
أعوذ باللَّه السَّميع العليم من الشَّيطان الغوي الرَّجيم
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلوات على سيِّدِ الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا وحبيبنا وقائدنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ الطَّيِّبين الطَّاهرين.
السَّلام عليكم أيُّها الأحبَّة جميعًا ورحمة الله وبركاته.
عنوان الحديث: الاستعدادات لاستقبال الشَّهر الفضيل[1]
أنواع الاستعدادات
هناك أربعة أنماط من الاستعدادات لاستقبال هذا الشَّهر الفضيل:
الاستعداد الأوَّل: الاستعداد الفقهي
الاستعداد الثَّاني: الاستعداد الفكري
الاستعداد الثَّالث: الاستعداد الرُّوحي
الاستعداد الرَّابع: الاستعداد العملي
ومن الضَّروري جدًّا أن تتكامل هذه الاستعدادات، وفقد أيّ استعداد من هذه الاستعدادات الأربعة يشكِّل خللًا في التَّعاطي مع الشَّهر الفضيل. سنحاول ضمن أحاديث موجزة أن نتناول بعض هذه الشُّؤون.
الاستعداد الأوَّل: الاستعداد الفقهي
ماذا نعني بالاستعداد الفقهي للشَّهر الفضيل؟
المقصود بالاستعداد الفقهي هو: (امتلاك رؤية فقهيَّة صحيحة حول الصَّوم)
الصَّوم عبادة من العبادات وتحكمه مجموعة أحكام فقهيَّة، وحتى نصوم صومًا كما أراد الله لا بدَّ لنا أن نتوفَّر على هذه الثَّقافة الفقهيَّة، فالثَّقافة الفقهيَّة ضروريَّة لكلِّ العبادات، ولكلَّ مسارات الحياة.
- النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يقول: «إذا أراد الله بعبد خيرًا فقَّهه في الدِّين، وألهمه رشده». (الرَّيشهري: ميزان الحكمة 1/841)
أي أعطاه رؤية فقهيَّة، وفهم الدِّين.
- أمير المؤمنين (عليه السَّلام) يقول: «لا خير في عبادة ليس فيها تفقُّه، ولا خير في علم ليس فيه تفكُّر، ولا خير في قراءة ليس فيها تدبُّر». (الرَّيشهري: ميزان الحكمة 3/669، باب (التَّفقُّه روح العبادة)، ح2)
- الإمام زين العابدين (عليه السَّلام) يقول: «لا عبادة إلَّا بتفقُّه». (الرَّيشهري: ميزان الحكمة 3/669، باب (التَّفقُّه روح العبادة)، ح3)
إذن، لا بدَّ لنا أن نملك فهمًا فقهيًّا لهذه العبادة وهي عبادة الصِّيام.
هذا استعداد أساس لأداء فريضة الصِّيام، للتَّعاطي مع هذا الشَّهر الفضيل.
ما هي وظيفة الاستعداد الفقهي؟
كلُّ لون من ألوان الاستعداد له وظيفة، فالاستعداد الفقهي له وظيفة، والاستعداد الفكري له وظيفة، والاستعداد الرُّوحي له وظيفة، والاستعداد العملي له وظيفة.
فما هي وظيفة الاستعداد الفقهي؟
وظيفة الاستعداد الفقهي هي: تصحيح الصِّيام.
أنا لماذا أتفقَّه؟
لماذا أتعرَّف على الأحكام الفقهيَّة للصَّلاة؟ حتى تكون الصَّلاة صحيحة.
لماذا أتعلَّم الأحكام الفقهيَّة للصِّيام؟ حتى يكون الصِّيام صحيحًا.
لماذا أتعلَّم الأحكام الفقهيَّة للحج؟ حتى يكون الحجُّ صحيحًا.
إذن الوظيفة للثقافة الفقهيَّة هي تصحيح الأعمال وتصحيح العبادات، وبلا توفر هذه الثقافة ترتبك صحَّة العمل العبادي.
فالصَّوم واحد من العبادات المهمَّة التي لها أحكام فقهيَّة، فعندما تراجعون الرسائل العمليَّة ترون بابًا خاصًّا بأحكام الصِّيام، فكما أنَّ للصَّلاة باب خاصٌّ، ولبقية العبادات أبواب خاصَّة، للصِّيام له باب خاصٌّ في الكتب الفقهيَّة، وفي الرَّسائل العمليَّة.
يتضمن مجموعة ومنظومة أحكام فقهيَّة خاصَّة بالصِّيام، مثل شروط الصِّيام، وما هي المفطِّرات؟
هذه أمور فقهيَّة أساس من الضَّروري أن يتفهَّمها الإنسان؛ حتى يصوم صومًا صحيحًا.
إذن وظيفة الاستعداد الفقهي هو تصحيح الصِّيام.
وسائل التفقُّه
ما هي وسائل التفقُّه؟
كيف نتفقَّه في أحكام الصِّيام؟
الوسيلة الأولى: القراءة
من المفترض عند كلِّ إنسان رسالة عمليَّة لمقلَّده، حيث أنَّ التقليد هو رجوع المكلَّف إلى مرجع وفقيه، والمكلَّف يحمل رسالة عمليَّة تتضمَّن فتاوى الفقيه أو المرجع الذي يرجع إليه.
إذن، حتى يتثقَّف الإنسان بثقافة فقهيَّة حول الصِّيام، وحول الصَّلاة، وحول أيِّ عبادة، يقرأ الرِّسالة العمليَّة بحسب قدرته، وإذا لم يفهم بعض المسائل يستفسر.
إذن هذه طريقة للتفقُّه في مسائل الدِّين ومن جملتها الصِّيام.
اقرأوا الرَّسائل العمليَّة لمقلَّديكم؛ حتى تتعرَّفوا على أحكام الصِّيام.
الوسيلة الثَّانية: السُّؤال
اسألوا العلماء المعتمدين الموثوقين، فليس كلّ واحد نسأله، ليس كلّ واحد يتصدَّى يكون محل اطمئنان في نقل الفتاوى، فمن تثقون به من العلماء ومن تطمئنُّون إلى نقله للفتاوى اسألوه، فكثرة السؤال هي التي تُعطي الإنسان ثقافة فقهيَّة.
كما أنَّ القراءة تُعطي الإنسان ثقافة فقهيَّة، كذلك السُّؤال ومتابعة الإبهامات يُعطي الإنسان مجموعة من المفاهيم الفقهيَّة، الثَّقافيَّة.
لا خجل في السُّؤال
والسُّؤال مهمٌّ، ولا خجل في السُّؤال، فلعلَّ إنسان يقول: أخجل.
إنَّ أحد ألوان الخجل المذموم هو الخجل في السُّؤال، الحياء في السُّؤال، هذا خجل مذموم.
الحياء مقبول، والحياء عنوان من عناوين القيم الإيمانيَّة الإنسانيَّة، الحياء في النَّفس.
لكن توجد ألوان من الخجل المذموم.
كالخجل في الالتزام بالأحكام الدِّينيَّة هذا خجل مذموم، مثلًا: أخجل أن أصلِّي، أخجل أن ألتزم، امرأة تخجل أن تلبس الحجاب، هذا خجل مرفوض، أي الخجل في الالتزام بالأحكام الشَّرعيَّة.
الخجل في قول كلمة الحقِّ، هذا خجل مذموم، وخجل مرفوض.
إذن، من ألوان الخجل المذموم الخجل في السُّؤال عن الدِّين، هذا خجل مذموم، وخجل مرفوض.
فإذن حتى نتثقَّف فقهيًّا، نحتاج أن نقرأ، ولكي نتثقَّف فقهيًا نحتاج أن نسأل، ولكي نتثقف فقهيًا نحتاج أن نتعلَّم.
