
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطيبين الطاهرين.
شهدتُ ليلة الثَّلاثَاء؛ السادس عشر من شهر رمضان للعام الهجري ستة وأربعين أربعمئة وألف في مجلس العلَّامة الشَّيخ سليمان المدني (رحمه الله تعالى)، وفي ضمن موسم العلَّامة المدني الرَّمضاني محاضرةً لصاحب السَّماحة والفضل الشَّيخ أبي جعفرٍ محمَّد سعيد نجل العلَّامة الشَّيخ منصور السَّتري بعنوان: (عقيدتنا في الإمامة) ركَّز فيها (وفَّقه الله) على محذورَي الغلو والتقصير، والحقُّ أنَّه مِنَ الموضوعات المهمَّة في زَمَانِنَا بعد تولُّدِ طَرفَي النقيض مِنْ جِهَةِ رَدِّ الفِعل لِكُلِّ واحدٍ مِنهما تِجاه الآخر في وقتٍ رُبَّما لم يكن أحدُهما فيه مُغاليًا ولم يكن الآخرُ مُقصِّرًا؛ ولكنَّها النَّفس تَذهَبُ بِصاحِبها عَريضةً فتوقعه في التطرُّف وسرعان ما يتحوَّل إلى مَسلك يُعرَف به ومذهَبٍ يُنَافِحُ عنه.
وقد ابتُلِينا في هذا الزَّمان بِأصواتٍ جامِحةٍ لا لِجام يرُدُّها.. تَدْفَعُ أئمَّةَ الهُدى (عليهم السَّلام) عن أماكنهم الَّتي خَصَّهم الله تعالى بها.. بعضُها تدعي لهم ما لم يقولوه في أنفسهم، وأخرى تسلُبُ عنهم ما هو ثابت لهم من مقاماتهم الخاصَّة. والمُعارِضُ لأيٍّ مِنَ الطرفين مُتَّهمٌ على كلِّ حال!
روى شيخُنا الطوسي (رحمه الله) بِسنَدِه عن فُضيل بن يسار، قال:
" قَالَ اَلصَّادِقُ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): اِحْذَرُوا عَلَى شَبَابِكُمْ اَلْغُلاَةَ لاَ يُفْسِدُونَهُمْ؛ فَإِنَّ اَلْغُلاَةَ شَرُّ خَلْقِ اَللَّهِ، يُصَغِّرُونَ عَظَمَةَ اَللَّهِ، وَيَدَّعُونَ اَلرُّبُوبِيَّةَ لِعِبَادِ اَللَّهِ. وَاَللَّهِ إِنَّ اَلْغُلاَةَ شَرٌّ مِنَ اَلْيَهُودِ وَاَلنَّصٰارىٰ وَاَلْمَجُوسَ وَاَلَّذِينَ أَشْرَكُوا.
ثُمَّ قَالَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): إِلَيْنَا يَرْجِعُ اَلْغَالِي فَلاَ نَقْبَلُهُ، وَبِنَا يَلْحَقُ اَلْمُقَصِّرُ فَنَقْبَلُهُ.
فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ ذَلِكَ، يَا اِبْنَ رَسُولِ اَللَّهِ؟
قَالَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): لِأَنَّ اَلْغَالِيَ قَدِ اِعْتَادَ تَرْكَ اَلصَّلاَةِ وَاَلزَّكَاةِ وَاَلصِّيَامِ وَاَلْحَجِّ، فَلاَ يَقْدِرُ عَلَى تَرْكِ عَادَتِهِ وَعَلَى اَلرُّجُوعِ إِلَى طَاعَةِ اَللَّهِ (عَزَّ وَجَلَّ) أَبَدًا، وَإِنَّ اَلْمُقَصِّر إِذَا عَرَفَ عَمِلَ وَأَطَاعَ"[1].
لا يُمكِن تجاوز بيان الإمام (عليه السَّلام) للحال الَّذي يؤول إليه الغالي جرَّاء غلوه مِن تركٍ لأهمِّ الأوامر الإلهيَّة العِباديَّة، ثُمَّ إنَّه يعتاد التَّرك ويَعسرُ عليه الرُّجوعُ إلى طاعة مولاه جلَّ في عُلاه؛ فهذه درجةُ دُونٍ لا يَهوي عَبدٌ في بَعيدِ قعرِها بين ليلة وضحاها، وإنَّما المُتصوَّرُ مروره بِمَرَاحِل انحرف فيها عن الجادَّة انحرافًا جعل في بعض مزالقه المربوبَ ربًّا.
روى شيخنا الكليني (رحمه الله) بسنده عن كِردِين، عن رجلٍ، عن أبي عبد الله وأبي جعفر (عليهما السَّلام)، قال:
"إِنَّ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَهْلِ اَلْبَصْرَةِ أَتَاهُ سَبْعُونَ رَجُلًا مِنَ اَلزُّطِّ[2]، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَكَلَّمُوهُ بِلِسَانِهِمْ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِلِسَانِهِمْ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي لَسْتُ كَمَا قُلْتُمْ؛ أَنَا عَبْدُ اَللَّهِ مَخْلُوقٌ. فَأَبَوْا عَلَيْهِ وَقَالُوا: أَنْتَ هُوَ!
فَقَالَ لَهُمْ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا وَتَرْجِعُوا عَمَّا قُلْتُمْ فِيَّ وَتَتُوبُوا إِلَى اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَأَقْتُلَنَّكُمْ.
فَأَبَوْا أَنْ يَرْجِعُوا وَيَتُوبُوا، فَأَمَرَ أَنْ تُحْفَرَ لَهُمْ آبَارٌ فَحُفِرَتْ، ثُمَّ خَرَقَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، ثُمَّ قَذَفَهُمْ فِيهَا، ثُمَّ خَمَّرَ رُءُوسَهَا، ثُمَّ أُلْهِبَتِ اَلنَّارُ فِي بِئْرٍ مِنْهَا لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَدَخَلَ اَلدُّخَانُ عَلَيْهِمْ فِيهَا فَمَاتُوا"[3].
وروى الكشي بسنده عن شريك بن عدي العامري، قال:
"بَيْنَمَا عَلِيٌّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عِنْدَ اِمْرَأَةٍ لَهُ مِنْ عَنَزَةَ وَهِيَ أُمُّ عُمَرَ، إِذْ أَتَاهُ قَنْبَرٌ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ عَشَرَةَ نَفَرٍ بِالْبَابِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ رَبُّهُمْ. قَالَ: أَدْخِلْهُمْ!
قَالَ: فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا تَقُولُونَ؟ فَقَالُوا نَقُولُ إِنَّكَ رَبُّنَا، وَأَنْتَ اَلَّذِي خَلَقْتَنَا، وَأَنْتَ اَلَّذِي تَرْزُقُنَا!
فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لَهُمْ: وَيْلَكُمْ؛ لاَ تَفْعَلُوا، إِنَّمَا أَنَا مَخْلُوقٌ مِثْلُكُمْ.
فَأَبَوْا وَأَعَادُوا عَلَيْهِ. ثُمَّ سَاقَ اَلْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَذَفَهُمْ فِي اَلنَّارِ. ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): إِنِّي إِذَا أَبْصَرْتُ شَيْئًا مُنْكَرًا ... أَوْقَدْتُ نَارِي وَدَعَوْتُ قَنْبَرًا"[4].
