطة الثالثة: في الإشكالات على مختار صاحب الكفاية.
بناءً على ما اتّضح من فارق بين الحكومة الواقعية والحكومة الظاهرية وأن مختار صاحب الكفاية في المسألة أنّ أدلة الأصول الموضوعية من الأحكام الظاهرية حاكمةٌ على الأحكام الواقعية حكومة واقعية لا ظاهريّة، وقع الإشكالُ على صاحبِ الكفاية (ره) من عدة نواحٍ. والعمدةُ في ذلك ما ذكره الشيخ النائيني (ره) كما في فوائد الأصول أو أجود التقريرات، وتابعه على ذلك السيد الخوئي (ره).
وقد أُشكِل بمجموعة من الإشكالات:
الإشكال الأوّل: عدم انطباق مفهوم الحكومة على المورد.
إنّ صاحب الكفاية (ره) انتهى إلى أن أدلة الأصول الموضوعية حاكمةٌ على أدلة الأحكام الواقعية، وهذا يعني المفروغية عن كون المورد من موارد الحكومة. لكن الميرزا النائيني (رضي الله عنه) أشكَل بأنّ مفهوم الحكومة غير منطبقٍ ههنا، فإنّ الحكومة عند صاحب الكفاية إنما هي ما كان الدليلُ الحاكم فيها معبرًا بـ (أعني) و(قصدتُ) وما أشبه من أدوات التفسير، ومن الواضح أنَّ مثل قوله (كل شيء طاهر) وشبهه ليس مفسرًا لما دل على أن الماء المشكوك طاهر وما شابه[6].
وبعبارة أخرى: إنّ الحكومة عند صاحب الكفاية (ره) منحصرةٌ بما إذا كان الدليل الحاكم مفسرًا بمدلوله اللفظي للدليل المحكوم، وهو غير منطبقٍ في المقام.
ولعل المحقق النائيني (ره) استفاد مختار صاحب الكفاية في معنى الحكومة من بحث لا ضرر حيث جمعَ بين حديث لا ضرر وأدلة الأحكام الأوليّة بالتوفيق العرفي لا بالحكومة لعدم ثبوت نظر دليل لا ضرر لتلك الأحكام[7]، وكذا من بحث تقدم الأمارة على الأصل حيث ذكر بأن وجه تقديمها ليس الحكومة لعدم كونها ناظرةً لأدلتها بوجه[8].
ويجاب عن هذا الإشكال بوجوه:
الوجه الأول: جواب السيد الشهيد
ما ذكره السيد الشهيد (ره) من إمكان واحتمال أن يعني صاحب الكفاية (ره) الورودَ لا الحكومة[9]، فهو يدّعي توسعة الموضوع حقيقةً وهو ورودٌ لا حكومة، وكأنّه يريد أن يقول: إن ما دل على اشتراط الطهارة في الصلاة دل على اشتراط مطلق الطهارة، وأصالة الطهارة تولّد فردًا حقيقةً من الطهارة.
ولكن يُلاحظ أنّ صاحب الكفاية (ره) إنّما عبّر بالحكومة وما يناسب الحكومة لا الورود، قال: «فإن دليله [أي الأصل الموضوعي] يكون حاكما على دليل الاشتراط ومبينًا لدائرة الشرط وأنه أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية»[10]، فالتعبير بالحكومة والتبيين لا ينسجم مع الورود بل مع الحكومة.
ثم إنّه لو سُلِّمَ أن المورد من موارد الورود لا الحكومة فهو غير مُجدٍ، بعد أنّ كان ضابطُ الورود رفعُ الدليل الواردِ موضوعَ الدليلِ المورودِ وجدانًا وحقيقةً، أو توسيعُ دائرته وجدانًا وحقيقةً، والتوسيعُ ههنا توسعٌ ظاهري ادعائي لا حقيقي[11].
الوجه الثاني: جواب المحقق الأصفهاني
وحاصلُه أنّ الحكومة عند صاحب الكفاية لا تنحصر فيما ذكره المحقق النائيني (ره)، وإنّما يكفي في حكومة أحد الدليلين على الآخر مجرّد إثبات الموضوع أو نفيه تنزيلًا. وأمّا ما ذكره المحقق النائيني (ره) فهو ناظرٌ إلى ما أورده الشيخ الآخوند (ره) على الشيخ الأعظم (ره) القائل بأن الحكومة هي نظر أحد الدليلين حيث أورد عليه بأنّ ذلك في مقام الإثبات لا يكون إلا بمثل (أعني)وأشباهه[12].
ولكن يمكن أن يجاب على ما ذكره المحقق الأصفهاني (ره) بأنّ ذلك يخالف ما اختاره صاحب الكفاية (ره) نفسه حيث فسر الحكومة في موردَين بأنها النظر، ففي آخر بحث الاستصحاب ذكر ما يظهر منه التزامُه بأن الحكومة هي النظر[13]، وفي أوائل بحث التعادل والتراجيح ذكر ذلك أيضًا[14].
ولأجل ذلك ذكر بعض الأعلام من المعاصرين (حفظه الله) أنّه يمكن القبول بالتوجيه الذي أفاده السيد الشهيد (ره) من أن المقام من صغريات الورود اعتمادًا على أمرين:
أولهما: أنّ صاحب الكفاية اعتبر في الحكومة النظر وأن يكون الدليل الحاكم ناظرا بمدلوله اللفظي لمدلول الدليل المحكوم، حيث صرح بذلك في آخر مبحث الاستصحاب وأوائل مبحث التعادل والتراجيح.
وثانيهما: أن ثبوت الموضوع – وهو الطهارة الظاهرية أو الحلية الظاهرية – بالوجدان؛ لأنّ دليل أصالة الطهارة يفيد جعل الطهارة الظاهرية حال الجهل بالواقع والشك فيه، وهو قطعي، ومتى كان نفي الموضوع للدليل نفيا وجدانيًا كان المورد من موارد الورود لا الحكومة، فالطهارة الظاهرية في ظرف الجهل بالواقع والشك فيه إنما هي بالوجدان شرعا لا بالتعبد[15].
إلا أن الجزم بكون مقصود صاحب الكفاية هو الورود لا يخلو عن صعوبة؛ لأنّه صرّح بأن المقام من صغريات الحكومة لا الورود كما أشرنا عند مناقشة ما أجاب به السيد الشهيد الصدر (ره).
الوجه الثالث، وهو المختار:
أنّ النقاش في كون المورد من موارد الحكومة أو الورود مجرد نقاش لفظي، فإنّه لا إشكال في أن هناك علاقةً تنشأُ بين دليل أصالة الطهارة ودليل اشتراط الصلاة في الطاهر مثلًا، سواءٌ أسمينا العلاقة بالحكومة أم أسميناها بالورود أم أسميناها بالتوفيق العرفي – كما يعبر صاحب الكفاية في موارد متعددة – ومن ثمّ فهذه العلاقة هي ما يجب البحث عن آثارِها وما يترتب عليها أيًا كان اسمُها، فمجرّد الخلاف في اسم هذه العلاقة لا يقدم أو يؤخّر شيئًا في أصل البحث وهو الإجزاء من عدمه.
وقد تبيّن عدم تمامية الإشكال الأول.
الإشكال الثاني: كون المورد من موارد الحكومة الظاهرية لا الواقعية.
وهو ما أورده المحقق النائيني (ره)، وحاصلُه أن المقام من صغريات الحكومة الظاهرية لا الواقعية، وبناءً عليه فأدلة أصالة الطهارة – مثلا – في طول أدلة الحكم الواقعي، وبمجرد انكشاف الخلاف ينتفي أثرُ الحكم الظاهري، وهو خلف الإجزاء، وقد تقدم شرح الفرق بين الحكومتين مفصلا.
وقد أجيبَ على هذا الإشكال بأكثر من وجه:
الوجه الأول: ما أجاب به السيد الشهيد الصدر
وحاصل الجواب: أنّ المقام ليس من صغريات الحكومة الظاهرية، بل هو من صغريات الحكومة الواقعية. وبيانه: أن موضوع دليل أصالة الطهارة هو الشك في طهارة الثوب ونجاسته، فهو في طول دليل الطهارة والنجاسة، فتكون الحكومة ظاهريةً. وأمّا علاقة دليل أصالة الطهارة بالحكم بوجوب إيقاع الصلاة في الثوب الطاهر فليست علاقة طولية، فلم يؤخذ في موضوع دليل أصالة الطهارة الشك في هذا الحكم ليكون في طوله، ومراد صاحب الكفاية أن دليل أصالة الطهارة يوسّع موضوع هذا الحكم الواقعي[16].