الوسيلة الثَّالثة: التَّعلُّم (حضور الدُّروس الدِّينيَّة)
إذا كنت عاميًّا لا أقرأ، ولم يتيسَّر لي أن أسأل، فمن الوسائل لبناء الثَّقافة الفقهيَّة الحضور في دروس العلماء الفقهيَّة التَّثقيفيَّة، فلأحافظ على حضور هذه الدُّروس.
قيمة حضور مجالس العلماء هي أنَّها تثقِّف، وتربِّي، وترتقي بوعي الإنسان الإيماني، وترتقي بثقافته الفقهيَّة، وتصحِّح سلوكه، وقِيَمه، وأخلاقه، وروحه، ومساراته، هذه قيمة مجالس التَّعلُّم، ولذلك لها ثواب وقيمة عظيمة عند الله.
- أمير المؤمنين (عليه السَّلام) يقول: «إذا جلس المتعلِّم بين يدي العالم فتح الله له سبعين بابًا من الرَّحمة ولا يقوم من عنده إلَّا كيوم ولدته أمُّه وأعطاه الله بكلِّ حرف عبادة سنة». (الرَّيشهري: حِكم النَّبي الأعظم (ص) 1/225، ح307)
هذه قيمة مجالس العلم.
إذن، لا بدَّ أن نملك ثقافة فقهيَّة، هذا أحد الاستعدادات المهمَّة جدًّا للصِّيام.
ما حكم الصَّيام بالنسبة للمصابين بفيروس (الكورونا)[2]؟
سؤال يُطرَح في ظلِّ الظُّروف الرَّاهنة
ونحن نتحدَّث عن الجانب الفقهي في الصِّيام، يُطرح هذا السُّؤال هذه الأيام، في ظلِّ أزمة (الكورونا)، حيث بدأ النَّاس يسألون.
ما حكم الصَّيام بالنِّسبة للمصابين بفيروس (الكورونا)؟
مثلًا: إنسان مصاب بهذا المرض هل يصحُّ له أن يصوم؟
الجواب: يُرجع في هذا إلى الأطباء الحاذقين الموثوقين.
نسأل الأطباء المتخصِّصين المعتمدين الموثوقين، هل أنَّ الصِّيام يضرُّ بصحَّة المصاب بهذا الفيروس؟
فإذا شخَّص الطَّبيب وقال: أنَّ الصِّيام يضرُّ، فإنَّ على المريض الإفطار، ولا يجوز له أن يصوم.
هل يشترط أنْ يوجب قول الطَّبيب خوف الضَّرر؟
هنا مسألة فقهيَّة: هل أنَّ كلام الطَّبيب يجب أن يولِّد الخوف عند الإنسان حتى يمكنه أنْ يُفطر؟
الجواب: يشترط بعض الفقهاء ذلك، وآخرون لا يشترطون.
قسم من الفقهاء يقول: ما دام أنَّ الطبيب حاذق ومعتمد فيؤخذ بكلامه، سواء ولَّد كلامه خوفًا أم لم يولِّد خوفًا.
وقسم آخر من الفقهاء يشترطون أن يحدث عند الإنسان خوفٌ من الصِّيام.
وعلى كلِّ واحد أن يرجع إلى مقلَّده.
ماذا لو حكم الطَّبيب بعدم الضَّرر من الصَّوم وكان المكلف خائفًا من الضَّرر؟
(وجب الإفطار) أو (جاز له الإفطار)
هنا مسألة أيضًا تطرح فقهيًّا
هنا الفقهاء يقولون: (يجب) عليه أن يُفطر أو (يجوز) له أن يُفطر على اختلاف في تعابير الفقهاء.
ما دام عنده خوف حقيقي، حتى لو أن الطَّبيب طمأنه لكن ما دام خوف الضَّرر موجودًا، فإنَّه يُفطر.
ما هو حكم أخذ اللِّقاح بالنَّسبة للصَّائم؟
اليوم يوجد تطعيم ولقاح ضدَّ هذا الفيروس، فهل يمكن للإنسان أن يذهب لأخذ التَّطعيم في نهار شهر رمضان؟
الجواب: لا توجد مشكلة في ذلك، فهذا اللِّقاح لا يضرُّ بالصَّوم، هذا المعروف في فتاوى الفقهاء، فيمكن للإنسان وهو صائم أن يأخذ هذا اللِّقاح.
......................
الاستعداد الثَّاني: الاستعداد الثَّقافي (الفكري)
ما المقصود بالاستعداد الثَّقافي أو الفكري لشهر رمضان؟
المقصود بالاستعداد الثَّقافي والفكري: محاولة استيعاب وفهم مضامين الصِّيام ومعطيات الشَّهر الفضيل.
هناك في الاستعداد الأوَّل تعرَّفنا على أحكام.
وهنا نتعرَّف على مفاهيم.
ما هي الأهداف الكبرى للصِّيام؟
ما هي الأهداف الكبرى لشهر الله؟
هذه مضامين فكريَّة، ومضامين ثقافيَّة وليست أحكامًا فقهيَّة.
ولذلك أسميناه الاستعداد الفكري، والاستعداد الثَّقافي.
-ربَّما يتوَّفر الإنسان على الرُّؤية الفقهيَّة، فيُتقن الجانب الفقهي اتقانًا كاملًا، فيما هي مفطرات الصِّيام، وفيما هي أحكام الصِّيام، وفيما هي شروط الصِّيام.
لكنَّه غير مستوعب لمضامين الصِّيام، وأهداف الصِّيام، ورسالة الصِّيام، وثقافة الصِّيام، وفكر الصِّيام.
إذن، هنا توفَّر الاستعداد الفقهي، لكنَّ الاستعداد الفكري والثَّقافي لم يتوفَّر.
فربَّما تتوفَّر الرُّؤية الفقهيَّة وتغيب الرُّؤية الثَّقافيَّة.
-وربَّما العكس تتوفَّر الرُّؤية الثَّقافيَّة وتغيب الرُّؤية الفقهيَّة.
فمثلًا شخص يُتقن تمامًا الجانب الفكري الثَّقافي، وعنده ثقافة فكريَّة كبيرة حول الصِّيام، لكن عنده الجانب الفقهي ضعيف، لم يُهيِّئ نفسه ولم يُعِد نفسه فقهيًّا.
إذن، هنا صار لديه استعداد فكريٌّ ثقافيٌّ بدون استعداد فقهي.
-وربَّما يتوفَّران معًا: الاستعداد الفقهي، والاستعداد الفكري.
-وربَّما يغيبان معًا: لا يوجد استعداد فقهي، ولا استعداد فكري.
نحن قلنا: إنَّ وظيفة الاستعداد الفقهي هي تصحيح الصِّيام، إذا الإنسان لا يوجد عنده استعداد فقهي فإنَّ صحَّة صيامه ترتبك، فقد يتناول شيئًا ولا يعلم أنَّه من المفطِّرات، أو يرتمس في الماء، ولا يعلم أنَّ الارتماس على رأي أكثر الفقهاء مفطِّر.
إذن، صحَّة صيامه ترتبك؛ لأنَّه يجهل الحكم الفقهي.
وظيفة الاستعداد الثَّقافي
وظيفة الاستعداد الثَّقافي ليست صحَّة الصِّيام.
إذًا ما هي وظيفة الاستعداد الثَّقافي أو الاستعداد الفكري؟
وظيفة الاستعداد الثَّقافي والاستعداد الفكري هي: الارتقاء بمستوى وعي الصِّيام.
هنا خلق وعي فكري، ووعي ثقافي.