إنَّ الغُلُوَّ في المخلوق وجعلَهُ شريكًا للخالق، بل وعند بعضهم هو الإله (والعياذ بالله) نزعةٌ شيطانيَّةٌّ سابِقةٌ على الأديان السماويَّة؛ فهي تبحث عن القدرة المطلقة مُؤمِنةً بوجودها؛ لِما يراه الإنسانُ من حركة دائمةٍ وتصرُّفٍ في الكون مع الامتناع التكويني من النفس عن إرجاعه إلى غير قدرةٍ مطلقةٍ تَنْطقُ بوجودها نفسُ هذه الحركة المستمرة والمتغيرة في كلِّ مشهود في هذا الوجود، وعندما عَجَزَ الإنْسَانُ عن إدراكها، وَرَفَضَ في كثيرٍ مِن الوقائع دعوى وجود إلهٍ قادر مُشيء يبعثُ الأنبياء والرسل بشرائع من عنده، شَرَعَ هُوَ في نصب مِثالًا للإله، أو واسطة بينه وبين الإله، وقد قال عزَّ مِنْ قائل في حكايته عن الَّذين اتخذوا من دون الله أولياء يعبدونهم: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)[5]. قال عليُّ بنُ إبراهيم: "وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا قَالَتْ إِنَّمَا نَعْبُدُ اَلْأَصْنَامَ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اَللَّهِ زُلْفَى؛ فَإِنَّا لاَ نَقْدِرُ أَنْ نَعْبُدَ اَللَّهَ حَقَّ عِبَادَتِهِ. فَحَكَى اَللَّهُ قَوْلَهُمْ عَلَى لَفْظِ اَلْخَبَرِ، وَمَعْنَاهُ حِكَايَةٌ عَنْهُمْ"[6].
وإلى ذلك يسارع الَّذين تُسيِّرُهم تلك النزعة الشيطانيَّة إلى الغلو في كلِّ مَن يرون فيه أمرًا خارِقًا أو غير معتادٍ بالنسبة لهم، فجعلوا عيسى بن مريم (عليهما السَّلام) ابنًا لله بعد إيمانهم بأنْ لا أب له من بني البشر في هذه الدنيا. قال الحقُّ سبحانه: (وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)[7].
مِن نفس هذه الجهة يبحث الإنسانُ عن قويٍّ يتبعه وينضم إليه ليكون، في نفسه وأمام الآخرين، من حزبه؛ فيعيش القوَّة ولو وهمًا. ثُمَّ إنَّه يبدأ بالتزلف إليه والارتفاع بالقول فيه بدافعِ أن يبقيه الأقوى بين أقرانه، بل وحتَّى الأقران المحتملين، حتَّى لو كان الاحتمال ضعيفًا، وأن يعلن عمقَ حبِّه وشدَّة ولائه له. والأصل في كلِّ ذلك هو استقرار وتمكُّن الضعف النفسي من جهة، وتضييع الملجأ الحقِّ وكونه فاردًا من جهة أخرى؛ اعني الولاية المطلقة لله جلَّ في علاه، ورسوله والأئمة الطاهرين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)؛ لقوله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)[8].
طريق البرهان: حقيقةُ وواقِعُ البحثِ عن الغني مُطلَقًا:
إنَّ الأصلَ في المَعرِفة الأوليَّة للإنسان هُوَ وقوع اليقين بالنَّقص في نفسه وقوعًا تكوينيًّا، وَإدراكه للنقص عِلَّةٌ أولى لأي فِعلٍ يصدر منه لسدِّه، وقد قال بعض الفلاسفة في تفسيرهم للفطرة أنَّها (الفرار من الألم وطلب اللذة)، وهو تفسير دقيق وعميق إذا ما فهمنا المقصود من حدَّيه فهمًا صحيحًا.
نلاحظ -مثلًا- الطِّفلَ الرضيع وهو يسعى بباعث وحركة تكوينيين إلى ما يرفع به جوعه (الجوع نقص)، ثُمَّ ينام لرفع أمر ما كالتعب أو الحاجة إلى الراحة، أو إلى أي شيء ممكن أن نتصوره، وهكذا يبقى الإنسانُ في حركة دائمة ضِمَن نفس القانون التكويني، ولن يتوقَّف عنها إلَّا عن زهدٍ في أمر ما، أو أن يكون قد وصل إلى الكمال؛ وهذا الأخير مجرَّد فرضٍ نظريٍّ لا أكثر.
إنَّ إدراكَ الإنسان لنقصٍ في جهةٍ من جِهات وجوده يستبطنُ إدراكه لوجود أمرين؛ أحدهما ما يرفع النقص، والآخر وجودُ الأكمل، وهذه مسألة مهمَّة وهي من أمَّهات الحقائق في أصول المعرفة، ولذا يقطع العقلُ السويُّ بوجود الغني مطلقًا بمجرَّد إدراكه لجهات النقص في وجود نفسه؛ فإنَّ طبيعة النَّقص في هذا الخلق العظيم برهانٌ تامٌّ على وجود الغني مطلقًا وهو الله جلَّ في عُلاه؛ ولو لا إدراك الإنسان لخالقه الغني لامتنع من الأصل إدراكه لنقص أكمل المخلوقات. وقد جاء في الأثر عن النبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) أنَّه قال: "مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ"[9].
يشعر الإنسانُ بألم الخوف والضياع عندما لا يتمكَّن من تعيين جهةِ الكَمَالِ المُدْرَكَةِ في نفسه بإدراكه لنقصه ونقص كلِّ ما يحيط به، ولذا فهو في بحث دائمٍ عن جهةٍ يركن إليها لتحميه مِن مخوف يخشاه أو أمر يهابه لأي سبب من الأسباب، وطالما انتهى كثيرون إلى نصب صنَمٍ أو التوجُّه إلى ما يراه قوَّةً كالنَّار، أو الشَّمس، أو البحر، أو الهواء، أو غير ذلك مِمَّا يتوهمه حاميًا له من النوائب فيبدأ بالتقرُّب إليه وعبادته.
مِن ذلك أيضًا هُروبُ طوائف من البشر إلى ترك الدنيا والزهد في ملذاتها والاكتفاء منها بما يقيم الصُلب؛ ظنًّا مِنهم بكمون القدرة في التجرُّد عن ما يسمونه الحيوانيَّة الدنيويَّة، وقالوا بقرب الأنسان من الإله الكامل كلَّما تخلَّص ممَّا يُعلِّقه بالدنيا، وقد كثُرَ أولئك في بلاد الهِند.
الماديَّةُ والحِسُّ:
بالرُّغم مِن يقين الإنسان بوجود غني مطلقًا، إلَّا أنَّ تصوُّرَه صعبٌ مُستَصْعَبٌ على المحصور في الحسِّ ومسالكه العلميَّة من التجارب والخبرات وما نحوها مِمَّا يدور في فلك الحسِّ.
إنَّني لا أستبعِدُ، بل أستقرِب أنَّ السببَ وراء هذا الاندفاع الشديد من الإنسان نحو الحضارة الماديَّة ومحاولاته الدؤوبة لاختصار الزمن ما استطاع إلى ذلك سبيلًا هو غايةُ إقَامَةِ إلهٍ في الأرض يُحَقِّقُ القوَّةَ العُظمى المُعجِزة لكلِّ ما دونها وكلِّ ما يريد الخروج عن قبضتها، وهذه العقليَّة الطاغوتيَّة ليست وليدة هذا العصر، بل هي موجودةٌ مُصرِّحةٌ بتحدياتها منذ الخلق الأوَّل، وقد قال الحقُّ تبارك ذكره: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ)[10]، وقال أيضًا: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً * وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً)[11]. وقد عاشها فرعون بتفاصيلها، فقال بِما يحكيه عنه الكتاب العزيز: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ)[12]، وقال: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ)[13].