وقد رٌدَّ هذا الجواب بأنّ أصالة الطهارة كما أنها في طول النجاسة الواقعية فهي كذلك في طول الطهارة الواقعية؛ فإنها مجعولة للشيء المشكوك طهارته ونجاسته. ومدلول شرطيّة الطهارة للصلاة هو شرطية الطهارة الواقعية، وقد أُخِذَ الشكُّ في الطهارة الواقعية في لسان دليل أصالة الطهارة، فيكون حاكما عليه حكومة ظاهرية. وببيانٍ أوضح: إن «مفاد دليل أصالة الطهارة ليس إثبات شرطية الطهارة الظاهرية لكي يقال إن شرطية الطهارة الظاهرية ليست في طول شرطيّة الطهارة الواقعية رتبةً؛ لأنَّ كون الطهارة الظاهرية في طول الطهارة الواقعية لا يستلزم كون شرطيتها في طول شرطيتها، بل مفادُه إثبات الطهارة الظاهرية وجعلها، وحيثُ إنَّ الطهارة الظاهرية في طول الطهارة الواقعية، فلا يمكن أن تكون توسعةً لها»[17] فإن الحكم الظاهري لا يوسع الحكم الواقعي إلا ظاهرًا.
الوجه الثاني: ما جاء في كلمات السيد الإمام الخميني
إن المحقق النائيني (ره) ذكر أنه في الحكومة الظاهرية يترتب جواز ترتيب آثار الواقع ما لم ينكشف الخلاف، فإذا انكشف الخلاف انكشف عدم وجدان العمل لشرطه ويكون مقتضى القاعدة عدم الإجزاء[18].
ولبّ فكرة هذا الجواب ترتكز على أن انكشاف الخلاف غير متصوّرٍ في المقام، فلا تكون الحكومة ظاهرية بل واقعيّة.
وتفصيلُ ذلك أن يقال[19]: إن انكشاف الخلاف لا معنى له ههنا، فإنّه يوجد في انكشاف الخلاف معنيان لا يمكن التسليم بكليهما، ما يكشف عن عدم إمكان انكشاف الخلاف أصلًا:
أما المحتمل الأوّل لانكشاف الخلاف في المقام، فهو أنه لو اتضح أن الثوب كان متنجسًا ينكشفُ أن الشرط هو خصوص الطهارة الواقعيّة. وهذا مما لا يمكن الالتزام به؛ لأنّه إذا انكشف أن الثوب نجسٌ واقعًا لا يلزمُ أن الشرط هو خصوص الطهارة الواقعية، بل يُحتمل كذلك أن يكون الشرط هو الأعم منها ومن الطهارة الواقعية.
وأما المحتمل الثاني لانكشاف الخلاف، فهو أنه لو اتضح أن الثوب كان متنجسًا ينكشفُ أن دليل النجاسة مثبت للنجاسة منذ أول الأمر. وهذا مما لا يمكن الالتزام به أيضًا؛ لأنّ المفروض أن قاعدة الطهارة إنما حكمت على دليل شرطية الثوب أثناء الصلاة لا دليل النجاسة.
والنتيجة عدم تعقل معنًى لاعتبار قيدية عدم انكشاف الخلاف، ومن ثمّ فالمقام مقام حكومة واقعية لا ظاهرية.
هكذا أفاد (ره).
ولكن يمكن الجواب عليه بذكر احتمال ثالث لانكشاف الخلاف، وحاصلُه أنّ دليل أصالة الطهارة حاكمٌ على دليل شرطية الطهارة وليس حاكما على دليل نجاسة الثوب المتنجّس كما هو الفرض في المحتمل الأول، إلا أنّه حينما ينكشفُ الخلاف ينكشفُ أنّ الشرط عند الله تعالى هو الأعم من الطهارة الواقعية والظاهرية، وحينما علمت النجاسة ارتفع الشرطُ، فلا طهارة واقعية ولا طهارة ظاهريّة، ومن ثمّ فالنتيجة عدم الإجزاء.
وهذا هو مقصود المحقق النائيني (ره) من أنّ انكشاف الخلاف كاشف عن عدم وجدان العمل لشرطه، فالشرط هو الأعم من الطهارة الواقعية والظاهرية، فلا يقع الإجزاء.
إن قلت: إن فرضَ أن انكشاف الخلاف يؤدي لرفع الطهارة الظاهرية، يقتضي أن يكون تشريعُ الطهارة الظاهرية لغوًا.
قلنا: إنّ عدم انكشاف الخلاف أمرٌ غالبي، فتنتفي اللغويّة.
الوجه الثالث، وهو المختار:
وهو أن يقال بأن مدعى الآخوند (ره) أن دليل أصالة الطهارة وغيرها من الأصول الموضوعية حاكم بالحكومة الواقعية على دليل شرطية الطهارة، وموجبٌ لتوسعتها، وأصالة الطهارة ليست في طول هذه الشرطيّة حتى تكون الحكومة ظاهرية؛ لعدم أخذ الشك في هذه الشرطية في موضوع أصالة الطهارة، بل هي في طول الطهارة الواقعيّة؛ لأخذ الشك في الطهارة الواقعية في موضوع أصالة الطهارة، ومن ثم تكون الحكومة واقعية ويندفعُ ما أفاده المحقق النائيني (ره).
وقد تبيّن بذلك عدم تمامية هذا الإشكال.
الإشكال الثالث: لزوم نواقض لا يُسلّم بها.
وهو مما أشكل به المحقق النائيني (ره) أيضًا، قال: «أن الحكومة لو كانت واقعية، فلا بد من ترتيب جميع آثار الواقع لا خصوص الشرطية، فلا بد وأن لا يُحكم بنجاسة الملاقي لما هو محكوم بالطهارة ظاهرًا ولو انكشف نجاسته بعد ذلك، ولا أظن أن يلتزم به أحد»[20].
فبناءً على كون الحكومة واقعيةً، تلزمُ لوازمُ لا يسلّم بها أحدٌ حتى الآخوند (ره) نفسه، وبيانُ ذلِك في المثال الذي ذكره المحقق النائيني: أنَّه لو بُنيَ مثلًا على طهارة الماء ظاهرًا ثم انكشف أنه نجس، فمقتضى الحكومة الواقعيّة التي تفيدُ توسعة موضوع الطاهر حقيقةً أن هذا الماء طاهرٌ شرعًا، مع أنه قد انكشف نجاسته، ومن ثمّ فإن ما يُلاقيه طاهرٌ وليس نجسًا، وهو مما لا يلتزم به أحدٌ.
وكذا لو توضأ بماءٍ محكوم بالطهارة ببركة أصالة الطهارة، ثم انكشف نجاسةُ هذا الماء، فإنّه يلزم بقاء الوضوء صحيحًا؛ لأنه أوجد الشرط الذي وَسّعته أصالة الطهارة، وهذا مما لا يلتزم به أحدٌ.
وقد ذكر السيد الخوئي (ره) أمثلة أكثر للوازم التي ترد على القول بالحكومة الواقعيّة مما لا يُسلِّمُ بها أحدٌ من الفقهاء ومنهم الآخوند (قدس الله نفسه)، قال في المحاضرات:
«ومن هذا القبيل ما إذا افترضنا أن زيدًا كان يملك دارا مثلا ثم حسل لنا الشك في بقاء ملكيته فأخذنا باستصحاب بقائها ثم اشتريناها منه وبعد ذلك انكشف الخلاف وبان أن زيدا لم يكن مالكا له، فمقتضى ما أفاده (قده) هو الحكم بصحة هذا الشراء؛ لفرض أن الاستصحاب حاكم على الدليل الواقعي وأفاد التوسعة في الشرط وجعله أعم من الملكية الواقعية والظاهرية، مع أنه لن يلتزم ولا يلتزم بذلك أحد حتى هو (قده)، فالنتيجة أن ما أفاده (قده) منقوض في غير باب الصلاة من أبواب العبادات والمعاملات»[21].
ويمكن أن نضيف نقضين إضافيين:
فمنها: لو صلى مع استصحاب الوضوء، فلازمه أن يكون استصحاب الوضوء مصححا للصلاة واقعا ولو انكشف الخلاف بعد ذلك؛ لفرض أن الاستصحاب حاكمٌ على حديث لا تُعاد فيما يتعلق بإعادتها من الطهور.