الصِّيام الواعي يختلف عن الصِّيام غير الواعي، الصِّيام البصير يختلف عن الصِّيام غير البصير.
وهكذا في كلِّ العبادات، وفي كلِّ مسارات التَّديُّن، كلَّما يرتقي الوعي يرتقي مستوى العبادة.
أ-مستويات المصلِّين
فمثلًا إذا كان شخص يصلِّى ويملك وعي الصَّلاة، ورسالة الصَّلاة، وأهداف الصَّلاة، فهذا تكون صلاته تختلف عن مصلٍّ لا يدرك أهداف الصَّلاة.
فالمطلوب أن يُدرك أهداف الصَّلاة، ويفهم مضامين الصَّلاة، وماذا تعني القراءة؟
وماذا يعني الرُّكوع؟ وما هو المعنى الذي يحمله الرُّكوع؟
وما هو المعنى الرُّوحي الفكري المفهومي؟
وما معنى السُّجود؟ وما معنى التَّكبير؟ وما معنى التَّشهُّد؟
هذه مضامين فكريَّة ثقافيَّة مطلوب من الإنسان أن يفهمها حتى يؤدِّي عباداته.
فلذلك مستوى المصلِّين يختلف بمستوى وعيهم للصَّلاة، كلَّما يرتقي مستوى وعي الصَّلاة، يرتقي مستوى الصَّلاة.
ب- مستويات الذَّاكرين
كلَّما يرتقي مستوى الوعي للذِّكر، يرتقي مستوى الذَّاكر.
ج-مستويات التَّالين للقرآن
الذين يقرأون القرآن ليسوا على مستوى واحد، فتوجد قراءة، ويوجد تجويد، لكن يوجد أيضًا تدبُّر، ووظيفة التَّدبُّر هي الارتقاء بمستوى وعي التَّالي للقرآن، فالتَّدبُّر هو محاولة اكتشاف المضامين، والتَّدبُّر هو محاولة اكتشاف المعاني القرآنيَّة.
الإنسان عندما يقرأ يحاول أن يستنطق المضامين، ولذلك يحتاج إلى ثقافة قرآنيَّة تمكِّنه من أن يتدبَّر.
صحيح قد توجد آيات قرآنيَّة لعلَّه حتى العامِّي المحض يفهم معانيها العامَّة، حيث توجد خطابات مكشوفة واضحة عامَّة، مثلًا: اتَّقوا الله، كلُّ واحد يفهم أن معنى (اتقوا الله) هو: أطيعوا الله، وكونوا مع الله، أمَّا تفاصيل التَّقوى فإنَّها تحتاج إلى معرفة أكثر.
إذن، باب التَّدبُّر مفتوح، لكن حينما يحاول الإنسان أن يستوعب مضامين أكبر في القرآن، فإنَّه يحتاج إلى بعض الكفاءات؛ حتى لا يخوض الإنسان في القرآن خوضًا عشوائيًّا بعنوان التَّدبُّر، والنتيجة أنَّه يخلط في المفاهيم ويربك التَّعاطي مع المضامين القرآنيَّة.
إذن، مستوى التَّالين للقرآن يرتبط بمستوى الوعي لمضامين القرآن.
د-مستويات الحجَّاج والمعتمرين
أيضًا مرتبط بمستوى وعي الحجِّ، ووعي العمرة.
ه-مستويات الصَّائمين
هكذا الصَّوم أيضًا.
الصَّوم يحتاج إلى استعداد فكري ثقافي، لماذا؟
حتى نعطي للصَّوم مستواه الرَّاقي.
إذا كنَّا في الاستعداد الفقهي نعطي للصَّوم الصِّحة، هنا نعطي للصَّوم المستوى الرَّاقي.
كلَّما استطعنا أن نستوعب مضامين الصِّيام، استطعنا أن نرتقي بمضمون الصِّيام.
فهكذا إذن وظيفة الاستعداد الفكري الثَّقافي هو الارتقاء بمستوى الصِّيام، والارتقاء بمستوى التَّعاطي مع شهر الله.
وسائل الارتقاء بوعي الصِّيام
كما قلنا في الجانب الفقهي أنَّه توجد هناك وسائل لبناء الجانب الفقهي، كذلك هنا نكرِّر أنَّه توجد وسائل لبناء الجانب الفكري الثَّقافي.
اعتماد أدوات التَّثقيف من:
أ-القراءة
توجد كتب تتحدَّث عن مضامين الصِّيام، وكتابات تتناول مفاهيم الصِّيام، وفكر الصِّيام، وثقافة الصِّيام، هذه قراءة ترتقي بمستوى وعي الصَّائمين.
ب-حضور المحاضرات
المحاضرات التي تتحدَّث عن الصِّيام، وأهداف الصِّيام، ومضامين الصِّيام، ودلالة الصِّيام، ورسالة الصِّيام، هذه محاضرات تبني وعي الصَّائمين.
كما أنَّ الدُّروس الفقهيَّة تبني الثَّقافة الفقهيَّة، هنا المحاضرات تبني وعي الصَّائمين، ووعي المصلِّين، ووعي الحجاج والمعتمرين.
فنحتاج إلى قراءة حتى نبني الوعي، ونحتاج إلى حضور المحاضرات، ونحتاج إلى أن نسأل عن مضامين الصِّيام.
ج-السُّؤال
نحتاج إلى أن نسأل عن مضامين الصِّيام.
قيمة حضور مجالس التَّوعية
الأحاديث الكثيرة أكَّدت على قيمة حضور مجالس التَّوعية.
- «جاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنصارِ إلَى النَّبِيِّ (صلَّى اللّه عليه وآله)، فقال: يا رَسولَ الله، إذا حَضَرَت جَنازَةٌ أو حَضَرَ مَجلِسُ عالِمٍ، أيُّهُما أحَبُّ إلَيكَ أن أشهَدَ؟
فَقالَ رَسولُ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله): «إنْ كانَ لِلجَنازَةِ مَن يَتبَعُها ويَدفِنُها فَإِنَّ حُضورَ مجلس العالِمِ أفضَلُ مِن حُضورِ ألفِ جَنازَةٍ، ومِن عِيادَةِ ألفِ مَريضٍ، ومِن قِيامِ ألفِ لَيلَةٍ، ومِن صِيامِ ألفِ يَومٍ، …». (الرَّيشهري: حِكَم النَّبيِّ الأعظم (ص) 1/225، ح308)
جاء رجل إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وقال له: يا رسول الله، إذا حضرت جنازة ومجلس عالم أيُّهما أحبُّ إليك؟
يسأل النَّبيَّ (صلَّى الله عليه وآله) ويريد الجواب، هناك جنازة مؤمن مسلم تحتاج إلى تشييع، وتحتاج إلى حضور ناس يشيِّعونه، وهناك مجلس علم، محاضرة، درس، تثقيف ديني، أيُّهما أحبُّ إليك؟
ماذا نتوقَّع أن يكون جواب النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)؟
النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله) أجابه وقال له:
«إنْ كان للجنازة من يتبعها»، إذا كان يوجد جماعة يشيِّعون هذا العبد المسلم.
أمَّا إذا لا يوجد أحد يشيِّعه فلا يُترك، يجب أن يُشيَّع، لكن إذا توافر مجموعة يشيِّعون هذا المؤمن.
«إنْ كانَ لِلجَنازَةِ مَن يَتبَعُها ويَدفِنُها فَإِنَّ حُضورَ مجلس العالِمِ أفضَلُ مِن حُضورِ ألفِ جَنازَةٍ».
لاحظوا قيمة الثَّقافة الدِّينيَّة، وقيمة بناء الوعي الإيماني.
«فَإِنَّ حُضورَ مجلس العالِمِ أفضَلُ مِن حُضورِ ألفِ جَنازَةٍ، …، ومن صيام ألف يوم».