ادَّعى فرعونُ الألوهيَّة، وآمن به من كانوا يبحثون عن الأمن فرارًا من ألم الضعف والجهل والفقر، بل خوفًا مِن التعرُّض للمهالك بالخروج عن ظلال السلطان.
هذا شَكلٌ مِن أشكالِ بحثِ الإنسان عن إلهٍ يعبده أو يقرِّبه من معبود يجهله ويجهل الطريق إليه، وهو بحثٌ بدافع تكويني كما أسلفنا. ومِن أشكال البحث عن إلهٍ إطاعة الإنسان لأفكار الشيطان كما في قصَّة قومٍ كانوا قبل نبي الله نوح (عليه السَّلام) قال الإمامٌ أبو جعفر (عليه السَّلام) في أمرهم: "كَانَ قَوْمٌ مُؤْمِنُونَ قَبْلَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَمَاتُوا فَحَزِنَ عَلَيْهِمُ اَلنَّاسُ، فَجَاءَ إِبْلِيسُ فَاتَّخَذَ لَهُمْ صُوَرَهُمْ لِيَأْنِسُوا بِهَا فَأَنِسُوا بِهَا، فَلَمَّا جَاءَ اَلشِّتَاءُ أَدْخَلُوهُمُ اَلْبُيُوتَ فَمَضَى ذَلِكَ اَلْقَرْنُ، وَجَاءَ اَلْقَرْنُ اَلْآخَرُ فَجَاءَهُمْ إِبْلِيسُ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ هَؤُلاَءِ آلِهَةٌ كَانَ آبَاؤُكُمْ يَعْبُدُونَهَا، فَعَبَدُوهُمْ وَضَلَّ مِنْهُمْ كَثِيرٌ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ نُوحٌ فَأَهْلَكَهُمُ اَللَّهُ"[14]، وفي الكتاب العزيز: (قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَارًا * وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالا)[15].
تختلِطُ في نفسِ الإنسانِ حقيقةُ يَقِينِهِ بِوجُودِ غَنيٍّ مُطلقًا وواقعُ انْجِذَابِهِ للمَادَّةِ وَالمَحْسُوسِ، ومِن هذا الاختلاط المُعقَّد تَتَولَّدُ في نفسه استعداداتٌ للتقدِّيس والارتفاع بِمَن يراه مختلِفًا عن غيره من جهات الزهد والورع والعلم وما شابه، وفي كثير من الأحيان لا يحتاج الأمر إلى ادِّعاء؛ فنفس الإنسان ينزع إلى إسباغ صفات القداسة على مَن يقرِّر الارتفاع به وجعله واسطة بينه وبين الإله، أو أن يجعله إلهًا وينتهي الأمر!
أئمَّةُ الهُدى (عليهم السَّلام) ومسألة الاتِّصال بالغيب:
استفاضتِ الروايات الشَّريفة عن النبي الأكرم وأئمَّة الحقِّ (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) في مقاماتهم التكوينيَّة والتشريعيَّة، وقد جمع منها شيخنا الأقدم الصدوق (رحمه الله) العشرات في كتابه (كمال الدين وتمام النِّعمة)، مِنها ما رواه بسنده عن أبي الطفيل، عن أبي جعفر (عليه السَّلام)، قال: قال رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السَّلام):
"اُكْتُبْ مَا أُمْلِي عَلَيْكَ.
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): يَا نَبِيَّ اَللَّهِ، أَ تَخَافُ عَلَيَّ اَلنِّسْيَانَ؟
فَقَالَ (صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): لَسْتُ أَخَافُ عَلَيْكَ اَلنِّسْيَانَ وَقَدْ دَعَوْتُ اَللَّهَ لَكَ أَنْ يُحَفِّظَكَ وَلاَ يُنْسِيَكَ؛ وَلَكِنْ اُكْتُبْ لِشُرَكَائِكَ.
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): قُلْتُ: وَمَنْ شُرَكَائِي يَا نَبِيَّ اَللَّهِ؟
قَالَ (صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): اَلْأَئِمَّةُ مِنْ وُلْدِكَ؛ بِهِمْ تُسْقَى أُمَّتِي اَلْغَيْثَ، وَبِهِمْ يُسْتَجَابُ دُعَاؤُهُمْ، وَبِهِمْ يَصْرِفُ اَللَّهُ عَنْهُمُ اَلْبَلاَءَ، وَبِهِمْ تَنْزِلُ اَلرَّحْمَةُ مِنَ اَلسَّمَاءِ. وَهَذَا أَوَّلُهُمْ؛ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى اَلْحَسَنِ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، ثُمَّ أَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى اَلْحُسَيْنِ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، ثُمَّ قَالَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): اَلْأَئِمَّةُ مِنْ وُلْدِهِ"[16].
وما رواه بسنده عن سُليمَان بن مهران الأعمش، عن الإمام الصادق (عليه السَّلام)، عن الإمام الباقر (عليه السَّلام)، عن الإمام زين العابدين (عليه السَّلام)، قال:
"نَحْنُ أَئِمَّةُ اَلْمُسْلِمِينَ، وَحُجَجُ اَللَّهِ عَلَى اَلْعَالَمِينَ، وَسَادَةُ اَلْمُؤْمِنِينَ، وَقَادَةُ اَلْغُرِّ اَلْمُحَجَّلِينَ، وَمَوَالِي اَلْمُؤْمِنِينَ. وَنَحْنُ أَمَانٌ لِأَهْلِ اَلْأَرْضِ كَمَا أَنَّ اَلنُّجُومَ أَمَانٌ لِأَهْلِ اَلسَّمَاءِ، وَنَحْنُ اَلَّذِينَ بِنَا يُمْسِكُ اَللَّهُ اَلسَّمٰاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى اَلْأَرْضِ إِلاّٰ بِإِذْنِهِ، وَبِنَا يُمْسِكُ اَلْأَرْضَ أَنْ تَمِيدَ بِأَهْلِهَا. وَبِنَا يُنَزِّلُ اَلْغَيْثَ، وَتُنْشَرُ اَلرَّحْمَةُ، وَتَخْرُجُ بَرَكَاتُ اَلْأَرْضِ. وَلَوْ لاَ مَا فِي اَلْأَرْضِ مِنَّا لَسَاخَتْ بِأَهْلِهَا.
ثُمَّ قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): وَلَمْ تَخْلُ اَلْأَرْضُ مُنْذُ خَلَقَ اَللَّهُ آدَمَ مِنْ حُجَّةٍ لِلَّهِ فِيهَا ظَاهِرٍ مَشْهُورٍ أَوْ غَائِبٍ مَسْتُورٍ، وَلاَ تَخْلُو إِلَى أَنْ تَقُومَ اَلسَّاعَةُ مِنْ حُجَّةٍ لِلَّهِ فِيهَا، وَلَوْ لاَ ذَلِكَ لَمْ يُعْبَدِ اَللَّهُ.