ومنها: لو تزوج بامرأة باستصحاب كونها خليةً ثم أنها ذات بعل، فلازم الحكومة الواقعيّة توسعة الاستصحاب دائرة شرطية خلو المرأة من الزوج في صحة عقد النكاح لتكون أعم من الخلية واقعا وظاهرًا.
والحاصل أن هذه النقوض لوازمُ لكلام الآخوند (ره) من الحكومة الواقعيّة، وهي مما لا يمكن أن يُسلّمَ بها حتى من قِبَلِه (رضي الله عنه).
وقد أجيبَ عن هذا الإشكال بأكثر من وجه:
الوجه الأول: ما ذكره السيد الصدر والسيد الروحاني
وهما يرجعان لروحٍ واحدة، ولنذكر حاصلهما:
أما ما أفاده السيد الشهيد الصدر (ره)، فحاصلُه أنّ أصالة الطهارة إنما تكون حاكمة على الدليل الذي يؤخذ في موضوعه الطهارة، فتوسّع موضوعه وتجعله الأعم من الطهارة الواقعية والظاهرية. وأما الدليل المأخوذ في موضوعه النجاسة فهي غير حاكمةٍ عليه؛ لبداهة أن الحكومة يشترط فيها النظر، وأصالة الطهارة ناظرة للطهارة، وما أخذ في موضوعه النجاسة غير منظورٍ فيه من قِبَلِ أصالة الطهارة.
قال ردًا على الإشكال: «وفيهِ: أنه يمكن لصاحب الكفاية أن يجيب على هذه النقوض بفرضية أصولية عهدة إثباتها صغرويا أو نفيها في ذمة الفقه، وذلك بأن يقول: إن أصالة الطهارة إنما توسع موضوع حكم أخذ فيه الطهارة، ولا تضيق موضوع حكم أخذ فيه النجاسة؛ لأن أصالة الطهارة توجِدُ طهارة أخرى ظاهرية في مقابل الطهارة الواقعية، ولا تنفي النجاسة الواقعيّة، فإذا ثبت في الفقه أن الطهارة هي الشرط في الصلاة ولكن النجاسة هي المانعة عن صحة الوضوء أو الموجبة لتنجس الملاقي كان التفصيل بين الأثرين معقولا لا محالة»[22].
فأصالةُ الطهارة – إذن – توجِدُ طهارة ظاهرية في مقابل الطهارة الواقعية، ولا تنفي النجاسة الواقعيّة، فإن ثبت فقهًا أن الطهارة هي الشرط في الصلاة والنجاسة هي المانعة عن صحة الوضوء فلا مناص حينئذ من التفصيل بينهما فإن ثبتت النجاسة ثبت بطلان الصلاة لأن أصالة الطهارة غير ناظرة إليها.
ثم ذكر (ره) دعوى وردّها، وحاصلُ الدعوى: أن أصالة الطهارة تدل بالالتزام العرفي على نفي النجاسة، ومن ثم فإنها تحكم على دليل شرطية الطهارة بالمطابقة وعلى دليل مانعية النجاسة بالالتزام. وعليه: فلو كانت الحكومة واقعيةً فإن الإشكال يرِد، وأما لو كانت الحكومة ظاهريةً فلا.
وأجاب عنه (ره) بما حاصله أنّ هذا الإشكال إنما يرد إن كان المقصود من الحكومة التنزيل، وأما لو كان المقصود من الحكومة في كلام الكفاية الورود – كما تقدم بحثه في جواب الإشكال الأول – فإنّ الإشكال لا يرد ويكون الفرق بين شرطية الطهارة ومانعية النجاسة واضحًا، والوجه في ذلك: أنَّ شرطية الطهارة يتحقق مصداقُها بأصالة الطهارة، وأمّا مانعية النجاسة فحيثُ كان انتفاؤها لا بدّ فيه من انتفاء تمام مصاديقه، وكانت أصالةُ الطهارة نافيًا تعبديًا للنجاسة الواقعية المشكوكة، فلا يمكن بها نفي النجاسة الواقعية حقيقةً بالورود، وبانكشاف النجاسة يتحقق أحد مصاديق المانعيّة[23].
هذا ما أفاده السيد الشهيد (رحمه الله). وقريبٌ منه جدًا ما أفاده سيد المنتقى (طابت روحه الطاهرة)، فإنّه ذكر بدايةً أن المقصود من الحكومة هو ما يتكفل بإيجاد ما هو الموضوع واقعًا[24]، وهو ما عبر عنه السيد الشهيد (ره) بالورود، وبيّن أنّ دليل قاعدة الحل والطهارة إنما يجريان لو ترتب حكم عليهما، وأما لو كان الحكم مترتبا على النجاسة والحرمة فلا يمكن نفيه واقعا بدليل هاتين القاعدتين[25]؛ لأنّ دليلهما في موارد شرطية الطهارة يوجد فردا من الطهارة هي الطهارة الظاهرية، فلا تكون الصلاةُ ببركتها فاقدة لشرط الطهارة، ولكن هذا لا يتنافى مع النجاسة الواقعيّة.
إلا أنّ هذين الجوابين يمكن أن يناقشا بأمور:
المناقشة الأولى:
إن الظاهر أن الوضوء لا يختلف عن الصلاة، فكما أن صحة الصلاة مشروطة بالطهارة، فكذلك الوضوء صحته مشروطة بطهارة الماء لا أنها مشروطة بعدم نجاسته، ولذا فلا يجوز الوضوء بما لم تحرز طهارته ولو بأصالة الطهارة.
ولنأخذ مثالًا لتقريب الفكرة: في الذبيحة المذكّاة توجد مسائل ثلاث: الأولى طهارتها، والثانية صحة الصلاة في جلدها، والثالثة في حلية أكلها. ففي مسألة الطهارة يشترطُ لإحرازِها أن لا تكون ميتة، وفي مسألة الصلاة يوجد خلاف في أن الذكاة شرطٌ أو عدمها مانع، وأما في الأكل فلا بد وأن تحرز الذكاة. فتُلاحِظُ أنه في مسألة أكلها مثلًا يجب إحراز الذكاة ولا يكفي عدم إحراز أنها ميتة.
هنا أيضا في الوضوء، فحينما نتحدث عن أن الشرط هل هو عدم كون الماء نجسًا أو أن الشرط أن يكون الماء طاهرًا، فقد نُحرِزُ عدم النجاسة ولكن لا نُحرِزُ الطهارة، فنفكك بين الأمرين، وهو في الحالة المشكوكة بين الطهارة والنجاسة، وبناءً عليه يكون ما جاء في هذا الجواب غير ممكن؛ لأن التفريق بين الوضوء والصلاة بحيث يكون المنظور إما دليل النجاسة أو دليل الطهارة في غير محله.
المناقشة الثانية:
قد عرفت فيما تقدم أن تقديم أصالة الطهارة على دليل شرطية الطهور للصلاة وإن كان يُحتمل أنه من باب الورود لا الحكومة، لكن في كلا التقديرين يكون المجعول الطهارة الظاهرية، فإنّه حكم ظاهري، فتوسعة موضوع الشرطية ظاهرية لا واقعية.
فإن تقرر كون التوسعة ظاهرية، كان مقتضى القاعدة عدم الإجزاء عند انكشاف الخلاف، لتبيُّنِ أنّ المكلف لم يعمل بما هو الواجب واقعًا.
ولا يمكن أن يكون التقديمُ واقعيًا ولو بالورود؛ لأنه حكم ظاهري وهو في طول الحكم الواقعي. ومنه يتّضح عدم صحة ما ذكره السيد الشهيد (ره) من أن تقديم أصالة الطهارة على دليل شرطية الطهارة يكون حقيقيًا لأنه من باب الورود.
ومجرّد كون دليل أصالة الطهارة يفيد تنزيل مشكوك الطهارة منزلة الطاهر الواقعي فتكون الحكومة حكومة واقعية، لهو أمرٌ غير ناهض لإثبات أن التقدم حقيقي؛ لأن مفاد دليل أصالة الطهارة إنما هو جعل الطهارة الظاهريّة وليس التنزيل. بالإضافة إلى أن تنزيل المشكوك لو كان فهو تنزيل ظاهري لأنّ دليل أصالة الطهارة في مقام بيان الحكم الظاهري لا الواقعي.
المناقشة الثالثة:
إن مفاد دليل أصالة الطهارة لو كان هو تنزيل مشكوك الطهارة منزل الطاهر الواقعي، كان لازمه صحة الصلاة واقعا عند الشك في الطهارة، وهذا ما لا يقول به أحد حتى صاحب الكفاية.