لاحظوا، قيمة الوعي الدِّيني، وقيمة الثَّقافة الدِّينيَّة، لأنَّك أنت تصوم بوعي، فلربَّما يصوم شخص ألف يوم بلا وعي فلا قيمة له، وقد يصوم يوم واحد بوعي وببصيرة فيعطي لصومه كلَّ القيمة.
«فَإِنَّ حُضورَ مجلس العالِمِ أفضَلُ مِن حُضورِ ألفِ جَنازَةٍ، …، ومِن قِيامِ ألفِ لَيلَةٍ».
ربَّما يقوم الإنسان ألف ليلة يصلِّي صلاة اللَّيل ويتعبَّد، لكن بجهل، وليس بعلم، وليس بثقافة دينيَّة، هذا ليس لها قيمة.
ربَّما ليلة واحدة يتعبَّد بوعي، وببصيرة، وبثقافة دينيَّة، فتكون لعبادته قيمة.
وإنَّ حضور مجلس العلم أفضل من قيام ألف ليلة، وأفضل، وأفضل، وأفضل، والحديث طويل جدًّا.
- حديث عن الإمام الباقر (عليه السَّلام): «تذُّكر العلم ساعة خيرٌ من قيام ليلة»
(المجلسي: بحار الأنوار1/206، ح26)
قيام ليلة تتهجَّد وتتعبَّد، كم هي قيمة صلاة اللَّيل، ركعة واحدة يصلِّيها الإنسان في صلاة اللَّيل خير من الدُّنيا وما فيها، هذه قيمة صلاة اللَّيل، آيات وأحاديث تؤكِّد قيمة صلاة اللَّيل، القيمة الكبيرة، ومع ذلك الإمام الباقر (عليه السَّلام) يقول: «تذكُّر العلم»، أن أحضر، أن أتعلَّم، أن أتثقَّف أفضل من قيام ليلة.
إذن، نحن محتاجون في الاستعداد لشهر الله أن نملك استعدادًا فكريًّا ثقافيًّا.
..........................
الاستعداد الثَّالث: الاستعداد الرُّوحي
ما نقصد بالاستعداد الرُّوحي؟
يتمثَّل هذا الاستعداد الرُّوحي في أمرين أساسين:
الأمر الأوَّل: تصفية النِّيَّة (الإخلاص)
تنفية النِّيَّة في الدَّاخل، وهو ما يعبَّر عنه بالإخلاص.
الإخلاص شرطٌ أساس ومرتكز في العبادة، الإخلاص هو أن أنقِّي القلب، وأنقِّي الدَّاخل، هذا يسمَّى إخلاص لله.
لا أصلي رياء، ولا للشُّهرة.
فالاستعداد الرُّوحي يعني تصفية النِّيَّة وهو ما يُعبَّر عنه بالإخلاص.
الأمر الثَّاني: تطهير القلب من الشَّوائب والتَّلوُّثات
بأن يكون القلب ليس فيه غش، وليس فيه دغل، وليس فيه نفاق، هذا معنى تطهير قلب.
- ولذلك جاء في الخطبة الرَّمضانيَّة – والتي نؤكِّد على ضرورة قراءتها لكلِّ الصَّائمين، الخطبة موجودة في بدايات كتاب الصَّوم في مفاتيح الجنان، بمقدار صفحة ونصف، خطبة مهمَّة جدًّا، قادرة على أن تهيِّئنا بكلِّ أنواع التهيئة، فاقرأوا هذه الخطبة -:
جاء في الخطبة الرَّمضانيَّة للنَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):
«فأسألوا الله ربَّكم بنيَّات صادقةٍ، وقلوبٍ طاهرةٍ [هذا استعداد روحي] أنْ يوفِّقكم لصيامِهِ وتلاوة كتابه، فإنَّ الشَّقيَّ مَنْ حُرم غفران الله في هذا الشَّهر العظيم». (الصَّدوق: الأمالي، ص 154)
صيام بلا نيَّة صادقة وبلا قلب طاهر، صيام لا يحقِّق أهدافه، يجب أن نصوم صيامًا يحقِّق لنا الأهداف:
رضا الله
القرب من الله
المغفرة.
«فإنَّ الشَّقيَّ مَنْ حُرم غفران الله في هذا الشَّهر العظيم»
أيُّ شقاء أعظم من أن يُدرك إنسان شهر الله ولا يُغفر له، هذا من أشقى الأشقياء.
- وفي حديث آخر يقول: «من انسلخ من شهر رمضان ولم يغفر له فلا غفر الله له» (ابن طاووس: إقبال الأعمال 1/454)
- وعن النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «…، من أدرك والديه ولم يؤدِّ حقَّهما فلا غفر الله له، …، من ذُكرتَ عنده فلم يصلِّ عليك فلا غفر الله له، …، ثمَّ قال: من أدرك شهر رمضان ولا يتوب فلا غفر الله له، …». (البروجردي: جامع أحاديث الشِّيعة 9/33، ب48، ك577)
إذا أدرك إنسان أبويه فلم يبر بأبويه، ولم يُحسِن إليهما، ولم يتوَّفق إلى طاعتهما، فهذا يكون محرومًا، فإنَّ من أهمِّ مظانِّ مغفرة الله إدراك الوالدين والبرُّ بالوالدين.
«…، من أدرك والديه ولم يؤدِّ حقَّهما فلا غفر الله له، …، من ذُكرتَ عنده فلم يصلِّ عليك فلا غفر الله له». اللَّهم صلِّ على محمد وآل محمد.
إذن، نحتاج إلى استعداد روحي بمعنى أن نصفِّي النِّيَّات ونطهِّر القلوب.
وظيفة الاستعداد الرُّوحي
ما هي وظيفة الاستعداد الرُّوحي؟
قلنا وظيفة الاستعداد الفقهي تصحيح الصِّيام، ووظيفة الاستعداد الفكري الثَّقافي الارتقاء بمستوى الصِّيام.
ما هي وظيفة الاستعداد الرُّوحي؟
وظيفة الاستعداد الرُّوحي هي: قبول الصِّيام.
ليس كلُّ صيام صحيح، وليس كلُّ صيام واعٍ هو صيامٌ مقبول عند الله، فشروط القبول هي شروط أخرى غير شروط الصِّحَّة وغير شروط الوعي، فالإخلاص شرطٌ لقبول الصِّيام.
فالاستعداد الروحي من الشُّروط الأساس لقبول الأعمال.
فربَّما توفَّر الاستعداد الفقهي فكان الصِّيام صحيحًا.
وربَّما توفَّر الاستعداد الثَّقافي فكان الصَّيام واعيًا.
وربَّما لم يتوَّفر الاستعداد الرُّوحي فكان الصِّيام، غير مقبول.
فإذن، نحتاج إلى استعداد روحي.
ما هو المطلوب لإنتاج الاستعداد الرُّوحي
كيف نصنع الاستعداد الرُّوحي؟
كيف نصنع طهارة القلب؟
كيف نصنع الإخلاص؟
هذا يحتاج إلى:
-قراءات روحيَّة، وقراءات أخلاقيَّة
-حضور دروس الأخلاق
-المحاسبة، المشارطة، المراقبة
ما معنى المشارطة والمراقبة والمحاسبة؟
هذه أمور ترتقي بالمستوى الرُّوحي عند الإنسان.
يجب على الإنسان في كلُّ يوم أنْ يحدِّد له ثلاث أوقات: وقت للمشارطة، ووقت للمراقبة، ووقت للمحاسبة.