قَالَ سُلَيْمَانُ: فَقُلْتُ لِلصَّادِقِ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): فَكَيْفَ يَنْتَفِعُ اَلنَّاسُ بِالْحُجَّةِ اَلْغَائِبِ اَلْمَسْتُورِ؟
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): كَمَا يَنْتَفِعُونَ بِالشَّمْسِ إِذَا سَتَرَهَا اَلسَّحَابُ"[17].
أمَنَتْ ثلَّةٌ بالأنبياء والرسل وأئمَّة الهُدى (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) مُصدِّقين بما جاؤوا به مُثبتين لهم ما أثبتوه لأنفسهم (عليه السَّلام)، فيما قال آخرون فيهم (عليهم السَّلام) ما لم يقولوه في أنفسهم، ويشهد بذلك ما رواه شيخنا الكليني (رحمه الله) بسنده عن عمرو بن خالد، عن أبي جعفر (عليه السَّلام)، قال:
"يَا مَعْشَرَ اَلشِّيعَةِ شِيعَةِ آلِ مُحَمَّدٍ؛ كُونُوا اَلنُّمْرُقَةَ اَلْوُسْطَى يَرْجِعُ إِلَيْكُمُ اَلْغَالِي وَيَلْحَقُ بِكُمُ اَلتَّالِي.
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ اَلْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ سَعْدٌ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، مَا اَلْغَالِي؟
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): قَوْمٌ يَقُولُونَ فِينَا مَا لاَ نَقُولُهُ فِي أَنْفُسِنَا، فَلَيْسَ أُولَئِكَ مِنَّا وَلَسْنَا مِنْهُمْ.
قَالَ: فَمَا اَلتَّالِي؟
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): اَلْمُرْتَادُ يُرِيدُ اَلْخَيْرَ يُبَلِّغُهُ اَلْخَيْرَ يُؤْجَرُ عَلَيْهِ.
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا مَعَنَا مِنَ اَللَّهِ بَرَاءَةٌ، وَلاَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ اَللَّهِ قَرَابَةٌ، وَلاَ لَنَا عَلَى اَللَّهِ حُجَّةٌ، وَلاَ نَتَقَرَّبُ إِلَى اَللَّهِ إِلاَّ بِالطَّاعَةِ؛ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُطِيعًا لِلَّهِ تَنْفَعُهُ وَلاَيَتُنَا، وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ عَاصِيًا لِلَّهِ لَمْ تَنْفَعْهُ وَلاَيَتُنَا. وَيْحَكُمْ؛ لاَ تَغْتَرُّوا.. وَيْحَكُمْ لاَ تَغْتَرُّوا"[18].
إنَّ مقامَ الاتصال بالغيب بنحو من انحاء الاتصال مقامٌ تقول بوجوده فِطرة الإنسان، كما ألمحنا إلى ذلك في مطاوي الكلام، إلَّا أنَّ الشَّيطان قد اتَّخذ مقعده مِن الصراط ليُضِلَّ الإنسان ويلبس عليه الحق بالباطل ويدفعه للارتفاع في القول وجعل المُصطفى مِن البشر في غير المحلِّ الَّذي خصَّه الله تعالى به، والإعضال كل الإعضال في أنَّ الغُلوَّ في الأئمَّة (عليهم السَّلام) يتَّخِذُ مسالِكَ التديُّن والشدَّة في الاعتقاد والولاية، وبعد حين يرى صاحبُهُ نفسَهُ المقياسَ للعقيدة الحقَّة، وبالتالي يكون مَنْ دونه مُقصِّرًا لا محالة!
ثُمَّ إنَّ ظهور الغلو يُولِّدُ في النُّفوس توجُّسًا مِنه بِمَا يدفع طوائف من المؤمنين إلى إنكار جملةً مِنْ مقامات أهل البيت (عليهم السَّلام) بتوهم كونها مِنَ الغلو فينشأ مسلكُ التقصير. فمحلُّ الإشكال إذن هو الجهل بالخالق من جهة، والجهل بمعنى المقامات الخاصَّة الَّتي يمنُّ بها جلَّ وعزَّ على صفوةٍ خاصَّةٍ مِنْ خَلْقِهِ.
إنَّ هذا الاصطفاء للأئمَّة الأطهار (عليهم السَّلام) وخصهم بمقامات مثل مقام الوَلاية، ومقام العصمة، ومقام الطاهرة، ومقام الشَّفاعة، ومقام الأفضلية على سائر الأنبياء والرسل (عليهم السَّلام) ما عدا النبي الأكرم محمَّد (صلَّى الله عليه وآله)، ومقام ثبوت العلم اللدني لهم (عليهم السَّلام)، وغيرها من المقامات دليلٌ وإثباتٌ لكونهم دون الخالق تبارك ذكره من جميع جهات وجودهم المبارك (عليهم السَّلام)، ولكونهم فوق غيرهم من الخلق من جميع جهات وجودهم المبارك (عليهم السَّلام)، ومن هذه الحقيقة يُوحِّدُ المؤمنُ العاقلُ اللهَ سبحانه وتعالى بمعرفته للأئمَّة المعصومين (عليهم السَّلام).
روى شيخنا الكليني (رحمه الله) بسنده عن زرارة بن أعين، قال: قال أبو عبد الله (عليه السَّلام): "لاَ بُدَّ لِلْغُلاَمِ مِنْ غَيْبَةٍ.
قُلْتُ: وَلِمَ؟
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): يَخَافُ -وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى بَطْنِهِ- وَهُوَ اَلْمُنْتَظَرُ، وَهُوَ اَلَّذِي يَشُكُّ اَلنَّاسُ فِي وِلاَدَتِهِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ حَمْلٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَاتَ أَبُوهُ وَلَمْ يُخَلِّفْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ وُلِدَ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ بِسَنَتَيْنِ.
قَالَ زُرَارَةُ: فَقُلْتُ: وَمَا تَأْمُرُنِي لَوْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ اَلزَّمَانَ؟
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): اُدْعُ اَللَّهَ بِهَذَا اَلدُّعَاءِ: (اَللَّهُمَّ عَرِّفْنِي نَفْسَكَ؛ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي نَفْسَكَ لَمْ أَعْرِفْكَ. اَللَّهُمَّ عَرِّفْنِي نَبِيَّكَ فَإِنَّكَ؛ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي نَبِيَّكَ لَمْ أَعْرِفْهُ قَطُّ. اَللَّهُمَّ عَرِّفْنِي حُجَّتَكَ؛ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي حُجَّتَكَ ضَلَلْتُ عَنْ دِينِي)"[19]، وفي رواية النعماني بسنده عن زرارة بن أعين، قال: "سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَقُولُ: إِنَّ لِلْقَائِمِ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ غَيْبَةً قَبْلَ أَنْ يَقُومَ، ..."، إلى أن قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): "يَا زُرَارَةُ؛ مَتَى أَدْرَكْتَ ذَلِكَ اَلزَّمَانَ فَادْعُ بِهَذَا اَلدُّعَاءِ: (اَللَّهُمَّ عَرِّفْنِي نَفْسَكَ؛ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي نَفْسَكَ لَمْ أَعْرِفْ نَبِيَّكَ. اَللَّهُمَّ عَرِّفْنِي رَسُولَكَ؛ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي رَسُولَكَ لَمْ أَعْرِفْ حُجَّتَكَ. اَللَّهُمَّ عَرِّفْنِي حُجَّتَكَ؛ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي حُجَّتَكَ ضَلَلْتُ عَنْ دِينِي"[20].