المناقشة الرابعة:
إن صحة الصلاة لا تتوقف على إحراز الطهارة استنادًا على أن موضوع الشرطية سيكون أعم من الطاهر الواقعي والمشكوك الطهارة كما عرفت. بل إن هذا الاحتمال غير محتملٍ عرفًا؛ لأن الرواية في مقام بيان الحكم الظاهري، ولو كانت في مقام بيان الحكم الواقعي في ترتيب آثاره – والتي منها الشرطية – لم يمكن استفادة الحكم الظاهري منها، وهو خلفٌ.
والنتيجة عدم تمامية هذا الوجه.
الوجه الثاني: ما أفاده السيد الخميني (ره).
وحاصلُه التسليم بورود هذا النقض، إلا أنّ مجرّد قيام ضرورة الفقه على عدم الالتزام بالنقض لا يوجب رفع اليد عن أصل المبنى، بل يوجب رفع اليد عن إطلاقه بلحاظ هذه الموارد حسب. فيُلتزم بأن الأصول الموضوعية حاكمة على الأدلة وقاضية بالإجزاء، لكن لو جاء دليل رفعنا اليد عن الإجزاء.
ولكن يرد عليه أن النقض إنما يشير لفساد الالتزام بهذه النقوض، ما يكشف عن علم بالخلل في أصل المبنى من استظهار الحكومة الواقعية للأصول الموضوعية.
الوجه الثالث في جواب الإشكال:
وهو المختار. وحاصلُه أنّه فيما يرتبط بالطهارة بخصوصِها فإنّ الإجزاء – ومن ثمّ التوسعة لموضوع الحكم الواقعي – مما يمكن استفادته روائيًا، حيث روى عمار بن موسى الساباطي أنه «سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلٍ يجد في إنائه فأرةً وقد توضأ من ذلك الإناء مرارا أو اغتسل منه أو غسل ثيابه، وقد كانت الفأرة متسلّخة، فقال: إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسِلَ أو يتوضأ أو يغسل ثيابه ثم فعل ذلك بعدما رآها في الإناء، فعليه أن يغسل ثيابه ويغسل كل ما أصابه ذلك الماء، ويعيد الوضوء والصلاة. وإن كان إنما رآها بعدما فرغ من ذلك وفعله فلا يمس من ذلك الماء شيئا، وليس عليه شيءٌ؛ لأنه لا يعلم متى سقطت فيه، ثم قال: لعله أن يكون إنما سقطت فيه تلك الساعة التي رآها»[26].
ووجه الاستدلال: أنّ السائل افترضَ أن المتوضّأ قد أعمل قاعدة الطهارة أو استصحاب الطهارة موضوعًا وما أشبه من الأصول الموضوعية، ولأجل ذلك قد توضّأ، والمستفاد من ذيل الرواية أنّ العلم بالنجاسة إن كان بعد الفراغ فلا موجب للإعادة، وهو الإجزاء محل البحث.
نعم، قد يُتحفظ على هذا الجواب من حيث إن منفردات عمار الساباطي يُتوقف في الاستناد إليها. وهذا الجواب إنما يعالج الإشكال الوارد على مثل الطهارة.
وأما النقوض الأخرى، كاستصحاب ملكية البائع أو صحة الزواج بامرأة لاستصحاب خلوها وما أشبه، فمدفوعةٌ بأنّ هذه اللوازم مخالفة للارتكاز العقلائي، فيوجب ذلك انصراف الدليل عنها، فلا يكون مرادا لدى صاحب الكفاية من الأوّل حتى يُنقض عليه بها.
الإشكال الرابع: عدم وفاء دليل قاعدة الطهارة بالمدعى.
وهو ما ذكره المحقق النائيني (ره) أيضًا، وخلاصتُه أنّ موثقة عمار – وهي دليل قاعدة الطهارة – لا يمكن أن تتكفل جعل الطهارة الظاهرية وتوسعة دائرة شرطية الطهارة في نفس الوقت؛ لأنّ الدليل الواحد لا يفي بهاتين الوظيفتين.
وشرحه: أنّ التوسعة التي يقوم بها دليل قاعدة الطهارة لما دلّ على شرطية الطهارة واقعًا، ينبغي أن تقع بعد ورود الدليل الجاعل للطهارة الظاهريّة، فبعد جعل الطهارة الظاهرية، يأتي الدليل الموسع لشرطية الطهارة لتكون الأعم من الواقعية والظاهريّة. والحالُ أن المفروض أنه لم يقم سوى ما دل على جعل الطهارة الظاهريّة وهو موثقة عمار عنه (ع) قال: (كل شيء لك نظيف حتى تعلم أنه قذر)، فلا يمكن أن يستفاد منه التوسعة[27].
وبكلمةٍ: إنّ مقتضى ما ذكره صاحب الكفاية هو أن المستفاد من دليل قاعدة الطهارة وجود جعلين: احدهما جعل الطهارة الظاهرية لمشكوك الطهارة، وثانيهما توسعة ما دل على اشتراط الطهارة ليشمل الطاهر ظاهرًا، ولا يخفى أنّ الثاني متفرعٌ على وجود الأول ولاحق له، فلا يمكن لدليل واحد أن يتكفّل إثبات كليهما.
وقد أجيب عن هذا الإشكال:
الوجه الأول: ما أفاده السيد الشهيد (ره).
وحاصله أن الإشكال مبتنٍ على كون مقصود الكفاية من الحكومة هو الحكومة الاصطلاحية، وأما على ما اختاره السيد الشهيد (ره) وقربناه سابقا من أن الصحيح هو كون الحكومة ههنا بمعنى الورود فلا يرد الإشكال، حيث يجاب على ذلك بأنّ الدليل الوارد إنما يوجد فردًا للموضوع ولا نظر له للحكم، فدليل قاعدة الطهارة يوجد طهارة ظاهريةً حسب، ولا مساس أو نظر له بالنسبة للحكم، بل يتمسك في إثبات الحكم المورود بنفس دليل المورود، ولا يتكفل الوارد إلا بجعل الطهارة[28].
لكن يُلاحظ عليه بأن هناك فرقا بين مفاد دليل أصالة الطهارة ومفاد دليل شرطية الطهارة: فإن مفاد الأول جعل الطهارة الظاهرية، ومفاد الثاني هو الطهارة الواقعية، ولا إطلاق في الثاني بالنسبة للطهارة الظاهريّة، فإنه ظاهرٌ عرفًا في أن الشرط هو الطهارة الواقعية، وإرادة الأعم تحتاج للقرينة، ودليل الطهارة الظاهرية لا يوجد فردا حقيقيا واقعيا ليكون مشمولا لدليل الاشتراط.
نعم، إن دليل أصالة الطهارة يوجب الطهارة الظاهريّة العذريّة، والتي لا ملاك لها سوى التسهيل النوعيّة، فلا تصلح الطهارة الظاهرية لأن تكون شرطا كالطهارة الواقعيّة، وغاية ما هناك أنها جعلت لتكون عذرا للمكلف عند مخالفتها للواقع.
الوجه الثاني: ما أفاده السيد الشهيد (ره) أيضا.
وحاصلُه أنه لو بني على أن المقصود من كلام الكفاية هو الحكومة بمعنى التنزيل وإسراء الحكم، فإنّ لصاحب الكفاية أن يدفع الإشكال بأنّ موضوع التنزيل ليس هو الطهارة الظاهرية حتى يُستشكل في تكفل جعل واحد للتوسعة وموضوعها في آنٍ واحد، بل إن موضوع التنزيل هو مشكوك الطهارة، فكأن المولى قال في موثقة عمار: (مشكوك الطهارة محكوم بأحكام الطاهر الواقعي بما هو طاهرٌ)، والطهارة الظاهرية منتزعةٌ عن مثل هذا التنزيل[29].
ويجاب عنه بغرابة هذا التوجيه، فلا شبهة في ظهور قوله (ع): (كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر) في جعل النظافة والطهارة ظاهرا وفي ظرف شك المكلف وعدم علمه به، وهو دالٌ على أن التنزيل إنما يكون بلحاظ الحكم الظاهري لا الواقعي. وأما حملُ التعبير الوارد في الدليل على تنزيل مشكوك الطهارة منزلة الواقع وبلحاظ أحكامه والتي منها الشرطية فهو مما لا يفهم عرفا من هذا اللسان.