ما معنى أن نحدد وقتًا للمشارطة، ووقتًا للمراقبة، ووقتًا للمحاسبة؟
1-المشارطة: في أوَّل ومطلع كلِّ يوم
بعد صلاة الفجر مثلًا، يجلس الإنسان جلسة مع النَّفس، يشارط نفسه:
أيَّتها النَّفس كوني في هذا اليوم طائعة ومستقيمة وملتزمة بأحكام الله.
هنا يوجِّه خطابات، ونداءات، وتحفيزات، لنفسه، ولروحه، بأن تكون في هذا اليوم القادم مستقيمة، ملتزمة، مطيعة، مبتعدة عن مظانِّ الشَّيطان، ومبتعدة عن المعاصي.
أيَّتُها النَّفس إنْ أطعتِ الله كنت من الفائزين، وإنْ عصيتِ الله كنت من الأشقياء المعذَّبين.
هذه مشارطة بينه وبين نفسه.
إذن، هنا خطاب، وحديث، ومكاشفة، بين الإنسان وبين نفسه، هذه يسمِّيها علماء الأخلاق (المشارطة).
2-المراقبة: أثناء حركة اليوم من الفجر إلى وقت النَّوم
يحتاج الإنسان إلى مراقبة.
المراقبة: هي المتابعة، متابعة الفكر، ومتابعة السُّلوك، ومتابعة الحركة، ومتابعة النَّشاط، ومتابعة أي عمل يصدر من الإنسان من فعلٍ أو ترك.
فالإنسان قد شارط نفسه في بداية النَّهار، وهنا أثناء حركته يراقب، ويتابع.
3-المحاسبة: آخر النَّهار
إذا جاء آخر النَّهار وقبل أن ينام يحاسب: ماذا صنعت في يومي؟ هل أطعت الله؟
إن أطعت الله شكرت الله، وشكرت نفسي؛ لأنَّها استقامت على خطِّ الطاعة.
وإن عصيت الله أندم، وأستغفر، وأتوب، وأرجع إلى الله، وأؤنِّب النَّفس.
هذه كلها تسمَّى المحاسبة، (المشارطة والمراقبة والمحاسبة).
إذن، نحن نحتاج أن نصنع الجانب الرُّوحي، حتى نوفِّر للصِّيام شروط القبول.
وهذا البناء الرُّوحي يحتاج إلى:
-صبر طويل
-ترويض طويل
-معاناة طويلة
الفارق بين التَّنظيف الجسدي والتَّنظيف الرُّوحي.
هناك فرق بين أن أطهِّر ثوبي، فعملية تنظيف الثَّوب سهلة، وكذلك عمليَّة تنظيف البدن، فما أسهل أن أنظِّف ثوبي، بأن أضعها في المغسلة وأصب عليها قليلًا من الماء والصَّابون، فإنَّها تنظف.
وما أسهل أن أنظِّف بدني، بأنْ أقف تحت الماء وأصب الماء على بدني، وأضع الصابون، فينظف البدن.
عملية لا تستهلك الكثير، ولا تحتاج إلى معاناة كثيرة.
لكن تنظيف القلب وتنظيف الرُّوح تحتاج إلى معاناة صعبة، وتحتاج إلى ترويض كبير، حتى أستطيع أنْ أنقِّي الغشَّ من داخلي، وأنقِّي النِّفاق من داخلي، وأنقِّي الكذب من سلوكي، وأنقِّي الغِيبة في سلوكي، هذه عمليَّة صعبة، تحتاج إلى مجاهدة طويلة، وتحتاج إلى ترويض طويل، وتحتاج إلى معاناة طويلة.
إذن، أنا بحاجة حتى أعيش الصِّيام بمعناه الأرقى، وبمعناه الأسمى، وبمعناه المقبول، لا بدَّ أن أتوافر على استعداد روحي.
..........................
الاستعداد الرَّابع: الاستعداد العملي
ماذا نعني بالاستعداد العملي لشهر الله، لهذا الشَّهر الفضيل العظيم؟
المقصود بالاستعداد العملي: هو الإقلاع عن المعاصي والذُّنوب.
وبتعبير آخر: التَّوبة النَّصوح.
أن ندخل الشَّهر ونحن على استعداد كامل، ومقلعين إقلاعًا كاملًا عن المعاصي والذُّنوب.
قد يتوفَّر الاستعداد الفقهي، وقد يتوفَّر الاستعداد الثَّقافي، وقد يتوفَّر الاستعداد الرُّوحي، لكن لا يتوفَّر الاستعداد العملي وهو التَّوبة، والإقلاع عن المعاصي والذُّنوب، فلا جدوى من التَّعاطي مع هذا الشَّهر.
إذن، نحتاج إلى استعداد عملي.
- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا …} (التَّحريم/8)
أن نعلن التَّوبة ونحن نستقبل الشَّهر العظيم.
فالتَّوبة شرط من شروط القبول، حيث إنَّ وظيفة التَّوبة والإقلاع عن الذُّنوب هو قبول العمل، فمن أجل أن تُقبل الصَّلاة لا بدَّ من توبة، ومن أجل أن يُقبل الصِّيام لا بدَّ من توبة، ومن أجل أن يُقبل الحجُّ لا بدَّ من توبة.
إذن، التَّوبة هي شرطٌ أساس لقبول العمل.
- {… إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة/27)
{… تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا …} (التَّحريم/8)
متى تكون التَّوبة نصوحًا؟
تكون التَّوبة نصوحًا إذا توفَّرت أربعة شروط، فالتَّوبة الصَّادقة تحتاج إلى أن يتوفَّر أربعة شروط:
شروط التَّوبة النَّصوح
الشَّرط الأوَّل: أنْ تكون التَّوبة لله سبحانه وتعالى.
الشَّرط الثَّاني: النَّدم على فعل المعاصي.
الشَّرط الثَّالث: العزم على عدم العود.
الشَّرط الرَّابع: تدارك ما فرَّط فيه.
هذه أربعة شروط للتَّوبة، متى توفَّرت هذه الشُّروط الأربعة تحقَّقت التَّوبة الصَّادقة، أو بحسب التَّعبير القرآني التَّوبة النَّصوح.
وإذا فُقِد أحد هذه الشُّروط، تكون التَّوبة ليست صادقة، وليست نصوحًا.
نلقي ضوءًا سريعًا على كلِّ شرطٍ من هذه الشُّروط الأربعة من شروط التَّوبة النَّصوح.
الشَّرط الأوَّل: أنْ تكون التَّوبة لله سبحانه وتعالى
لا لمال، أو جاه، أو خوف من سلطان، أو أيِّ إنسان.
فقد يتوب إنسان لمصالح ولأغراض دنيا، وقد يتظاهر بأنَّه تائب عن المعاصي والذُّنوب؛ من أجل أن يحقِّق أغراض دنيا، هذه ليست توبة؛ لأنَّها ليست توبة لله، وإنَّما هذه توبة من أجل مصالح دنيا، ومن أجل أغراض وشهوات، ومن أجل أن يحصل على جاه، ومن أجل أن يتقرَّب إلى فلان وفلان، ومن أجل أن يحصل على منصب، هذه التَّوبة ليست توبة لله.
التَّوبة الصَّادقة، والتَّوبة النَّصوح هي أنْ تكون لله سبحانه لا لمال، أو جاه، أو خوف من سلطان، أو خوف من إنسان.
فمثًلا عندما يتواجد شخص في أوساط أناس مؤمنين فيتظاهر حينها بالتَّوبة، مجاملة لهذا الجو، ومجاملة للنَّاس، ومن أجل أن يحصل على مكاسب دنيا.
هذه لا نسمِّيها توبة نصوحًا، ولا توبة صادقة، ولا توبة خالصة.
