مصعب بن عمير كان من شباب أهل مكة المنعمين والمترفين ولكن بريق المال والجاه لم يمنعه من معرفة الحق، فضحى بكل ذلك الجاه ليلتحق بطريق الهداية المحمدية فاختار الفقر على الغنى في سبيل الرسالة ولشدة حبه للنبي صلى الله عليه وآله لم يستطع أن يصبر على فراقه في هجرته للحبشة فرجع مرة أخرى لمكة كي يكون بالقرب من نور عشقه المحمدي..
هذه الشخصية الفريدة من نوعها والصلبة في إيمانها وتعلقها بالحق أصبح قلبها موضع الضياء للرسالة المحمدية ولهذا استحق مصعبا أن يكون سفيرا للرسول صلى الله عليه وآله في المدينة قبل الهجرة ليمهد الأرضية الصالحة لمقدم الرسول مع الرسالة.
نجح مصعب عليه الرحمة في أداء مهمته واستحق بكل جدارة أن يكون أول سفير في الإسلام. وهذه المرتبة ختمها بالشهادة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وروي أن النبي صلى الله عليه وآله "حين انصرف من أحد مر على مصعب بن عمير، وهو مقتول على طريقه، فوقف عليه فدعا له ثم قرأ: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا[1]﴾[2]" .
السفير هو الوسيط المصلح الذي يصلح أن يكون محل من أعطاه هذا المقام فيصلح في الأمة المبعوث لها كما لو كان الأصيل فيها فهو يطبق إرادته وأهدافه، فلذا من الأمور المهمة في شخصية السفير أن يكون عارفا تمام المعرفة بصاحبه الذي أعطاه هذا المقام بل لابد أن يكون في أعلى مراتب الوثاقة حتى يستطيع أن يوصل مبتغى مرسله بكل صدق وأمانه، وكذلك يجب أن يكون في أعلى مراتب التقوى والورع حتى يكون جاذبا للحق ومبعدا للباطل ويكون إشراقة النور عن صاحبه.
ولهذا فالسفير لا يتصور فيه أن تصدر منه الخيانة أو الجهالة وعدم المعرفة أو يكون محلا لنفرة الناس عنه.. نعم قد يطلق السفير على مطلق من يحمل رسالة موقعه ولكن هذا بعيد عن ما نرمي إليه فنحن نتكلم عن تلك المنزلة في التوسيط بين المعصوم وبقية الناس وبهذا يفرق عن الوكيل للمعصوم، فإن المعصوم لا يأخذ وكيلا عنه إلا إذا كان بحسب ظاهره للناس أمينا وثقة ولكنه قد يخون كما حدث ذلك لمجموعة من وكلاء الأئمة عليهم السلام كما الحال في وكلاء الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام علي بن أبي حمزة البطائني، و زياد بن مروان القندي، و عثمان بن عيسى الرواسي فقد أغراهم بريق المال الذي جمّعوه من الحقوق الشرعية فقالوا بالوقف حتى يختصوا بالمال ولا يوصلوها إلى الإمام من بعده علي بن موسى الرضا عليهما السلام.
والذي يظهر من الروايات أن السفارة لا تأتي بالطلب بل الإمام هو الذي يختار إليها من تنكشف عنده سريرته وباطنه، فقصة ذلك العالم الكبير ابن العزاقر المعروف بالشلمغاني مشهورة معروفة إذ كان يتطلع لأن يصل إلى منصب السفارة بعد وفاة السفير الثاني للإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف محمد بن عثمان العمري إلا أن التعيين من قبله روحي لمقدمه الفداء جاء إلى الحسين بن روح ولشدة حسده خرج من التشيع يقول عنه الشيخ النجاشي "محمد بن علي الشلمغاني، أبو جعفر المعرف بابن العزاقر، كان متقدما في أصحابنا، فحمله الحسد لأبي القاسم الحسين بن روح على ترك المذهب، والدخول في المذاهب الردية حتى خرجت فيه توقيعات، فأخذه السلطان، وقتله وصلبه"
من هنا يمكن أن نلقي الضوء على مكانة مسلم ابن عقيل سفير الإمام الحسين عليه السلام للكوفة فتكليفه بالسفارة في الكوفة يقوم بمقام الحسين دلالة على عظمته وعلو شأنه ففي رسالة التكليف جاء فيها "وأنا باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي، فان كتب إلي انه قد أجمع رأي احداثكم وذوي الفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وتواترت به كتبكم أقدم عليكم وشيكا إن شاء الله[3]"
إذ ليس من السهل أن يعبر الإمام عن شخص أخي وثقتي إلا أن يكون ذلك نابع من كشف سريرته فكلمة أخي هي نظير تعبير الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله في حق أمير المؤمنين بالأخوة. وهي تدل على نوع العشق الإلهي بينهما فمسلم كان يعشق الحسين عليه السلام فهو كل وجوده، وهذا أمر مشابه لتعلق مصعب بن عمير بالرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ومن حسن الخاتمة بالسفيرين أن الأول استشهد في أحد بعد خذلان الناصر برسول الله وهروب الجند فبقي رسول الله والنفر القليل ولكن مصعبا كان صادق الوعد وهكذا مسلم رأى بأم عينية خذلان أهل الكوفة وثبت على الحق حتى استشهد فكأن تأبين رسول الله صلى الله عليه وآله يهمس في أذن مسلم ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا ﴾ بدلالة الروية القائلة على لسان نبي الهدى صلوات الله عليه وآله "حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا[4]"
مسلم بن عقيل كان حجة على أهل الكوفة أجمعهم استمدها من حجية الإمام الحسين عليه السلام واستشهد في سبيل الحسين ومصعب حجة في أهل المدينة استشهد في سبيل الرسول صلى الله عليه وآله فسلام عليهما يوم ولدا ويوم يموتا ويوم يبعثان حيا.
والحمد لله رب العالمين
مالك محمد علي درويش
2 محرم الحرام 1442 هـ
22 / 8 / 2020 م
.............................................
[1] الأحزاب-23
[2] البداية والنهاية - ابن كثير - ج 4 - الصفحة 51
[3] مناقب آل أبي طالب - ابن شهر آشوب - ج 3 - الصفحة 242
[4] الإرشاد - الشيخ المفيد - ج 2 - الصفحة 127