على أنّ لازم ما ذكره (ره) أن يكون مدلول دليل أصالة الطهارة حكما واقعيًا، فلا يدل على حكم ظاهري، وهو خلف فرض البحث كما لا يخفى. ومجرد كون الحكم الظاهري منتزعا من هذا التنزيل مدفوعة بأن التنزيل إن كان واقعيًا فلا يصلح لأن يكون منشأ لانتزاع حكم ظاهري، لأنّه لا جدوى أو مبرر وراء ذلك.
الوجه الثالث: ما أفاده السيد السيستاني.
وقد أجاب سيدنا السيستاني (دام محفوظًا محفوفًا برعاية الله وحفظه) عن الإشكال النقضي بما حاصله أنه لا يلزم من رأي الآخوند (ره) القول بطهارة الثوب لو حكم بطهارتها بقاعدة الطهارة ثم بان نجاستُها؛ لأنّ النجاسة خارجة عن حدود التنزيل الوارد في لسان قاعدة الطهارة.
وأمّا بالنسبة للنقض بالوضوء بماء حكم بطهارتها بقاعدة الطهارة أو استصحابها ثم انكشفت النجاسة وأن ذلك لم يلتزم به أحد من الفقهاء، فإنّه يرِدُ عليه أن في المسألة أقوالا عديدة في المسألة ربما تجاوزت الخمسة، وقال جماعة من الفقهاء بالإجزاء كصاحب الحدائق والسيد نعمة الله الجزائري والشيخ جواد الكاظمي، وقد نقل المختلفُ ومفتاحُ الكرامة أقوالًا متعددة في هذه المسألة، فلا يستقيم القول بأن الإجزاء حينئذ لم يقل به أحد من الفقهاء وأن هناك تسالمًا. على أنّا لم نطلع على رسالة المحقق الآخوند لندعي أنه يلتزم بما لا يفتي به.
ومضافا لذلك فإنّ رواية إسحاق بن عمار في قاعدة الطهارة دالة على لزوم الإعادة، ويمكن أن يكون الحكم بالإعادة للنص الخاص، فيكون ذلك من قبيل التخصيص لقاعدة الطهارة[30].
الوجه الرابع، وهو المختار:
من أنّ إشكال المحقق النائيني يمكن دفعه بأمرين:
الأول: أن نبني على أن لدليل أصالة الطهارة مدلولين: مطابقي، وهو الطهارة الظاهرية، والتزامي، وهو توسعة شرط الطهارة في الصلاة. والمحقق النائيني (ره) يلتزمُ بتبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية.
الثاني: أن نبني على أن موضوع توسعة الشرط هو مشكوك الطهارة دون المحكوم بالطهارة الظاهرية، فكأن المتكلّم قال: (مشكوك الطهارة محكومٌ بأحكام الطاهر الواقعي)، وأن هذا هو مَنشأ انتزاع جعل الطهارة الظاهريّة. والتعبير بالطهارة الظاهريّة – مع كون الأحكام الثابتة لمشكوك الطهارة أحكاما واقعية – لأجل ارتفاع هذه الأحكام بالشك بالطهارة.
نعم، بناءً على أن المستفاد من قاعدة الطهارة هو الحكومة التضييقية على أحكام النجاسة، فلو التزم صاحب الكفاية بأن حكومة قاعدة الطهارة على أحكام النجاسة حكومةٌ ظاهرية لا واقعية، للزم من ذلك أن يكون دليل قاعدة الطهارة ينشئ حكمًا ظاهريًا تارة وواقعيًا تارة أخرى، فبلحاظ إثبات أن مشكوك الطهارة محكوم بأحكام الطاهر يكون حاكما حكومة واقعية، وبلحاظ نفي النجاسة الواقعيّة ينشئ حكومة ظاهريةً بداعي التعذير حسب.
ولا يُشكل بعدم إمكان الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري في خطاب واحد أو غرابة ذلك:
فإن مورد الحكم الواقعي المُنشأ بالخطاب هو الطهارة، ومورد الحكم الظاهري المنشأ به ذاتِه هو النجاسة، فيمكن الجمع بينهما.
وإنّ لذلك نظيرٌ في الفقه، كما ذكره جماعةٌ من أن خطاب وجوب القضاء عند فوت الفريضة يشمل الفريضة الواقعية والظاهرية معًا.
نعم، لو التزم المحقق الخراساني (ره)بأنّ حكومة قاعدة الطهارة على أحكام النجاسة حكومة واقعية أيضًا، فيكون المستفاد من قاعدة الطهارة في جميع مواردها الحكم الواقعي.
إن قلت: إنه بناء على ذلك تلزم لغوية جعل النجاسة؛ لأنّ مشكوك الطهارة بحكم الطاهر واقعًا ما لم يقطع بنجاسته، وهذا فرض نادر جدًا، فيلغو جعل النجاسة.
لأنه يقال: لا لغوية بعد أن كان جعل النجاسة إنما هو ببركة الإطلاق، وليست فيه أية مؤونة زائدة. مضافا إلى أنّه بناء على مختار الشيخ الأعظم (ره) – بل قد يظهر من صاحب الكفاية كما أشرنا له سابقًا – تكون الطهارة والنجاسة من الأمور التكوينية التي لا تنالها يد الجعل فينتفي أصل الإشكال.
***
النتيجة فيما أفاده الآخوند:
وبهذا كله يتضح عدم ورود الإشكالات المذكورة على المحقق الخراساني (ره)، ولكن هل يمكن الالتزام بالإجزاء كما أفاده (ره)؟ هذا ما يقع البحث عنه فيما يلي عند استعراض مختار السيد السيستاني (دام ظله) في الإجزاء والتعقيب عليه.
مسلك السيد السيستاني
لكي يتضح ما أفاده (دام ظله) في الإجزاء خصوصا في قاعدتي الطهارة والحل، يجبُ أولًا معرفة انقسام الاعتبار لقانوني وأدبي وما يترتب على كل واحد منهما، ثم تطبيق ذلك صغرويا على أدلة قاعدة الطهارة والحل.
أولًا: الاعتبار القانوني والأدبي والتفريق بينهما.
ذكر (دامت أيام بركاته) بأن الاعتبار القانوني عبارة عن صنع القرار المناسب للمصلحة الفردية أو الاجتماعية، وهو اعتبار متأصل لكونه ظاهرة اجتماعية عامة، ويتطابق فيه المرادان الاستعمالي والجدي.
وأما الاعتبار الأدبي فهو إعطاء حدّ شيءٍ لشيء آخر، أي التنزيل، بهدف التأثير في إحساس المجتمع ومشاعره، مثل إعطاء حد الأسديّة للرجل الشجاع بغرض زرع الهيبة منه في نفوس الآخرين. وهو ليس اعتبارا متأصلا كما هو الحال في الاعتبار القانوني، بل هو عمل فردي. ولا يتطابق فيه المرادان الاستعمالي والجدي، فإن المراد الاستعمالي هو ذكر معنى الأسد، بينما المراد الجدي هو العناية والادعاء في تطبيق معنى الأسد على الرجل الشجاع.
ووفقا لما تقدم يتضح أن الفرق بين الاعتبارين فرقٌ في الحقيقة والهدف والصفة، فرغم أن كليهما من مقولة الاعتبار والعمل الإبداعي، إلا أنهما يختلفان في الحقيقة والهدف والصفة:
فأما من حيث الحقيقة، فإن الاعتبار القانوني قرار مرتبط بالجانب العملي للفرد أو المجتمع، سواء بأسلوب مباشر كما في القوانين التكليفية، أم بأسلوب غير مباشر كما في القوانين الوضعية. وأما الاعتبار الأدبي فهو لا يرتبط إلا بالجوانب الذوقية والنفسية للإنسان.
وأما من حيث الهدف، فهدف الاعتبار القانوني هو قيادة إرادة الإنسان لتحقيق المصلحة والبعد عن المفسدة، بينما يهدف الاعتبار الأدبي للتأثير في النفوس والمشاعر.
وأما من حيث الصفة، فالاعتبار القانوني متأصل خارجا ويتطابق فيه المرادان الاستعمالي والجدي، وليس الاعتبار الأدبي متأصلًا أو يتطابق فيه المرادان الاستعمالي والجدي.