التَّوبة النَّصوح هي التي تتمحَّض لله، ومن أجل الله، وخوفًا من الله، وطمعًا في ثواب الله، وخوفًا من عذاب من الله.
إذن، هنا الذي حرَّكه للتَّوبة هو الخوف من الله، والطَّمع في ثواب الله، والحياء من الله.
هذا هو الشَّرط الأوَّل: أن تكون التَّوبة خالصة لله.
الشَّرط الثَّاني: النَّدم على فعل المعاصي
توجُّع القلب، وطول الحسرة، والحزن، وانسكاب الدُّموع، وطول البكاء.
النَّدم هو حالة من التَّوجُّع القلبي.
فقد يترك شخص المعصية لكنَّه لا يزال يستلذُّ بالمعصية، ولا يشعر بالأذى، وأنَّه لماذا ارتكب المعاصي؟ ولماذا خالف؟ ولماذا ترك صلاة؟ ولماذا شرب خمر؟ ولماذا مارس غيبة؟ ولا يوجد عنده استنفار داخلي ضدَّ المعصية، فقلبه لا يزال يأنس بالمعصية، ويأنس بالفجور، ويأنس بالمخالفات.
التائب توبةً نصوحًا صادقة يعيش درجة من الغليان الدَّاخلي، والاستنفار الدَّاخلي ضدَّ المعصية، يتألَّم لماذا ارتكب المعصية، ويتوجَّع قلبه لماذا مارس زمنًا ووقتًا مَّا ذنبًا ومعصية.
هذا التَّوجُّع، وطول الحسرة، والحزن، والبكاء، والدُّموع، هو دليل على صدق التَّوبة.
كم سهر التَّائبون لياليَ طويلة يبكون ويتوجَّعون ويندمون على ما صدر منهم، يعيشون بينهم وبين الله هذا اللَّون من النَّدم والتَّأوُّه والحزن والبكاء والدُّموع، من أجل ما صدر عنهم من معاصي ومن ذنوب.
فهذا مظهر من مظاهر الصِّدق في التَّوبة، وهذا شرط من شروط التَّوبة النَّصوح.
إذن، أوَّلًا: أن تكون التَّوبة لله، لا لأجل دنيا وأغراض ومصالح.
ثانيًا: أن يعيش درجة عالية من النَّدم، ودرجة عالية من التَّوجُّع والتَّأوُّه، قلبه يغلي حسرة، وألمًا، وتوجُّعًا لماذا صدرت منه هذه المعصية؟ ولماذا ارتكب هذا الذَّنب؟ ولماذا خالف أوامر الله؟
هذا هو الشَّرط الثَّاني من شروط التَّوبة النَّصوح: النَّدم على فعل المعاصي.
الشَّرط الثَّالث: العزم على عدم العود
ما معنى العزم على عدم العود؟
يعني أنْ يتخذ قرارًا بالتَّخلِّي عن المعصية إلى نهاية حياته، توبة ليست مؤقَّتة، فهذا الذي يوقِّت التَّوبة يعني أنَّه ليس تائبًا صادقًا.
بعض النَّاس يقول: الآن شهر رمضان شهر فيض وبركة وعطاء، أنا سأتوب في شهر رمضان، لكن بعد شهر رمضان سأرجع لمعصيتي، هل نسمِّي هذه توبة؟! لا، هذه ليست توبة.
أنا سأتوب مؤقتًا لأنِّي سأذهب إلى الحج، وعندما ينتهي الحج تنتهي التَّوبة.
أنا سأتوب لأنِّي في موسم محرَّم، وعندما ينتهي الموسم تنتهي التَّوبة.
سأتوب ما دمت أنا هنا في هذا المكان، وعندما أذهب إلى أماكن أخرى تنتهي التَّوبة، هل يمكن أن أسمِّي هذه توبة؟
هذه لا تُسمَّى توبة، عندما تُوقَّت بزمان أو بمكان.
التَّوبة التي تنحجز بزمان أو بمكان ليست توبة.
التَّوبة الحقيقيَّة هي التَّوبة التي يتَّخذ فيها التَّائب قرارًا حاسمًا بعدم العودة إلى المعاصي.
أنا إذا اغتبت النَّاس، فيجب أنْ أتَّخذ قرارًا حاسمًا بعدم الرُّجوع للغِيبة، وبعدم الرُّجوع إلى النَّميمة، وبعدم الرُّجوع إلى السَّرقة، وبعدم الرُّجوع إلى شرب الخمر والعياذ باللَّه، وإلى الزِّنا، وإلى أيِّ ممارسة محرَّمة.
فشرط أساس من شروط التَّوبة النَّصوح: العزم على عدم العود، وأن يتَّخذ قرارًا بألَّا يعود.
- في الحديث الوارد عن الإمام الباقر (عليه السَّلام): «التَّائب من الذَّنب كمن لا ذنب له». (الكليني: الكافي 2/435)
أي ستنمحي كلُّ ذنوبه، فهي قد سُجِّلت عليه ذنوبًا، لكن بتوبته فقد انمسحت الذُّنوب.
طبعًا توجد حقوق للنَّاس سيأتي الحديث عنها في الشَّرط الرَّابع.
لكن الذُّنوب التي بينه وبين الله انمحت، التوبة الصادقة الخالصة تمسح وتمحو كلَّ الذُّنوب.
«التَّائب من الذَّنب كمن لا ذنب له».
إذا كان في مدَّة عشرين سنة يمارس المعاصي، فتوبة في ليلة واحدة من ليالي شهر رمضان، أو في ليلة القدر، هذه اللَّيلة المباركة، أو في أيِّ وقت توبة نصوحًا صادقة مخلصة إلى الله تمحو ذنوب عشرين سنَّة، أو ثلاثين سنَّة، أو خمسين سنَّة.
يتوب قبل موته – وهو لا يعلم بلحظة موته – توبة نصوحًا فإنَّها تمسح كلَّ الذُّنوب.
إذن «التَّائب من الذَّنب كمن لا ذنب له، والمقيم على الذَّنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ».
هذا مستهزئ، بمن يستهزئ؟ باللَّه؟
يقول: ربِّي أنا تائب وهو يخرج يغتاب النَّاس!
أنا تائب، وهو يمارس النَّميمة!
أنا تائب، وهو يكذب!
أنا تائب، وهو يشرب خمر!
أنا تائب وهو يرتكب المعاصي.
هل نسمِّي هذا تائب؟!
لا، هذا مستهزئ.
بمن يستهزئ؟ هل يستهزئ باللَّه سبحانه وتعالى وهو الخالق، والمتَّفضل، والمنعم، وهو المطَّلع على كلِّ الضَّمائر؟
الله مطَّلع على حقائقي، فحينما أقول أتوب فإنَّ التَّوبة هي علاقة مع الله، وهي رجوع إلى الله، وعودة لله، وهي طلاق للشَّيطان.
إذن بمن يستهزئ؟ يستهزئ بربِّه؟ بخالقه العالِم بكلِّ خواطره؟!
إذن، التَّوبة النَّصوح هي العزم على عدم العود.
الشَّرط الرَّابع: تدارك ما فرَّط فيه
التَّائب يجب أن يتدارك؛ لأنَّ المعصية هي مخالفات وتجاوزات قد صدرت منه، فيجب عليه أن يتدارك.
كيف يتدارك الإنسان التَّائب ما صدر منه من مخالفات ومعاصي وذنوب؟
وكيف يتدارك ما فرَّط فيه؟
هناك ألوان من التَّفريط، وكلُّ لون من التَّفريط له نوع وشكل من التَّوبة، وهنا سنذكر ألوان التَّفريط، والمخالفات، والمعاصي؛ حتى نتعرَّف على كيفيَّة التَّوبة من كلِّ لون.
