لكل جيش في العالم راية لها البعد المعنوي والرمزي فوجود الراية في الميدان خفاقة تعطي الجندي القوة والصلابة والاستمرار في مكافحة العدو، والراية المرفوعة في ميدان القتال ترمز إلى بقاء الجيش وتماسكه وعدم سقوطه.
لهذا فإن في الحروب يركز على إسقاط هذه الراية لكسر شوكة الطرف المقابل والتسريع في هزيمته، ولذا عندما تقرأ عن غزوة مؤته والتي أمر الرسول صلى الله عليه وآله ثلاثة من أشجع المؤمنين على جيش المسلمين وهم جعفر بن أبي طالب زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة ولما "التقى الناس واقتتلوا قتالا شديدا، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم. ثم أخذها جعفر بن أبي طالب[1]" و "أخذ اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل رضي الله عنه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء[2]" ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فنكل يسيرا ثم حمل فقاتل حتى قتل، فلما قتل انهزم المسلمون أسوأ هزيمة كانت في كل وجه، ثم تراجعوا فأخذ اللواء ثابت بن أقرم وجعل يصيح: يا للأنصار، فثاب إليهم منهم قليل، فقال لخالد بن الوليد: خذ اللواء يا أبا سليمان، قال خالد: لا بل خذه أنت فلك سن وقد شهدت بدرا، قال ثابت: خذه أيها الرجل فوالله ما أخذته إلا لك، فأخذه خالد و حمل به ساعة وجعل المشركون يحملون عليه حتى دهمه منهم بشر كثير، فانحاز بالمسلمين وانكشفوا راجعين.
قال الواقدي، وقد روي أن خالدا ثبت بالناس فلم ينهزموا، والصحيح أن خالدا انهزم بالناس[3]"
إذا للراية دلالة كبرى في الجيش لا يعين بها صاحبها إلا أن يكون متميزا فيهم ولهذا نجد أن الحروب التي يخوضها رسول الله صلى الله عليه وآله وبجانبه أمير المؤمنين عليه السلام كان يعطيه رايته، وهكذا نجد أن الحسين عليه السلام في صبيحة يوم العاشر "عبأ أصحابه بعد صلاة الغداة، وكان معه اثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلا، فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه، وحبيب بن مظاهر في ميسرة أصحابه، وأعطى رايته العباس أخاه[4]"
هذه الراية بحسب الظاهر أنها قد سقطت ولهذا اعتقد جيش بني أمية أنهم قد انتصروا إلا أنهم قد أغفلوا أنهم أسقطوا الراية ورفعوا الرؤوس عاليا وكان الحسين عليه السلام على رمح طويل الذي هو أسمى علامة في الرفعة من الراية فدلالة الغفلة أنه برفع الراس يكون الحسين منتصرا لأنه يكون شاهدا وشهيدا بما هو أعلى دلالة من رفع الراية.
وقد غفلوا بأن الراية قد تسقط في لحظات الحرب وتكر مرتفعة فإذا حددنا الحرب بالقطعة الزمانية القصيرة فقياس النصر والهزيمة تقاس بذلك الزمان ولكن الحسين لم يخرج لإيقاع نزال ذي قطعة زمانية ومكانية بل نزال مستمر باستمرار الوجود البشري على الأرض، وعليه فالراية تقاس في ارتفاعها باستمرار حياة البشر على الأرض، والذي نعاينه أن هذه الراية كلما مر الزمان ترتفع وترتق فدلالة الراية هي دلالة الإصلاح والتغيير في الأمة وهذا الأمر لا يزال مستمرا فرايات الحسين عليه السلام خفاقة في كل مكان ومنابر الإصلاح والوعظ والإرشاد تنتشر في كل بقعة يوجد فيها ذكر للحسين عليه السلام، ولا يزال ذلك الذكر مرتفعا حتى يقوم خليفة الله في الأرض صاحب العصر والزمان عجل الله فرجه الشريف بنشر كل تلك الأهداف الرسالية والحسينية على تمام وجه الأرض، وهناك تبقى راية الحسين عالية أما بقية رايات الضلال فتزول وتسقط.
مالك محمد علي درويش
غرة محرم الحرام 1442 هـ
21 / 8 / 2020 م
.........................................
[1] سبل الهدى والرشاد - الصالحي الشامي - ج ٦ - الصفحة ١٤٨
[2] السيرة النبوية - ابن هشام الحميري - ج 3 - الصفحة 833
[3] بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 21 - الصفحة 62
[4] الإرشاد - الشيخ المفيد - ج 2 - الصفحة 95