***
وانطلاقا مما تقدم، ذكر (دام ظله الشريف) أنّ مفاد قاعدة الطهارة لو كان الاعتبار القانوني، فسيكون المقصود من لسان الدليل جعلُ حكم ظاهري خاص بحالة عدم العلم بالقذارة حسب، وهو الحكم الظاهري، فلو انكشف أن الشيء قذرٌ لم يكن ثمة إجزاء على مقتضى القاعدة. ولو كان مفادها الاعتبار الأدبي، فسيكون المقصود من لسان الدليل تنزيل مشكوك الطهارة منزل معلوم الطهارة لحاظ جميع الآثار ودون جعل حكم شرعي أصلا لا واقعا ولا ظاهرا، وحينها لا يكون مفاد قاعدة الطهارة مقيدا بالشك بل يمتدُّ ليشمل حالة عدم العلم، فلا يتصوّر حينئذٍ انكشافُ خلافها.
وذكر (دام ظله) أنّ كون مفاد قاعدة الطهارة اعتبارا أدبيا مما يساعد عليه ذيل دليلها وهو (فإذا علمت فقد قذر)[31].
ثانيًا: تطبيقُ ما تقدّم صغرويًا
انتهينا إلى معرفة الفرق بين الاعتبارين القانوني والأدبي والأثر المترتب على كون مفاد الدليل أي واحدٍ منهما. ويُراد ههنا البحث حول تطبيق ذلك صغرويًا على أدلّة الأصول الموضوعيّة. وعليه فنتحدث أولًا حول قاعدة الطهارة، ثم أصالة الحل، ثم الاستصحاب، وذلك في نقاط ثلاث.
النقطة الأولى: مفادُ دليل قاعدة الطهارة
قال (دام ظله) في بحث الإجزاء ما حاصله أنّ البحث عن مفاد دليل قاعدة الطهارة تارةً يكون بلحاظ مقام الثبوت وأخرى بلحاظ مقام الإثبات:
البحث الثبوتي:
أما البحث الثبوتي، فيوجدُ في دلالة مدرك قاعدة الطهارة، وهو موثقة عمار، قال (ع): «كل شيءٍ نظيفٌ حتى تعلم أنّه قذِرٌ، فإذا عَلِمْتَ فقد قَذِرَ، وما لَم تعلم فليسَ عليكَ»[32] احتمالان:
أما الأول، فهو أن يكون الكلام مسوقًا لجعل الوظيفة العملية للشاك (الحكم الظاهري) دون الحكم الواقعي، فيُتعامل مع الشيء بحكم الطهارة حال الشك حسب.
وأما الثاني، فهو أن هذا اللسان يرتبط بفكرة التنزيل، بمعنى أنّ ما لا نعلم بقذارته ننزله منزلة الطاهر ولو كان في الواقع نجسًا؛ لأنّ التنزيل يقتضي ترتيب آثار المنزّل عليه على المُنزّل، وفيما نحنُ فيه فإن النجاسة وإن وجدت واقعًا ولكن نفترضها كأن لم نكن.
هذا من ناحية.
ومن ناحيةٍ أخرى، يوجد في النجاسة نوعان من الآثار: آثار ترتبط بالنجاسة ارتباطا ذاتيًا، وآثار ترتبط بالنجاسة ارتباطا جعليًا وبالمواضعة.
أما النوع الأول من الآثار، فهي مثل المطهرية وتنجيس الملاقي، فهي ترتبط بالنجس ارتباطا ذاتيًا، سواءٌ على مسلك الشيخ الأعظم من أن الطهارة والنجاسة أمر تكويني واقعي كشف عنه الشارع، أم على المسلك المقابِل من أن الطهارة والنجاسة حكم وضعي جعلي: أما على المسلك الأول فكون الأثر ذاتيًا واضحٌ لا يحتاج لبيان، وأما على المسلك الثاني فلأنّ الأحكام الوضعيّة متقومة بالآثار المترتبة عليها، ومن الآثار المطهرية وتنجيس الملاقي، وهي آثار لا يمكن أن تنفك عن النجاسة الواقعية في مرحلة الواقع.
وأما النوع الثاني من الآثار، وهو الخاضع للجعل والمواضعة، فهو كاشتراط طهارة البدن واللباس للمصلي، فيمكن للشيء أن يكون نجسا واقعًا ولا يعتبره الشارع مانعًا.
إذا اتّضح ذلك فنقول: إن المسارَ الفقهي يختلف بالنسبة لكل واحد من الأثرين للنجاسة بناءً على المسلك المستفاد من دليل قاعدة الطهارة:
فبناءً على المسلك الثاني، وهو أن المستفاد من دليل قاعدة الطهارة هو التنزيل وأنّ المعنى هو أن كل قذر لم تنكشف قذارته فهو منزّل بمنزلة النظيف والطاهر:
فأما الآثار الذاتية للنجاسة، فحكومة دليل قاعدة الطهارة عليها حكومة ظاهرية لبيان الوظيفة العملية للشاك، ولا يمكن أن تكون الحكومة واقعية؛ لاستحالة التفكيك في الواقع بعد فرض كون الأثر واقعيًا. وعليه فلا يتحقق الإجزاء.
وأما الآثار الجعلية للنجاسة، فحكومة دليل قاعدة الطهارة عليها حكومة واقعية، فلا تختص قاعدة الطهارة بالشكّ بل تشمل الناسي والعالم الذي يخالف علمه الواقع أيضًا، وعليه يتحقق الإجزاء.
ومما يترتب على مسلك التنزيل أنّه تُجعل آثار متعددة واقعا بعدد آثار النجاسة والطهارة؛ لأن تعبير (كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر) تعبير أدبي، فيُجعل لذلك أحكام متعددة.
وأما على المسلك الأول، وهو أن المستفاد من دليل قاعدة الطهارة هو مجرد الحكم الظاهري، فلا يأتي الإجزاء أصلًا؛ لأنّ الشارع جعل حكما ظاهريا ولم يتصرف في الحكم الواقعي أبدا، ويختص الحكم بالشاك حسب[33].
البحث الإثباتي:
ذكر (أطال الله بقاءه) أنّه يمكن تأييد المحتمل الثبوتي الثاني في مفاد أدلة قاعدة الطهارة، وهو التنزيل، بما ورد في ذات الدليل، وهو موثقة عمار: «كل شيءٍ نظيفٌ حتى تعلم أنّه قذِرٌ، فإذا عَلِمْتَ فقد قَذِرَ، وما لَم تعلم فليسَ عليكَ»، فالتقييد بالغاية وهو (حتى تعلم أنه قذر) يفيدُ أن لسان الدليل لسان تنزيلٍ، أي أنه اعتبار أدبي لا اعتبار قانوني كما تقدم بحثه.
والوجه في ذلِك أنّ الاعتبار الأدبي هو إعطاء حد شيءٍ لشيء آخر، وهو ما جرى التعبير عنه في الرواية، حيث أعُطيَ مشكوك الطهارة حدّ الطهارة. فنفسُ لسان الدليل لسان تنزيلٍ واعتبار أدبي.
ويضاف إلى ذلِك أنّ الأحكام الظاهريّة في زمانهم (عليهم السلام) لم تصل لحد القانون على ضوء رأيه (دام ظله) من أن الأحكام القانونية امتداد وتكامل للاعتبارات الأدبية، بل إنها في زماننا لم يعلم وصولها لهذا المستوى، ومن ثم ليست الأحكام الظاهرية اعتبارات قانونية بل المجال اعتبار وتنزيل.
وذكر شاهدا ثالثا وهو ما جاء في ذيل الخبر من أنه «فإذا علمت فقد قذِرَ، وما لم تعلم فليس عليك»، حيث إنّه لا يتصور أن المقصود (إذا علمت بالقذارة الواقعية فقد قذر)؛ لأن القذارة الواقعية لا تدور مدار العلم، ولا يتصور كذلك أن المقصود (إذا علمت بالقذارة الظاهرية فقد قذر)، لأن الأحكام الظاهرية لم تجعل للعالم، فيتعين القول بأن المراد هو القذارة التنزيلية.
ولا يقال: إنّ التنزيل ليس واقعيًا بعد أن أُخِذَ الشكُّ في موضوع الدليل، ولا أقلّ من إجمالِ ذلك. فإنّ ذلك يردُّه أنَّه ليس في البين شكٌّ قد أُخِذ، وما أُخِذَ هوَ العلم بالخِلاف، ولأجلِ ذلك تقدّم أن لسان الدليل شاملٌ لمورد النسيات بل حتى موارد العلم بالخلاف[34].