فالمعرفة هي المدار إذن، وأي خلل فيها قد يأخذ الإنسان إلى الهاوية وهو يحسب أنَّه يُحسِنُ صُنعًا.
طريق السَّلامة واحِدٌ لا شريك له:
تواتر عن النبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) أنَّه قال: "إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا؛ كِتَابَ اَللَّهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ اَلْحَوْضَ"[21].
وروى شيخنا الكليني (رحمه الله) بسنده عن أبي إسحاق السبيعي، عن بعض أصحاب أمير المؤمنين (عليه السَّلام) مِمَّن يوثق به: "أَنَّ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) تَكَلَّمَ بِهَذَا اَلْكَلاَمِ، وَحُفِظَ عَنْهُ وَخَطَبَ بِهِ عَلَى مِنْبَرِ اَلْكُوفَةِ:
اَللَّهُمَّ إِنَّهُ لاَ بُدَّ لَكَ مِنْ حُجَجٍ فِي أَرْضِكَ، حُجَّةٍ بَعْدَ حُجَّةٍ عَلَى خَلْقِكَ؛ يَهْدُونَهُمْ إِلَى دِينِكَ، وَيُعَلِّمُونَهُمْ عِلْمَكَ؛ كَيْلاَ يَتَفَرَّقَ أَتْبَاعُ أَوْلِيَائِكَ، ظَاهِرٍ غَيْرِ مُطَاعٍ، أَوْ مُكْتَتَمٍ يُتَرَقَّبُ. إِنْ غَابَ عَنِ اَلنَّاسِ شَخْصُهُمْ فِي حَالِ هُدْنَتِهِمْ فَلَمْ يَغِبْ عَنْهُمْ قَدِيمُ مَبْثُوثِ عِلْمِهِمْ، وَآدَابُهُمْ فِي قُلُوبِ اَلْمُؤْمِنِينَ مُثْبَتَةٌ، فَهُمْ بِهَا عَامِلُونَ.
وَيَقُولُ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) فِي هَذِهِ اَلْخُطْبَةِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: فِيمَنْ هَذَا؟[22] وَلِهَذَا يَأْرِزُ اَلْعِلْمُ إِذَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ حَمَلَةٌ يَحْفَظُونَهُ وَيَرْوُونَهُ كَمَا سَمِعُوهُ مِنَ اَلْعُلَمَاءِ[23] وَيَصْدُقُونَ عَلَيْهِمْ فِيهِ. اَللَّهُمَّ فَإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ اَلْعِلْمَ لاَ يَأْرِزُ كُلُّهُ، وَلاَ يَنْقَطِعُ مَوَادُّهُ، وَإِنَّكَ لاَ تُخْلِي أَرْضَكَ مِنْ حُجَّةٍ لَكَ عَلَى خَلْقِكَ، ظَاهِرٍ لَيْسَ بِالْمُطَاعِ، أَوْ خَائِفٍ مَغْمُورٍ؛ كَيْلاَ تَبْطُلَ حُجَّتُكَ وَلاَ يَضِلَّ أَوْلِيَاؤُكَ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَهُمْ، بَلْ أَيْنَ هُمْ؟ وَكَمْ هُمْ؟ أُولَئِكَ اَلْأَقَلُّونَ عَدَدًا اَلْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اَللَّهِ قَدْرًا"[24].
إنَّ ما بيننا وبين الله تبارك ذكره في زمن غيبة وليِّنا (عليه السَّلام) هو الكتاب العزيز والعترة الطاهرة المحفوظة في مبثوث علمهم (عليهم السَّلام)، وقد قيَّض الله سبحانه له حفظةً أودعوه كُتُبًا لها شأنها العالي واعتبارها السَّامي ما ميَّزها عن غيرها مِمَّا حاوله أمثال النصيريَّة وضروب المتصوفَّة وأهل التخليط والكفر مِمَّن حذَّر منهم أئمَّتنا (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، ومن ذلك ما رواه شيخنا الطوسي (رحمه الله) بسنده عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السَّلام)، قال: "إِنَّ فِيمَنْ يَنْتَحِلُ هَذَا اَلْأَمْرَ لَمَنْ يَكْذِبُ حَتَّى يَحْتَاجَ اَلشَّيْطَانُ إِلَى كَذِبِهِ"[25].
وروى الشَّيخ الكليني (رحمه الله) بسنده عن مالك بن عطيَّة، عن بعض أصحاب أبي عبد الله (عليه السَّلام)، قال: "خَرَجَ إِلَيْنَا أَبُو عَبْدِ اَللَّهِ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) وَهُوَ مُغْضَبٌ؛ فَقَالَ: إِنِّي خَرَجْتُ آنِفًا فِي حَاجَةٍ فَتَعَرَّضَ لِي بَعْضُ سُودَانِ اَلْمَدِينَةِ فَهَتَفَ بِي لَبَّيْكَ يَا جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ لَبَّيْكَ[26]، فَرَجَعْتُ عَوْدِي عَلَى بَدْئِي إِلَى مَنْزِلِي خَائِفًا ذَعِرًا مِمَّا قَالَ حَتَّى سَجَدْتُ فِي مَسْجِدِي لِرَبِّي وَعَفَّرْتُ لَهُ وَجْهِي، وَذَلَّلْتُ لَهُ نَفْسِي، وَبَرِئْتُ إِلَيْهِ مِمَّا هَتَفَ بِي. وَلَوْ أَنَّ عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ عَدَا مَا قَالَ اَللَّهُ فِيهِ إِذًا لَصَمَّ صَمًّا لاَ يَسْمَعُ بَعْدَهُ أَبَدًا، وَعَمِيَ عَمًى لاَ يُبْصِرُ بَعْدَهُ أَبَدًا، وَخَرِسَ خَرْسًا لاَ يَتَكَلَّمُ بَعْدَهُ أَبَدًا. ثُمَّ قَالَ: لَعَنَ اَللَّهُ أَبَا اَلْخَطَّابِ وَقَتَلَهُ بِالْحَدِيدِ".
بين أيدينا روايات أصول يُعرَضُ عليها ما نجده في الكتاب غير المعتبرة، لا سيَّما الكتب المنسوبة إلى المخذولين مِمَّن يقولون في الأئمة الطاهرين (عليهم السَّلام) ما لم يقولونه في أنفسهم.
في الرواية عن عبد الرحمن بن كثير، قال: قال أبو عبد الله (عليه السَّلام) يومًا لأصحابه: "لَعَنَ اَللَّهُ اَلْمُغِيرَةَ بْنَ سَعِيدٍ[27] وَ لَعَنَ يَهُودِيَّةً كَانَ يَخْتَلِفُ إِلَيْهَا يَتَعَلَّمُ مِنْهُ اَلسِّحْرَ وَاَلشَّعْبَذَةَ وَاَلْمَخَارِيقَ!