ألوان التَّفريط، وكيفيَّة التَّوبة منها
اللَّون الأوَّل: ترك الطَّاعات الواجبة
التَّفريط هنا يتمثَّل في ترك الطَّاعات الواجبة من صلاة، وصيام، وزكاة، وخمس، وكفارة.
أي لم يكن يصلِّي، ولم يكن يصوم، ولم يكن يزكِّي، ولم يكن يخمِّس.
ما هي طريقة التَّوبة من هذا النُّوع من التَّفريط والمخالفات؟
طريقة التَّوبة أنْ يجتهد في قضائها.
إذا لم يكن يُصلِّي؟ عليه أن يبدأ من الآن بقضاء ما فرَّط فيه من صلوات ولو بالتَّدريج، وعليه أن يُخصِّص وقتًا يقضي فيه صلواته؟
ويوصي أن يُقضى عنه بعد وفاته إذا لم يقدر أن يكمل قضاءه.
وإذا لم يكن يُخمِّس عليه أن يبدأ من الآن مراجعة حساباته ويخمِّس، ويجري مصالحات مع الفقهاء.
وإذا لم يكن يصوم عليه أن يبدأ من الآن بقضاء ما عليه من صيام، وما يترتَّب عليه من كفَّارات.
هذا اللَّون الأوَّل من ألوان المخالفات وهو ترك الواجبات، من عبادات وواجبات ماليَّة، والتوبة منها بقضائها، وأدائها، وتداركها.
هذا هو اللَّون الأوَّل من ألوان التَّفريط.
اللَّون الثَّاني: فعل المحرَّمات التي بينه وبين الله ولا تتعلَّق بحقوق العباد
هنا ليس ترك واجبات، وإنَّما فعل محرَّمات، لكنَّ هذه المحرَّمات الَّتي تكون بينه وبين الله ولا تتعلَّق بحقوق العباد، وإنَّما بينه وبين الله.
مثل:
-شرب الخمر هذه معصية بينه وبين الله، وليس لها علاقة بالنَّاس، هذا نمط من المعاصي، ومن المحرَّمات التي بينه وبين الله.
-ضرب المزامير
-الكذب
-الزِّنا
-سماع الملاهي
-النَّظر المحرم
هذه نُسمِّيها معاصي بينه وبين الله، ولا تتعلَّق بحقوق العباد.
طريقة التَّوبة منها
كيف يتوب من هذا اللَّون من المعاصي؟
أوَّلًا: أنْ يندم على فعلها
مثلًا كان يمارس الكذب، وكان يستمع إلى اللَّهو، وكان ينظر نظرة محرَّمة، فيجب عليه أن يندم.
لماذا كنت أمارس هذا؟ لماذا كنت أنظر نظرات محرَّمة؟ لماذا كنت أفعل هذا العمل؟
هذا ندم داخلي.
وعليه أن يندم ندمًا حقيقيًّا جادًّا صادقًا على ما صدر منه من ذنوب ومعاصي بينه وبين الله.
هذا مطلوب أوَّلًا.
ثانيًا: أن يوطِّن قلبه على ترك العود إلى مثلها
مثلما قلنا في شروط التَّوبة، فإذا ندمت الآن على استماع الغناء المحرَّم، فيجب أن أوطِّن نفسي على عدم العود بعد ذلك، لا أن أندم على استماع الغناء في الصَّباح، وأعود له ليلًا، أو أندم في الليل وأعود إلى استماع الغناء في النَّهار، فهذه ليست توبة.
فيجب أن يوطِّن التَّائب نفسه، ويعطي نفسه طاقة وقوَّة على أن تتمرَّد على العودة إلى فعل المعصية، وأن يوطِّن قلبه على ترك العود إلى مثلها.
ثالثًا: أن يُكثِر من فعل الحسنات حتى يمحو تلك السَّيِّئات
قد توجد سيِّئات تراكمت عليه نتيجة فعل المعاصي، وتوجد ملفَّات كبيرة قد سُجِّلت عليه لارتكاب معاصي بينه وبين الله.
إنَّ التَّوبة تمحو الذُّنوب، لكنَّه يحتاج أن يُكثِّر من الطَّاعات، ويُكثِّر من فعل الحسنات حتى يمحو تلك السَّيِّئات.
{… إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ …} (هود/114)
إذا كان يكثر من النَّظر المحرَّم، فليكثر من النَّظر في آفاق الكون والتَّأمُّل، هذه النظرات العباديَّة الإيمانيَّة تمحو آثار تلك النَّظرات المحرَّمة.
وإذا كان يستمع إلى الغناء المحرَّم، فليكثر من الاستماع للقرآن الكريم وللدُّعاء، وكلَّما أكثر من الاستماع للقرآن الكريم وللدُّعاء كفَّر عن ذلك السُّماع المحرَّم.
وإذا كان يُكثِر من الذِّهاب إلى مجالس اللَّهو والباطل ومحلَّات الفساد، فليكثر من الذِّهاب إلى مواطن الطَّاعة، والعبادة، كالمساجد، والحسينيَّات، ومجالس الخير، ومجالس الذِّكر.
وهنا يكفِّر ويمحو الكثير من المعاصي والذُّنوب.
إذن، فالتَّائب يحتاج أن يُكثِّر فعل الحسنات؛ حتى يمحو تلك السَّيِّئات.
هذه طريقة التَّوبة من الأعمال المحرَّمة، والتي هي أعمال محرَّمة بينه وبين الله ولا علاقة للعباد بها:
1-أن يندم على فعلها.
2-أن يوطِّن قلبه على ترك العود إلى مثلها.
3-أن يُكثر من فعل الحسنات حتى يمحو تلك السَّيِّئات.
يبقى النَّمط الثَّالث من المحرَّمات والذُّنوب، وهي الأصعب، وهي الأخطر، الذُّنوب الَّتي بينه وبين العباد (حقوق النَّاس)، والتَّوبة منها تحتاج إلى جهد آخر.
اللَّون الثَّالث: الذُّنوب التي بينه وبين العباد (والتي تُسمَّي حقوق النَّاس)
وهذا أصعب ألوان المعاصي.
إذا كانت المعصية بينه وبين الله فيمكن في لحظة أن يقول: اللَّهمَّ إنِّي تائب، فتنتهي المشكلة.
فالمحرَّمات التي بينه وبين الله يمكنه في لحظة واحدة أن يقول: اللَّهمَّ إنِّي تائب توبة صادقة، ويندم ندمًا حقيقيًّا، فتُمحى تلك الذُّنوب عنه.
أمَّا الذُّنوب التي بينه وبين العباد، ففيها لا يكفي فقط أن يقف ويقول: اللَّهمَّ إنِّي تائب، بل هذه تحتاج إلى تدارك أمور.
كيف يتوب الإنسان من الذُّنوب التي بينه وبين العباد، والتي تُسمَّى حقوق النَّاس؟
أصناف حقوق النَّاس
هذه الحقوق – حقوق النَّاس – يمكن أن نصنِّفها إلى صنفين:
الصِّنف الأوَّل: ما كان في المال
قد يكون الإنسان أخذ وسرق أموال النَّاس، فهذه معصية تتعلَّق بأموال النَّاس، فكيف يتوب من هذه المعصية؟
تكون التَّوبة بأنَّه:
أ-يجب عليه أن يردَّ المال إلى أصحابه.
إذا كنت قد أخذت مالًا من فلان فيجب عليَّ أن أرجعه إليه، وإذا لم يكن موجودًا فيجب أن أرجعه لورثته، هذه هي التوبة الصَّحيحة.