ويُلاحظ هنا أن السيد (دام ظله) رغم بنائه على عدم العمل بمنفردات عمار – على ما في البال – حيث لا يعمل بها إلا لو وجد عليها شاهد؛ لعدم ضبطه وتشوّش مروياته، إلا أنه لم ينكر ذلك سندًا.
هذا هو تمام ما أفاده (دامت أيام بركاته) فيما يتعلّق بالبحث الإثباتي والثبوتي في قاعدة الطهارة، وقد انتهى إلى أنها اعتبارٌ أدبي يفيد التنزيل على النحو المشروح.
النقطة الثانية: مفاد أدلة أصالة الحل.
والمقصودُ بالبحث هنا تطبيقُ ما تقدم من تفريق بين الاعتبارين القانوني والأدبي على المقام لمعرفة أنّ الأدلة قد أخذ فيها أي الاعتبارين.
ومر بنا أن صاحب الكفاية (رضي الله عنه) لم يفرق بين أصالة الحل وقاعدة الطهارة، فبنى على الإجزاء في كليهما وأن الحكومة في كليهما حكومة واقعية.
وأما السيد السيستاني فإنّه يخالف صاحب الكفاية في ذلك، ويرى أن أدلة أصالة الحل ليست واضحةً في اعتبار التنزيل كما هو في قاعدة الطهارة، والوجه في ذلِك:
أنّ عمدة الدليل على أصالة الحل موثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «سمعته يقول: كل شيءٍ هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، أو المملوك عندك ولعله حر قد باع نفسه أو خُدِعَ فبيعَ قهرا، أو امرةٍ تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة»[35]. وهذه الرواية مخدوشة سندا ودلالة:
أما من حيث السند، فلعدم ثبوت وثاقة مسعدة بن صدقة، ومجرّد توثيق المجلسي الأول (ره) له بأن مروياته في غاية المتانة موافق لما يرويه الثقات من الأصحاب مدفوعٌ بأنّ هذا الوجه تختلف فيه الأذواق. والاستدلال بكونه من رجال كامل الزيارات لا أثر له عند السيد (دام ظله). على أنّنا قد بنينا في محله على وثاقة مسعدة بن صدقة لاتّحاده مع مسعدة بن زياد كما اختاره السيد البروجردي (رحمه الله)[36].
وأما من حيث الدلالة، فذكر أن البناء على حكومتها على أدلة اشتراط الحليّة فرعُ إحراز دلالتها على التنزيل، وليس الخبر دالا على التنزيل المطلق، حيث جاء فيه (حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك)، فالعلمُ رافع للأثر السابق، واشتراء الثوب لا يوجب ترتيب آثار الملكية بعد الانكشاف. نعم، يمكن القول بأنها تفيد الحلية حتى مع قيام الأمارة كما تقدم في قاعدة الطهارة، ولكن استفادة التنزيل المطلق منها غير صحيح. وكذا سائر الروايات لا يستفاد منها التنزيل المطلق[37].
النقطة الثالثة: مفاد أدلة الاستصحاب.
ذكر صاحب الكفاية أن الإجزاء متحقق حتى في الاستصحاب في الموضوعات كغيره من الأصول الموضوعيّة.
وأما السيد السيستاني فلم يلتزم بهذه النتيجة لأن الاستصحاب ليس أصلًا، بل هو من الأمارات العقلائية من باب الاعتماد على الاطمئنان الحسي، ولسان روايات الاستصحاب هو توسعة الكشف حدوثا بالنسبة للبقاء، ولا علاقة له بتنزيل الواقع، بل غاية ما يفعله الاستصحاب هو توسيع دائرة العلم حسب[38].
***
والنتيجة التي ينتهي لها سيدنا السيستاني (دام ظله الشريف) ما يلي: «في موارد جريان قاعدة الطهارة حتى في موارد استصحاب الطهارة والعلم بالطهارة لا بد من الحكم بالإجزاء؛ لعدم منافاة ذلك لقاعدة الطهارة كما ذكر ذلك قدماء الأصحاب، حيث كانوا يرون جريان الأصول المتوافقة معا، ولم يقولوا بالطولية فيما بينها، وإنما المعاصرون ذهبوا لتقدم الاستصحاب على قاعدة الطهارة ولو كانا متوافقين، وأما القدماء فلا يعتقدون بالطولية، بل يذهبون لجريانهما معًا، وعلى ضوئه يصح الحكم بالإجزاء في قاعدة الطهارة، ولكن الإجزاء في قاعدة الحلية محل تأمل، وكذلك لا نعترف بالإجزاء أيضا في الاستصحاب»[39].
ويترتب على ما ذكره (دام ظله) من إجزاء قاعدة الطهارة تفسيرُ عدم كونها من الأصول العمليّة بل من القواعد الفقهية، وذلك كأحد التفسيرات المطروحة في المقام، فإنّ قاعدة الطهارة لما كان مفاد دليلها التنزيل والاعتبار الأدبي، فلا جعل شرعي ولا واقعيّ فيها، ولم يقيد مفادها بحال الشك، بل بحال عدم العلم الشامل للجهل المركب والغفلة والنسيان، ولأجل ذلك كله يكونُ دليلُها حاكمًا على الأدلة الأولية المتضمنة لاشتراط الطهارة. والحاصل أنّ حكومتها لما كانت حكومة واقعية، فإنّها لا تكون مسألة أصولية لعدم كونها طريقا كاشفا عن الحكم الشرعي، ولا حكما ظاهريا مجعولا للشاك في مرحلة الحيرة العملية[40].
وعليه فرغم أن السيد السيستاني يتفق مع صاحب الكفاية في أن قاعدة الطهارة تُجزئ عند انكشاف الخلاف، إلا أنهما يختلفان في الطريق: فصاحب الكفاية يعدها أصلا عمليا ومسألة أصولية، والسيد السيستاني يجعلُها قاعدة فقهية.
نقد مختاره (دام ظله)
يمكن أن يلاحظ على ما أفاده السيد السيستاني بأكثر من وجه:
الملاحظة الأولى:
إن دليل شرطية الطهارة لا يخلو من أحد أمرين: فإما أن يكون ظاهرا في الأعم من الطهارة الواقعية والظاهرية والتنزيلية، أو ظاهرا في خصوص الطهارة الواقعيّة.
فإن بني على الأول، كانت قاعدة الطهارة واردة على شرطية الطهارة، وتقتضي الإجزاء، من دون فرق بين كون مدلولها اعتبارا قانونيا أو أدبيًا.
ولو بني على الثاني، وهو الصحيح لأنّ المستفاد من قوله (لا صلاة إلا بطهور) اعتبار الطهارة واقعًا، فيترتب على ذلك وجوبُ أن يكون الاعتبارُ لقاعدة الطهارة هادفًا لإسراء أحكام الطهارة الواقعيّة إلى الدليل الآخر، وحينها يُلاحظ أن مقتضى دليل قاعدة الطهارة هل هو الطهارة الظاهرية فلا إجزاء أو الطهارة الواقعية فيقع الإجزاء.
ومنه يتضح أن الاعتبار الأدبي إن كان بغرض المنجزية والمعذرية – كما هو مقتضى مفاد دليل قاعدة الطهارة – فهو لا يقتضي الإجزاء، فليس مطلق الاعتبار الأدبي موجبا للبناء على الإجزاء.
وبكلمةٍ: إن ما ادعاه السيد (حفظه اله) من أن مقتضى كون مفاد قاعدة الطهارة هو الاعتبار الأدبي وهو ما يؤدي للإجزاء ليس صحيحا على إطلاقه، بل إنه إنما يسري لو بنيَ على أنّ الاعتبار الأدبي يفيد تنزيل الطهارة الظاهرية منزلة الواقع، وأما لو كان يفيد مجرد المعذرية والمنجزيّة فلا تسري هذه المقاربة.
إلا أن هذا الإشكال مردودٌ بأن السيد (دام ظله) يقرر بأن مدلول قاعدة الطهارة ليس مجرد المنجزية والمعذرية، بل تفيد التوسعة وترتيب الآثار، فالإيرادُ في غير محله.
الملاحظة الثانية:
أنه لم يتضح منشأ التفصيل بين قاعدتي الطهارة والحل، حيث حكم بأن دليل قاعدة الطهارة يفيد الاعتبار الأدبي المستدعي لتنزيل مشكوك الطهارة منزلة الطاهر واقعًا، ودليل قاعدة الطهارة هكذا: (كل شيء لك نظيف حتى تعلم أنه قذر فإذا علمت فقد قذِرَ)، بينما لم يحكم بذلك في قاعدة الحل، مع أن لسانها هكذا: (كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام فتدعه)، وهو مقارب جدا للسان قاعدة الطهارة.