إِنَّ اَلْمُغِيرَةَ كَذَبَ عَلَى أَبِي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فَسَلَبَهُ اَللَّهُ اَلْإِيمَانَ، وَإِنَّ قَوْمًا كَذَبُوا عَلَيَّ.. مَا لَهُمْ؟ أَذَاقَهُمُ اَللَّهُ حَرَّ اَلْحَدِيدِ! فَوَ اَللَّهِ مَا نَحْنُ إِلاَّ عَبِيْدَ اَلَّذِي خُلِقْنَا وَاِصْطَفَانَا، مَا نَقْدِرُ عَلَى ضُرٍّ وَلاَ نَفْعٍ.. إِنْ رُحِمْنَا فَبِرَحْمَتِهِ، وَإِنْ عُذِّبْنَا فَبِذُنُوبِنَا، وَاَللَّهِ مَا لَنَا عَلَى اَللَّهِ مِنْ حُجَّةٍ، وَلاَ مَعَنَا مِنَ اَللَّهِ بَرَاءَةٌ، وَإِنَّا لَمَيِّتُونَ، وَمَقْبُورُونَ، وَمُنْشَرُونَ، وَمَبْعُوثُونَ، وَمَوْقُوفُونَ، وَمَسْئُولُونَ.
وَيْلَهُمْ؛ مَا لَهُمْ؟ لَعَنَهُمُ اَللَّهُ؛ فَلَقَدْ آذَوُا اَللَّهَ وَآذَوْا رَسُولَهُ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) فِي قَبْرِهِ، وَأَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَفَاطِمَةَ وَاَلْحَسَنَ وَاَلْحُسَيْنَ وَعَلِيَّ بْنَ اَلْحُسَيْنِ وَمُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ (صَلَوَاتُ اَللَّهِ عَلَيْهِمْ). وَهَا أَنَا ذَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ لَحْمُ رَسُولِ اَللَّهِ وَجِلْدُ رَسُولِ اَللَّهِ، أَبِيتُ عَلَى فِرَاشِي خَائِفًا وَجِلًا مَرْعُوبًا، يَأْمَنُونَ وَأَفْزَعُ! وَيَنَامُونَ عَلَى فُرُشِهِمْ وَأَنَا خَائِفٌ سَاهِرٌ وَجِلٌ أَتَقَلْقَلُ بَيْنَ اَلْجِبَالِ وَاَلْبَرَارِي!
أَبْرَأُ إِلَى اَللَّهِ مِمَّا قَالَ فِيَّ اَلْأَجْدَعُ اَلْبَرَّادُ عَبْدُ بَنِي أَسَدٍ أَبُو اَلْخَطَّابِ لَعَنَهُ اَللَّهُ، وَاَللَّهِ لَوِ اُبْتُلُوا بِنَا وَأَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ لَكَانَ اَلْوَاجِبُ أَلاَّ يَقْبَلُوهُ، فَكَيْفَ وَهُمْ يَرَوْنِي خَائِفًا وَجِلًا أَسْتَعْدِي اَللَّهَ عَلَيْهِمْ وَأَتَبَرَّأُ إِلَى اَللَّهِ مِنْهُمْ؟!
أُشْهِدُكُمْ أَنِّي اِمْرُؤٌ وَلَدَنِي رَسُولُ اَللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ)، وَمَا مَعِي بَرَاءَةٌ مِنَ اَللَّهِ.. إِنْ أَطَعْتُهُ رَحِمَنِي، وَإِنْ عَصَيْتُهُ عَذَّبَنِي عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ أَشَدَّ عَذَابِهِ"[28].
ومِنَ الغُلاة أيضًا فرقة (الإباحيَّة)، وهم -خذلهم الله تعالى- القائلون بكفاية معرفة الأئمة (عليهم السَّلام) عن الصَّلاة والصوم وسائر العبادات بزعم أنَّها (رجلٌ)؛ أي العبادات، مَن عرَفه اكتفى بعلمه به من غير عمل! وقد كتب الإمام الصادق (عليه السَّلام) إلى المفضَّل بن عمر يُحذره منهم ويبين له حكمهم جوابًا لكتاب ورده من المُفضَّل؛ قال (عليه السَّلام): "جَاءَنِي كِتَابُكَ فَقَرَأْتُهُ وَفَهِمْتُ اَلَّذِي فِيهِ .." إلى أن قال (عليه السَّلام):
"أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ اَلدِّينَ إِنَّمَا هُوَ مَعْرِفَةُ اَلرِّجَالِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا عَرَفْتَهُمْ فَاعْمَلْ مَا شِئْتَ، .."، وقال (عليه السَّلام):
"وَذَكَرَتْ أَنَّهُ بَلَغَكَ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ اَلصَّلاَةَ وَاَلزَّكَاةَ وَصَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَاَلْحَجَّ وَاَلْعُمْرَةَ وَاَلْمَسْجِدَ اَلْحَرَامَ وَاَلْبَيْتَ اَلْحَرَامَ وَاَلْمَشْعَرَ اَلْحَرَامَ وَاَلشَّهْرَ اَلْحَرَامَ هُوَ رَجُلٌ، وَأَنَّ اَلطُّهْرَ وَاَلاِغْتِسَالَ مِنَ اَلْجَنَابَةِ هُوَ رَجُلٌ، وَكُلُّ فَرِيضَةٍ اِفْتَرَضَهَا اَللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ هُوَ رَجُلٌ، وَأَنَّهُمْ ذَكَرُوا ذَلِكَ بِزَعْمِهِمْ أَنَّ مَنْ عَرَفَ ذَلِكَ اَلرَّجُلَ فَقَدِ اِكْتَفَى بِعِلْمِهِ بِهِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ، وَقَدْ صَلَّى وَآتَى اَلزَّكَاةَ وَصَامَ وَحَجَّ وَاِعْتَمَرَ وَاِغْتَسَلَ مِنَ اَلْجَنَابَةِ وَتَطَهَّرَ وَعَظَّمَ حُرُمَاتِ اَللَّهِ وَاَلشَّهْرَ اَلْحَرَامَ وَاَلْمَسْجِدَ اَلْحَرَامَ، وَأَنَّهُمْ ذَكَرُوا مَنْ عَرَفَ هَذَا بِعَيْنِهِ وَبِحَدِّهِ، وَثَبَتَ فِي قَلْبِهِ، جَازَ لَهُ أَنْ يَتَهَاوَنَ؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي اَلْعَمَلِ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ إِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ اَلرَّجُلَ فَقَدْ قُبِلَتْ مِنْهُمْ هَذِهِ اَلْحُدُودُ لِوَقْتِهَا وَ إِنْ هُمْ لَمْ يَعْمَلُوا بِهَا، وَأَنَّهُ بَلَغَكَ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ اَلْفَوَاحِشَ اَلَّتِي نَهَى اَللَّهُ عَنْهَا.. اَلْخَمْرَ وَاَلْمَيْسَرُ وَاَلرِّبَا وَاَلدَّمَ وَاَلْمَيْتَةَ وَلَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ هُوَ رَجُلٌ، وَذَكَرُوا أَنَّ مَا حَرَّمَ اَللَّهُ مِنْ نِكَاحِ اَلْأُمَّهَاتِ وَاَلْبَنَاتِ وَاَلْعَمَّاتِ وَاَلْخَالاَتِ وَبَنَاتِ اَلْأَخِ وَبَنَاتِ اَلْأُخْتِ وَمَا حَرَّمَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ مِنَ اَلنِّسَاءِ.. فَمَا حَرَّمَ اَللَّهُ إِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ نِكَاحَ نِسَاءِ اَلنَّبِيِّ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مُبَاحٌ كُلُّهُ، .."، إلى أن قال (عليه السَّلام):
"أُخْبِرُكَ أَنَّهُ مَنْ كَانَ يَدِينُ بِهَذِهِ اَلصِّفَةِ اَلَّتِي كَتَبْتَ تَسْأَلُنِي عَنْهَا فَهُوَ عِنْدِي مُشْرِكٌ بِاللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.. بَيِّنُ اَلشِّرْكِ لاَ شَكَّ فِيهِ. وَأُخْبِرُكَ أَنَّ هَذَا اَلْقَوْلَ كَانَ مِنْ قَوْمٍ سَمِعُوا مَا لَمْ يَعْقِلُوهُ عَنْ أَهْلِهِ وَلَمْ يُعْطَوْا فَهْمَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَعْرِفُوا حَدَّ مَا سَمِعُوا فَوَضَعُوا حُدُودَ تِلْكَ اَلْأَشْيَاءَ مُقَايَسَةً بِرَأْيِهِمْ وَمُنْتَهَى عُقُولِهِمْ، وَلَمْ يَضَعُوهَا عَلَى حُدُودِ مَا أُمِرُوا كَذِبًا وَاِفْتِرَاءً عَلَى اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) وَجُرْأَةً عَلَى اَلْمَعَاصِي، فَكَفَى بِهَذَا لَهُمْ جَهْلاً"[29].