أمَّا أن أقول أنِّي تائب ولكنِّي ما زلت آكل أموال النَّاس، فهذه ليست توبة.
التَّوبة تعني أن أرجع مال النَّاس للنَّاس، وأن أبحث عن النَّاس الذين سرقت أموالهم، وأكلت أموالهم، واقترضت ولم أرجع المال للنَّاس، فأقوم بإرجاع المال لهم.
إذن، هنا لا بدَّ من إرجاع المال إلى أصحابه، فحتى يصبح تائبًا توبة حقيقيَّة، يجب عليه أن يُرجع المال إلى أصحابه.
ب- فإن عجز وجب أن يستحلَّ منه
هنا سؤال: إذا تاب ولم يقدر أن يردَّ المال إلى أصحابه، بأن كان عاجزًا، أو لا يوجد عنده مال، أو كان فقيرًا فكيف يرجع المال إلى أصحابه؟
هنا يجب أن يستحلَّ من أصحاب المال، بأن يطلب منهم أن يسامحونه.
فإذا استطاع أن يرجع المال يجب عليه أن يرجعه، وإذا لم يستطع فيحتاج إلى أن يستحلَّ من أصحاب المال.
ج-فإن لم يحلَّه، أو عجز عن الوصول إليه تصدَّق عنه
فإمَّا أنَّه قد عرف أصحاب المال ولكنَّهم لم يحلُّوه، وإمَّا إنَّه عجز من الوصول إلى أصحابه.
فهنا يتصدَّق بمقدار ما عليه من دَيْن عن أصحاب المال.
د-فإن لم يقدر على الصَّدقة
فعليه بالتَّضرُّع والابتهال إلى الله أنْ يرضيه عنه في يوم القيامة
إذن، هنا يحتاج إلى مزيد من التَّضرُّع، ومزيد من الابتهال إلى الله أن يُرضي هؤلاء عنه في يوم القيامة.
ه-وعليه بتكثير الحسنات، وتكثير الاستغفار ليكون فيه تعويض عن حقوق الآخرين يوم القيامة.
إذ كلُّ من له حقٌّ لا بدَّ أن يأخذ يوم القيامة عوضًا عن حقِّه إمَّا ببعض طاعاته، وإمَّا بتحمُّل هذا الغير بعض سيِّئاته.
فإنَّ الإنسان يُحضَّر بين يدي الله، ويُقال له: إنَّك قد سرقت مالًا، وأنك اعتديت على مال فلان، والمطلوب الآن أن يُقتص منك، فصاحب الحقِّ يقول: أنا أطالب بحقِّي، فماذا يصنعون؟
يأخذون من حسناتك وتضاف إلى صحيفة صاحب الحقِّ.
وقد يأتي آخر ويقول: أنا لي حق آخر، فيُؤخذ من حسناته وتُضاف إلى صحيفة صاحب الحقِّ.
وقد يأتي ثالث، ويأتي رابع، ويأتي خامس، فإذا انتهت الحسنات، ولا زال مطلوبًا، فماذا يصنعون معه وأصحاب الحقوق لا زالوا ينتظرون حقوقهم؟
فيُؤخذ من سيِّئاتهم وتُضاف إليه، فهناك قد خسر حسنات، وهنا تضاعفت عليه السَّيِّئات.
لذلك يجب على الإنسان أن يتدارك في الدُّنيا بقدر ما يستطيع.
هذا هو اللَّون الأوَّل الذي نسمِّيه حقوق العباد إذا كان الأمر مرتبطًا بالأموال.
الصِّنف الثَّاني: ما كان في العِرض
بأنْ شتمه أو قذفه أو بهته أو اغتابه.
هنا الذَّنب ليس مرتبطًا بالأموال، وإنَّما هو مرتبط بالعرض.
فكيف يتوب الإنسان من هذا الذَّنب؟
أنا قد أكون في يوم من الأيام شهَّرت بفلان، أو سقَّطت شخصيَّته عند النَّاس، أو بهتُّه، أو اغتبته، أو كذبت عليه، فكيف أتوب من هذا الذَّنب؟
هنا التَّوبة تحتاج إلى:
أوَّلًا: أنْ يكذِّب نفسه عند من قال ذلك لديه
أنا مع من تحدَّثت عن فلان وبهتَّه وكذبت عليه؟ أنا تحدَّثت مع فلان وفلان وفلان.
فإذا كانوا موجودين أذهب لهم وأقول: أنَّ ما صدر منِّي في حقِّ فلان ليس صحيحًا، وأكذِّب نفسي.
هذه تكون توبة صادقة.
لا أن يقول: أخشى أن تسقط شخصيَّتي.
فأن تسقط شخصيَّتُك اليوم أفضل من أن تسقط بين يدي الله يوم القيامة.
وإذا كان قد تحدَّث في خطاب عام، أو في محاضرة عامَّة، وقد سمعها النَّاس كلُّهم، وسُجِّلت ووُزِّعت في العالم، وقد أسقط شخصيَّة هذا الإنسان أمام الملأ العام، في خطاب عام؟
فهنا يحتاج إلى أن يكذِّب نفسه بمستوى الخطاب العام، بأن يخرج ويقول: أنا بهتُّ فلانًا، وكذبت على فلان، وأنا تائب، وأنا نادم، وهذا الشَّخص لا توجد فيه هذه الأشياء.
وعليه أن يجعل الخطاب يصل إلى نفس المساحة التي وصل إليها الخطاب الأوَّل.
أمَّا أن يُسقِط إنسانًا في خطاب عام، أو على منبر، أو في محاضرة عامَّة والنَّاس كلُّهم قد سمعوه، ثمَّ يأتي بينه وبين الله ويقول: يا ربِّي أنا تائب.
لا، هذه ليست توبة، بل يجب أن يوصل صوته إلى نفس المساحة التي وصل فيها التَّسقيط لذلك الإنسان.
فإذن، حقُّه أن تكذِّب نفسك عند من قلت ذلك لديه.
وثانيًا: أن يستحلَّ من صاحبه مع الإمكان
إذا كان صاحب الحقِّ الذي بهته وتحدَّث عنه موجودًا، ويتمكَّن من الوصول إليه، ويتمكَّن من الاستحلال منه، فعليه أن يذهب إليه، فلعلَّ المشكلة تنتهي إذا أحلَّه وسامحه وأبرأه الذِّمَّة.
وثالثًا: وإلَّا فليكثر الاستغفار له
إذا لم يتمكَّن من الوصول له، كما لو مات مثلًا، أو لا يتمكَّن من الاستحلال من صاحب الحقِّ نفسه الذي بهته وكذب عليه وشهَّر به، أو لا يتمكَّن من تكذيب نفسه عند من سمعوه.
هنا لا يوجد لديه إلَّا أن يُكثر من الاستغفار، والنَّدم، واللُّجوء إلى الله، بأن يُرضي هذا أو هؤلاء عنه يوم القيامة.
وأن يقوم بأعمال ويهديها إليه، فلعلَّه إذا جاء يوم القيامة ورأى أنَّ لديه رصيدًا كبيرًا من الطَّاعات قد أهديت له من الشَّخص الذي أخطأ في حقِّه، فحينها يسامحه.
فإهداء هذه الأعمال قد تكون عوضًا عن تلك الذُّنوب، وقد تكون سببًا لغفران تلك الذُّنوب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
................................
[1] - موقع كتابات: هي عبارة عن محاضرات مُسجَّلة لسماحة السَّيد الغريفي، وهذا تفريغ صوتي لها.
[2] - موقع كتابات: في هذه الفترة (بين أواخر 2019 و2022 للميلاد) ابتُلينا بمرض مُعدي أطلق عليه (كورونا)، ووفرت الدولة لقاحًا للسلامة من المرض.