فمع هذا التشابه الشديد بين اللسانين، بل لا يُكاد يُدرك الفرق بينهما من ناحية التقييد بالغاية، فحكمها ينبغي أن يكون واحدا: فإما أن كليهما اعتبار قانوني، أو أن كليهما اعتبارٌ أدبي، وأما التفكيك بينهما فلم يتضح وجهه.
خاتمة المطاف
وقد اتضح لحد الآن أن ما أشار له صاحب الكفاية (رحمه الله) من البناء على الإجزاء في الأصول الموضوعية مسلمٌ، فيكون للحكم الظاهري وظيفةٌ غير ما هو المشهور. وأمّا كونُ الاستصحاب أمارةً أو أصلًا – ليترتب الإجزاءُ فيه – فهو مما سنتحدث عنه في محله، وللحديث تتمة في بحث الإجزاء إن شاء الله.
هذا هو تمام الكلام في مسألة وظيفة الأحكام الظاهرية.
.........................
[1] - انظر: الحلقة الثالثة، ص27.
[2] - الكفاية، ص86.
[3] - المحاضرات، ج2، ص251-254.
[4] - الجزء2، ص91-92.
[5] - وأوضحه سيد المنتقى (ره) كما في الجزء 2 ص82-83 بما نصه: «إن الحكم له في نظر صاحب الكفاية مراتب أربع: مرتبة الاقتضاء، ومرتبة الإنشاء، ومرتبة الفعلية، ومرتبة التنجيز. وشرح المراد من كل منها ليس محله ههنا، وإنما المقصود هنا الإشارة إليها. والذي يرتبط بمحل الكلام فعلا من هذه المراتب هو مرتبة الفعلية والإنشاء دون مرتبتي الاقتضاء والتنجز.
ثم إن الذي ذهب إليه صاحب الكفاية في الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية كما أشرنا إليه هو كون الحكم الواقعي في موارد الطرق والأمارات إنشائيا، بحيث لو حصل العلم به يصير فعليا، سواء في ذلك القول بالطريقية والقول بالسببية، فإن الواقع يكون إنشائيا، والأمارة مانعة عن فعليته لا أكثر.
ولا يخفى أن الحكم الذي دلت الأدلة على اشتراك العالم والجاهل فيه إنما هو الحكم الإنشائي، فإنّ أدلة الاشتراك لا تقتضي أكثر من ذلك، أما الحكم الفعلي فهو مختص بالعالم لأن موضوعه العلم بالحكم الإنشائي.
وبهذا البيان ظهر أن القول بالإجزاء الذي هو فرع الالتزام بالسببية في حجية الأمارة لا يلازم التصويب بمعنى ارتفاع الحكم الواقعي؛ لبقاء الحكم الواقعي على ما هو عليه، ولكنه بمرتبة الإنشاء والأمارة المخالفة مانعةٌ عن فعليته. وهكذا الحال لو التُزِمَ بالإجزاء بناء على الطريقية. بل لا يعقل التصويب في مورد الأمارة والحكم الظاهري، لأن الجهل بالحكم الواقعي مأخوذ في موضوع الحكم الظاهري، فلا بد أن يفرض ثبوت واقع يتعلق به الجهل والعلم، فلو فرض ارتفاع الحكم الواقعي بقيام الأمارة يرتفع الشك في الواقع فيلزم ارتفاع موضوع الحكم الظاهري، فيلزم من وجود الحكم الظاهري عدمه، وذلك محال» انتهى.
[6] - فوائد الأصول، ج1، ص249، وأجود التقريرات، ج1، ص287.
[7] - الكفاية، ص382-383.
[8] - الكفاية، ص438.
[9] - بحوث في علم الأصول، ج2، ص158.
[10] - الكفاية، ص86.
[11] - يظهرُ أن السيد الشهيد (ره) ملتفت لهذا الإشكال، فقد ذكر كما في تقريرات السيد الحائري (دام ظله): «وإنما يدّعي [أي صاحب الكفاية] توسعة الموضوع حقيقةً التي هي في الحقيقة عبارة عن الورود لا الحكومة، فكأنما يريد أن يقول: إن الدليل الذي دل على اشتراط الطهارة في الصلاة إنما دل على اشتراط مطلق الطهارة سواء فرضت واقعية أو ظاهرية، وأصالة الطهارة تولِّدُ حقيقةً فردًا من الطهارة، وهي الطهارة الظاهرية إلخ»، مباحث الأصول، ق1، ج2، ص316.
[12] - نهاية الدراية، ج1، ص393.
[13] - الكفاية، ص429. لكنّ ذلك منه (ره) كان ردًا على كلام الشيخ الأعظم (ره)، فلا أقل من إجمال مورد الاستشهاد.
[14] - الكفاية، ص437، قال: «وعليه فلا تعارض بينهما بمجرد تنافي مدلولهما إذا كان بينهما حكومة رافعة للتعارض والخصومة بأن يكون أحدهما قد سيق ناظرا إلى بيان كمية ما أريد من الآخر مقدما كان أو مؤخرا أو كانا على نحو إذا عرضا على العرف وفق بينهما بالتصرف في خصوص أحدهما [...] أو بالتصرف فيهما [...] أو في أحدهما المعين إلخ»، ويُلاحظ أنّ كلام الكفاية أيضًا أعمّ مما ذكره المحقق النائيني (ره) من اشتراط النظر إثباتًا، لأنّ تقدم الدليل الحاكم لا يتصور معه أن يكون ناظرًا بـ (أقصد) و(أعني) لما هو متأخر عنه.
[15] - جاء نظير هذا الكلام في تقريرات بحث السيد الشهيد (ره) التي كتبها السيد الحائري كما تقدم.
[16] - بتصرف: مباحث الأصول، ق1، ج2، ص216، وبحوث في علم الأصول، ج2، ص158.
[17] - المباحث الأصولية، ج3، ص446.
[18] - أجود التقريرات، ج1، ص289.
[19] - انظر: تهذيب الأصول، ج1، ص273.
[20] - أجود التقريرات، ج1، ص289-290.
[21] - المحاضرات، ج2، ص255.
[22] - البحوث، ج2، ص158-159.
[23] - البحوث، ج2، ص159.
[24] - المنتقى، ج2، ص53.
[25] - المنتقى، ج2، ص55. قال في مقام الإشكال بعدم ورود النقوض التي ذكرها السيد الخوئي (ره): «ووضوح عدم ورود هذه النقوض: أن نجاسة الملاقي من أحكام النجس إذ لم يؤخذ عدم النجاسة حكما للطهارة شرعًا، وبما أن الطهارة تضاد النجاسة، كان الحكم بطهارة الماء ظاهرا ملازما لنفي النجاسة ظاهرا، الملازم لنفي نجاسة ملاقيه ظاهرا لا واقعا، وعليه: إذا انكشف نجاسة الماء واقعا زال الحكم الظاهري، وعلم بأن الملاقي قد لاقى ما هو نجس، فيترتب عليه حكم ملاقاة النجس، وهو النجاسة».
[26] - الوسائل، ج1، كتاب الطهارة، ب4 من أبواب الماء المطلق، ح1، ص142.
[27] - فوائد الأصول، ج1، ص248.
[28] - بحوث في علم الأصول (الهاشمي)، ج2، ص160.
[29] - البحوث، ج2، ص160.
[30] - مباحث الألفاظ (تقريرات السيد هاشم الهاشمي لبحوث السيد السيستاني)، ج3، ص218-220.
[31] - الرافد، ص66.
[32] - الوسائل، ج3، كتاب الطهارة، الباب 37 من أبواب النجاسات، ح4، ص467.
[33] - مباحث الألفاظ (تقريرات السيد الهاشمي لبحوث السيد السيستاني)، ج3، ص213-216 بتصرف.
[34] - انظر في ذلك كله: مباحث الألفاظ، ج3، ص215-217.
[35] - الوسائل، ج17، كتاب التجارة، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، ح4، ص89.
[36] - انظر بحث حجية البينة (1)، منشور على موقع الشيخ الأستاذ. حجية البينة (1) - موقع سماحة العلامة الشيخ محمد العبيدان القطيفي (alobaidan.org)
[37] - مباحث الألفاظ، ج3، ص221-222.
[38] - مباحث الألفاظ، ج3، ص222.
[39] - المرجع نفسه.
[40] - الرافد، ص143.