ردَّ الأئمَّةُ (عليهم السَّلام) كلَّ تلك الأباطيل ونهوا عن مجالسة أهلها، بل وحتَّى عن مصافحتهم، لا سيَّما والحقُّ بيِّنٌ والفصل منهم جاء أوضح من الشمس في رائعة الضُّحى، فقد روى شيخنا الكليني (رحمه الله) بسنده عن سَدِيرٍ الصيرفي، قال:
"قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اَللَّهِ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): إِنَّ قَوْمًا يَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ آلِهَةٌ؛ يَتْلُونَ بِذَلِكَ عَلَيْنَا قُرْآنًا: (وَ هُوَ اَلَّذِي فِي اَلسَّمٰاءِ إِلٰهٌ وَ فِي اَلْأَرْضِ إِلٰهٌ)[30]!
فَقَالَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): يَا سَدِيرُ؛ سَمْعِي وَبَصَرِي وَبَشَرِي وَلَحْمِي وَدَمِي وَشَعْرِي مِنْ هَؤُلاَءِ بِرَاءٌ، وَبَرِئَ اَللَّهُ مِنْهُمْ.. مَا هَؤُلاَءِ عَلَى دِينِي وَلاَ عَلَى دِينِ آبَائِي.. وَاَللَّهِ؛ لاَ يَجْمَعُنِي اَللَّهُ وَإِيَّاهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إِلاَّ وَ هُوَ سَاخِطٌ عَلَيْهِمْ.
قَالَ: قُلْتُ: وَعِنْدَنَا قَوْمٌ يَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ رُسُلٌ؛ يَقْرَءُونَ عَلَيْنَا بِذَلِكَ قُرْآنًا: (يٰا أَيُّهَا اَلرُّسُلُ كُلُوا مِنَ اَلطَّيِّبٰاتِ وَاِعْمَلُوا صٰالِحًا إِنِّي بِمٰا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)[31]!
فَقَالَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): يَا سَدِيرُ؛ سَمْعِي وَبَصَرِي وَشَعْرِي وَبَشَرِي وَلَحْمِي وَدَمِي مِنْ هَؤُلاَءِ بِرَاءٌ، وَبَرِئَ اَللَّهُ مِنْهُمْ وَرَسُولُهُ.. مَا هَؤُلاَءِ عَلَى دِينِي وَ لاَ عَلَى دِينِ آبَائِي.. وَاَللَّهِ؛ لاَ يَجْمَعُنِي اَللَّهُ وَإِيَّاهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إِلاَّ وَهُوَ سَاخِطٌ عَلَيْهِمْ.
قَالَ: قُلْتُ: فَمَا أَنْتُمْ؟
قَالَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): نَحْنُ خُزَّانُ عِلْمِ اَللَّهِ.. نَحْنُ تَرَاجِمَةُ أَمْرِ اَللَّهِ.. نَحْنُ قَوْمٌ مَعْصُومُونَ أَمَرَ اَللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِطَاعَتِنَا، وَنَهَى عَنْ مَعْصِيَتِنَا. نَحْنُ اَلْحُجَّةُ اَلْبَالِغَةُ عَلَى مَنْ دُونَ اَلسَّمَاءِ وَفَوْقَ اَلْأَرْضِ"[32].
إذن، فلا سلامة في غير مبثوث علمهم المحفوظ في كتبنا الروائيَّة المعتبرة الَّتي عليها مدار العلم، وبها يشهد الدين المشيد القائم تحت عين الحجَّة القائم (صلوات الله وسلامه عليه)، وقد بيَّن لنا الأمرَ الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) في رواية الأئمة الطاهرين (عليهم السَّلام) عنه، قال:
"إِنَّ اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ اِخْتَارَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ شَيْئًا؛ اِخْتَارَ مِنَ اَلْأَرْضِ مَكَّةَ، وَاِخْتَارَ مِنْ مَكَّةَ اَلْمَسْجِدَ، وَاِخْتَارَ مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْمَوْضِعَ اَلَّذِي فِيهِ اَلْكَعْبَةُ، وَاِخْتَارَ مِنَ اَلْأَنْعَامِ إِنَاثَهَا، وَمِنَ اَلْغَنَمِ اَلضَّأْنَ، وَاِخْتَارَ مِنَ اَلْأَيَّامِ يَوْمَ اَلْجُمُعَةِ، وَاِخْتَارَ مِنَ اَلشُّهُورِ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَمِنَ اَللَّيَالِي لَيْلَةَ اَلْقَدْرِ، وَاِخْتَارَ مِنَ اَلنَّاسِ بَنِي هَاشِمٍ، وَاِخْتَارَنِي وَعَلِيًّا مِنْ بُنِي هَاشِمٍ، وَاِخْتَارَ مِنِّي وَمِنْ عَلِيٍّ اَلْحَسَنَ وَاَلْحُسَيْنَ، وَ يُكْمِلُهُ اِثْنَيْ عَشَرَ إِمَامًا مِنْ وُلْدِ اَلْحُسَيْنِ، تَاسِعُهُمْ بَاطِنُهُمْ.. وَهُوَ ظَاهِرُهُمْ، وَهُوَ أَفْضَلُهُمْ، وَهُوَ قَائِمُهُمْ. (قَالَ عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ فِي حَدِيثِهِ: يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ اَلْغَالِينَ وَاِنْتِحَالَ اَلْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ اَلْجَاهِلِينَ)"[33].
إلجام النَّفس:
يحتاج العاقل دائمًا إلى الإبقاء على لجام نفسه مشدودًا يمنعها من مجرَّد التفكير في اتخاذ ولو خطوة واحدة عن الطريق الواضح لأهل بيت العصمة (عليهم السَّلام) المُبَيَّن في روايتهم الشريفة المحفوظة في كتبنا المُعَتبَرة السَّالمة مِن زخرفات الغلاة بشتَّى أصنافهم وتلاوينهم. واللجام هو الإمساك تمامًا عن تجاوز النصوص الشريفة بتأويلٍ أو بتساهلٍ في القول بظهور إطلاقٍ أو عمومٍ، ثُمَّ الإرجاع إلى أحدهما بتسرُّعٍ وبُعدٍ عن جادَّة الاحتياط المَأمُورِينَ بِالتِزَامِها لا سيَّما في عصور غيبة إمامنا (عليه السَّلام). ومِن موارد الإلجام قَصْرُ النَّظر على فهم ما وقع منهم وما قالوه عن أنفسهم (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، والإعراض عن غير ذلك مِمَّا يقع في دوائر الإمكان ويكون محلًّا للجدل والقيل والقال بين نفس المؤمنين الثابتين على الولاية، المُقرين بمقامات أهل البيت (عليهم السَّلام).
روى شيخنا الكليني (رحمه الله) بسنده عن أبي بصير، قال: "قَالَ[34] لِي: إِنَّ اَلْحَكَمَ بْنَ عُتَيْبَةَ مِمَّنْ قَالَ اَللَّهُ (وَمِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَبِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَمٰا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) فَلْيُشَرِّقِ اَلْحَكَمُ وَلْيُغَرِّبْ؛ أَمَا وَاَللَّهِ لاَ يُصِيبُ اَلْعِلْمَ إِلاَّ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ نَزَلَ عَلَيْهِمْ جَبْرَئِيلُ".
تنبيه:
لا يُتصوَّرُ مُؤمِن يضمر في نفسه الغلو قبل أن يُغالي، ولا التقصير قبل أن يُقصِّر؛ ولكنَّها مطاحنُ مِن نارٍ تقود لها مقدمات مِن طبيعتها التصاقها الشديد بالدين وعلى وجه الخصوص الجانب العقدي منه، ولكنَّها ليست من الدين!
على المؤمن الشدَّة في الاحتراز من محدثات الأمور، وأخطرها ما تجاوزت نقطة الحدوث وأمست اليوم في عرف النَّاس مِن الدين، بل قد يقال من الأصول!
روى شيخنا النعماني (رحمه الله) بسنده عن الحارث بن المغيرة النصري، عن أبي عبد الله (عليه السَّلام)، قال: "قُلْتُ لَهُ: إِنَّا نُرَوَّى بِأَنَّ صَاحِبَ هَذَا اَلْأَمْرِ يُفْقَدُ زَمَانًا، فَكَيْفَ نَصْنَعُ عِنْدَ ذَلِكَ؟
قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): تَمَسَّكُوا بِالْأَمْرِ اَلْأَوَّلِ اَلَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يُبَيَّنَ لَكُمْ"[35].
عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا الأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: سَمِعْتُه يَقُولُ: "مَنْ سَرَّه أَنْ يَسْتَكْمِلَ الإِيمَانَ كُلَّه فَلْيَقُلِ الْقَوْلُ مِنِّي فِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ قَوْلُ آلِ مُحَمَّدٍ فِيمَا أَسَرُّوا ومَا أَعْلَنُوا، وفِيمَا بَلَغَنِي عَنْهُمْ وفِيمَا لَمْ يَبْلُغْنِي"[36].
والحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على النبي الأكرم محمَّد وآله الطاهرين.
السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي
21 من شهر رمضان 1446 للهجرة
البحرين المحروسة
........................................
[1] - الأمالي -الطوسي- ج1 ص650.
[2] - قال ابنُ منظور: "الزط هم جيل أسود من السند إليهم تنتسب الثياب الزطية" (لسان العرب، ج7 ص308). وقيل: هُم جنسٌ مِن السودان والهنود.
[3] - الكافي -الكليني- ج7 ص259.
[4] - اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) – ج1 ص72.
[5] - سورة الزمر: 3.
[6] - تفسير القمي -علي بن إبراهيم- ج2 ص245.
[7] - سورة التوبة: 30.
[8] - سورة المائدة: 55.
[9] - عوالي اللئالي – ابن أبي جمهور الأحسائي- ج4 ص102.
[10] - سورة الرحمن: 33.
[11] - سورة الإسراء: 36-37.
[12] - سورة القصص: 38.
[13] - سورة غافر: 36-37.
[14] - قصص الأنبياء -الجزائري- ج1 ص74.
[15] - سورة نوح: 21-24.
[16] - كمال الدين وتمام النِّعمة -الصدوق- ج1 ص206.
[17] - المصدر السابق ص207.
[18] - الكافي -الكليني- ج2 ص75.
[19] - الكافي -الكليني- ج1 ص342.
[20] - الغيبة -النعماني- ج1 ص144.
[21] - كمال الدين وتمام النِّعمة -الصدوق- ج1 ص237.
[22] - قال شيخنا المجلسي: "(فيمن هذا؟) الاستفهامُ للتقليل؛ أي العمل بآدابهم المثبتة في قلوب الناس ليس إلَّا في قليلٍ منهم، ولهذا؛ أي ولقلَّة ما ذُكر ينقبض العلم و تقلُّ الحَمَلَةُ". (مرآة العقول -المجلسي- ج4 ص49).
[23] - العلماء هو محمَّد والأئمة الهداة (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).
[24] - الكافي -الكليني- ج1 ص339.
[25] - الأمالي -الطوسي- ج1 ص414.
[26] - قال شيخنا المجلسي: "قوله (عليه السَّلام): "لبيك يا جعفر بن محمد"؛ الظاهر إنَّ هذا الكافر كان من أصحاب أبي الخطَّاب، وكان يعتقد ربوبيته (عليه السَّلام) كاعتقاد أبي الخطَّاب، فإنَّه كان أثبت ذلك له (عليه السَّلام)، وادَّعى النبوةَ مِنْ قِبَلِهِ (عليه السَّلام) على أهل الكوفة، فناداه (عليه السَّلام) هذا الكافِرُ بِمَا يُنَادَي به اللهُ في الحجِّ، وقال ذلك على هذا الوجه". (مرآة العقول -المجلسي- ج24 ص158).
[27] - أجمع علماءُ المسلمين مِنَ الخاصَّة والعامَّة على غلوِّه وكفره، وكونه من المُجسِّمة، وقد قُتِل لادِّعائه النبوَّة.
[28] - اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي)، ج1 ص225.
[29] - بصائر الدرجات -الصفَّار- ج1 ص524.
[30] - سورة الزخرف: 84.
[31] - سورة المؤمنون: 51.
[32] - الكافي -الكليني- ج1 ص249.
[33] - الغيبة -النعماني- ج1 ص67.
[34] - المقصود هو الإمام الباقر (عليه السَّلام)، لِمَا رواه العياش في التفسير عن أبي بصير، قال أبو جعفر (عليه السَّلام): "إِنَّ اَلْحَكَمَ بْنَ عُتَيْبَةَ، وَسَلَمَةَ، وَكَثِيرَ اَلنَّوَّاءِ، وَأَبَا اَلْمِقْدَامِ، وَاَلتَّمَّارَ؛ يَعْنِي سَالِمًا.. أَضَلُّوا كَثِيرًا مِمَّنْ ضَلَّ مِنْ هَؤُلاَءِ اَلنَّاسِ، وَإِنَّهُمْ مِمَّنْ قَالَ اَللَّهُ (وَمِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَبِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَمٰا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)، وَإِنَّهُمْ مِمَّنْ قَالَ اَللَّهُ (أَقْسَمُوا بِاللّٰهِ جَهْدَ أَيْمٰانِهِمْ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خٰاسِرِينَ)". راجع: تفسير العيَّاشي، ج1 ص326.
[35] - الغيبة -النعماني- ج1 ص159.
[36] - الكافي -الكليني- ج1 ص391.